رقم رهيب ذلك الذي أعلنت عنه المفوضية السامية بجنيف أول أمس . رقم، له دلالات متعددة كما للمنتظم الدولي مسؤوليات تجاهه، وبالأخص دول القارة العجوز الملتئمة تحت الاتحاد الأوروبي . الرقم يتعلق بعدد الضحايا الذين ابتلعهم البحر الأبيض المتوسط وهم يحاولون العبور إلى ضفته الشمالية. لقد ابتلع هذا البحر أكثر من 10 آلاف شخص منذ سنة 2014 ، أي بمعدل يفوق ثلاثة آلاف في السنة. ويبدو أن سنة 2016 مرشحة لتسجيل المزيد من الضحايا الذين راودهم حلم الوصول إلى الدول الأوربية المشاطئة للمتوسط . إن الجثث التي ابتلعها البحر، هي جزء من مئات الآلآف الذين ركبوا قوارب الموت، ووضعوا حياتهم على أكفهم وغامروا بها، ليصيغوا إحدى أكبر مآسي التاريخ، ليحول جزء منهم بياض بحر إلى جثث تلاشت معالمها، واندثرت أشلاؤها إلى الأبد . منهم هؤلاء الذين وهبوا مصيرهم إلى مافيات التهريب والمتاجرة بالبشر؟ إنهم الفارون من جحيم حروب وإخفاق لمشاريع التنمية . هم بشر حاصرهم الاقتتال وتم تدمير بيوتهم، وانقطعت بهم سبل العيش اليومي، وهم الذين ضاقت بهم أرض بلدانهم بسبب الفقر وفشل سياسات تنموية بسبب الفساد. وفي الحالتين معا، حالة الحرب، وحالة الفقر، نجد مسؤولية دول الغرب بحكوماته وشركاته وسياساته التي ساهمت في نهب الخيرات الطبيعية لبلدان الجنوب وفي تأجيج صراعاتها لتحويلها إلى أسواق أسلحة ... وهاهي المافيات المتعددة الجنسيات تنفذ اليوم أجندة نهب الخيرات البشرية لهذه البلدان، حيث تهربها بطرق لا إنسانية مأساوية لتستغلها في قطاعات الزراعة وفي تعويض الخصاص السكاني الذي يتسع مداه سنة بعد سنة، في أكثر من نصف دول الاتحاد الأوربي. ولم يعد خافيا على أحد اليوم، عمليات الانتقاء التي تستهدف الكفاءات والأطر المهجرة قسرا . إن أوروبا اليوم، تبحث عن حلول لمستقبل أجيالها، وهي حلول بطعم جثث أبناء الجنوب وبمآسيهم . فبدل أن تستند سياساتها إلى الشفافية والوضوح، هاهي كتجمع إقليمي أو كقُوى اقتصادية، تمارس خطابا مزدوجا تؤثث جزءا منه بتوابل إنسانية، وهي في حقيقة الأمر تضع أعينها على مئات الآلآف من اليد العاملة التي تحتاجها دوراتها الاقتصادية وأوضاعها الاجتماعية المقبلة. لقد قدمت أحزاب ومنظمات، ومنها الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، مقاربات وحلولا لظاهرة الهجرة، وطالبت بوضع ميثاق واضح المضامين جلي الرؤيةِ، يتأسس على البعد الإنساني من جهة، وعلى البعد التنموي من جهة ثانية ، لكن لم تجد هذه النداءات آذانا صاغية لدى المعنيين بالأمر . إن أوروبا بمسؤولياتها هاته، تبني جسورا من الجثث، كي يعبُر منها المهاجرون الذين هي بحاجة إليهم، وفي ذلك أبشع مظاهر الاتجار بالبشر، وأفظع استخفاف بالروح الإنسانية .