بمناسبة الدورة العشرين للمعرض الدولي للكتاب والفنون التي احتضنتها طنجة من 4 إلى 8 ماي الجاري، أجرى المحلل النفساني والكاتب جليل بناني حوارا مع الأستاذ محمد برادة، نشره موقع «Le site info». نظرا لأهمية الحوار الذي تزامن مع صدور طبعة جديدة مزدوجة اللغة ل»أربع ساعات في شاتيلا» مصحوبة بحوار مع ليلى شهيد، نقدم ترجمته إلى قراء الملحق. o محمد برادة، نشرت مؤخرا، لدى دار النشر «مكتبة الأعمدة» بطنجة، ترجمة نص جان جونيه «أربع ساعات في شاتيلا» إلى العربية. متى قمت بهذه الترجمة أول مرة؟ n في سنة 1982، عقب عودته من بيروت رفقة زوجتي ليلى شهيد، حيث كان شاهدا على مجزرة شاتيلا، كان جان جونيه مضطربا. اختفى طيلة أسابيع، وبعدها حضر إلى المغرب، كما كان يفعل ذلك كثيرا، قصد زيارتنا. سلم لليلى نصا يضم حوالي عشرين صفحة، نصا لم يكن سوى «أربع ساعات في شاتيلا». قال لها: «ليلى، افعلي به ما تشائين.» فأجابته: «سأنشره في مجلة الدراسات الفلسطينية». قبل الإقدام على النشر، سلمتني ليلى النص لقراءته. تملكني التعجب لأن جونيه ظل طوال عشرين سنة منشغلا بالفعل السياسي، دون أن يكتب شيئا منذ سنوات 58- 60. قرأت النص فقلت لنفسي: «هذا ليس نصا حول الفلسطينيين فحسب، بل هو نص يعلن عن عودة جان جونيه للكتابة.» لما سألني جان عن رأيي في النص، أجبته: «إنها حكاية جيدة، هذا أنت، إنك تتحدث عن نفسك، أجل، هي إعلان عودة، جميع عناصر مؤلفاتك حاضرة فيها: مديح الجمال، التأملات حول الموت، الكتابة المتقنة الحبلى بالاستعارات ودقة الوصف، العناصر هذه برمتها حاضرة.» وبالفعل، فهي ذي مميزات كتابة جونيه. نص «أربع ساعات في شاتيلا» ليس نصا سهلا، ذلك أنه يشمل عدة أجناس: الريبورتاج، الوصف الروائي، التأملات التي تقودن بعيدا واسترجاعات الذاكرة... إنه نص كلي... قلت له: «إنك حين تتحدث عن الأردن، فأنت تتحدث عن نفسك، عن علاقتك بالنساء الفلسطينيات...» بعيد هذا سألته: «هل تسمح لي بترجمته؟» رد علي: «النص لم يعد ملكي، اطرح السؤال على ليلى.» فكرت في مدى أهمية النص بالنسبة لمجلة محمود درويش، «الكرمل». بعثت ترجمتي للأخير فاجتاحه الفرح. هكذا، نشر نص «أربع ساعات في شاتيلا» أول مرة على صفحات «الكرمل» سنة 1983، قبل أن ينتشر منذ ذاك. حيث أعيد نشره من قبل مجلات عربية كثيرة في مصر ولبنان وسوريا، واقتبس عدة مرات ليعرض مسرحيا، مثلما حصل مع ثورية جبران وزوجها اللذين عرضاه على الركح في الدارالبيضاءوالرباط. وقد خلف النص صدى فوريا في فرنسا. والأهم، وهذا معطى من اللازم تسجيله، هو أن «أربع ساعات في شاتيلا» سيشكل نواة كتاب جونيه اللاحق «أسير عاشق»، وإذا لم تخني الذاكرة، فالمؤلف الأخير يتضمن مقاطع كاملة من النص الأولي. o هذا أحيى إذن الكتابة لدى جونيه... n تتميز طريقته في الكتابة بكونها كتابة ذاكرة وكتابة أفقية، تشخيصا ذا علاقة مع مجموعة من الذكريات. o كان قصد جونيه سياسيا، لكنه لم يتخلص من طبيعته ككاتب... n لا. لا أعتقد ذلك. وحواراته المنشورة ضمن كتابه «العدو المعلن» تبرز بجلاء إستراتيجيته إزاء الكتابة. إنه لا يبتغي الكتابة للزعم بأنه سيغير الأمور. بل إن الجمال والألمعية والذكاء هي التي تحظى بالأولوية لديه، والوقع الفوري لكتاباته أمر لا يهمه. «أربع ساعات في شاتيلا» و»أسير عاشق» ليسا كتابين حول فلسطين، بل هما كتابة. o أشرت إلى السياسة لأنه نما إلى علمي أنه كان مناصرا للفلسطينيين نظرا لكونهم مقموعين، ومن ثمة فلم يكن أمامه خيار آخر غير الانتصار لقضيتهم! n دون أن ننسى أنه قال: «لأنني أحبهم.» o بل قال أيضا: «هل كنت سأحبهم لو لم يكونوا مقموعين؟» n أجل، بالفعل! بكل تأكيد. o وهذا موقف سياسي بامتياز! n ثمة بعد المتعة الذي يجب أخذه بعين الاعتبار. وهذا البعد هو ما يولد الالتباس، ومن ثمة تعدد التأويلات الممكنة، وهذا ما يجعل منه كاتبا عملاقا. o لقد عرف النص وترجمته الانتشار إلى حين صدور طبعة «مكتبة الأعمدة» الحالية. لماذا هذه الطبعة الآن بالضبط؟ n لأنها طبعة مزدوجة اللغة، مرفقة بحوار مطول مع ليلى شهيد التي صاحبت جونيه إلى بيروت وفسرت له الكثير من الأمور، من ضمنها أمر يستحق التحليل والتأمل: خلال زياراته لنا في الرباط، كان جونيه شديد الاهتمام بالتطريز الفلسطيني، وخاصة رسوماته. وتزعم ليلى، وهي صادقة ربما في زعمها، أنه كان، أثناء وجوده ببيروت، يستغرق في النقاش حول هذا الموضوع مع والدتها التي كانت قد فتحت مركزا للطرز الفلسطيني. وتعتقد ليلى أن أسلوب كتابة «أسير عاشق» يشبه هذا التطريز بفعل تعاقب الأشكال المرسومة التي تتغير ثم تعود إلى أصلها. ومن اللازم أيضا التأكيد على الأهمية التي حازها نص «أربع ساعات في شاتيلا» مسرحيا، حيث إنه عرض على خشبة مسرح لوهافر وبعدها مسرح الأوديون الباريسي، ولقي نجاحا باهرا. o تتمثل راهنية الطبعة الحالية في احتوائها على المقابلة مع ليلى شهيد، وهو أمر غير مسبوق... n أجل. بالإضافة إلى كونها مزدوجة اللغة. o إنها أول طبعة يتجاور ضمنها النصان باللغتين العربية والفرنسية. وقد قمت بترجمة هذا النص الجميل محافظا على الطابع الأدبي والشعري لعودة جونيه هذه إلى الكتابة. ما الصعوبات التي واجهتك وأنت تترجم جونيه؟ n تكمن الصعوبة، خلافا لما قد يعتقده البعض، في كون لغة جونيه الجميلة لغة جد دقيقة. فالصور والاستعارات تحتل أحيانا حيزا كبيرا. وفي العديد من الأحيان، كانت جمل مارسيل بروست الطويلة والدقيقة إلى أقصى حد ممكن تحضرني. لذا، كنت مجبرا في بعض الأوقات، بالنسبة للترجمة العربية، على قطع بعض الجمل، لكنني حرصت على أن أظل جد قريب من النص الأصلي. وبالرغم مما سلف، فإنني أعتقد أنه من حق المترجم إعمال قدراته وملكاته ككاتب لتفادي اقتراح ترجمة فجة. o ضوء الترجمة الأخضر الذي أعطاه إياك جونيه، يمنحك شرعية وحرية إزاء نصه. لكنني أفترض أن ترجمة هذا النص كانت أكثر صعوبة من ترجمة نصوص كتاب آخرين... n أجل، هذا صحيح. لقد اشتغلت ببطء، استعنت أحيانا بأصدقاء وأقدمت على مراجعة الترجمة مجددا قبل إعادة نشرها اليوم. ومن المفيد التذكير كذلك بأنني ترجمت، في سنة 2003، كتاب جونيه «مرسم جياكوميتي»، وهو مؤلف أساسي في اعتقادي. o بما أنك ترجمت النص قيد حياة جونيه، فهل تحدثت معه عن انتقاء الكلمات، عن تردداتك؟ n لا، لأن جونيه لم يكن يحب الحديث عن الأدب. حاولت النقاش معه حول الموضوع، غير أني استشعرت تحفظاته. أظننا كنا في العرائش حين سألته: «لماذا بدأت في الكتابة، لماذا اخترت أن تكتب؟» وأتذكر رده: «في سن السادسة عشرة، لما أدركت أنني لا أستطيع تغيير العالم، قررت أن أكتب.» o إلى أي حد لا يزال هذا النص ذا راهنية؟ n هو أثر مكتوب نستطيع قراءته على أساس كونه عملا أدبيا، وهذا لا يمنع من أن نجد فيه شهادة. هو نص يتجاوز السياق الظرفي الذي ألف في رحمه لأنه يتميز بملكة تضمن أبعاد أخرى من خلال أحداث مأساوية، تراجيدية. فمثلما هو الحال بالنسبة لإحدى روايات دوستويفسكي أو لرواية كاتب كبير آخر، فجونيه يكتب دون إعارة كثير اهتمام للظرفية، وهنا تكمن أهمية النص... النص يتعلق بالماضي، لكنه يتعلق أيضا بالحاضر. وربما بالمستقبل كذلك بالنسبة لنا نحن، نظرا للمجازر المرتكبة حاليا في العالم العربي برمته. * راهنية النص تتجسد في الوحشية، اللا إنسانية، الاستغلال، الفظاعات... o أجل، وهي ظواهر لا تزال تسائلنا. إنه نص لم يفقد مقدار ذرة من راهنيته. n الكاتب، الشاعر، هو من يعبر أقوى عن الأشياء، غير أن حدسه يكون تنبؤيا في الكثير من الأحيان. لقد عاين جونيه الفظاعات: «لا أستطيع تغيير العالم، ولذا فأنا أكتب.»... ومع ذلك، فتزامنا مع تأكيده عدم الانشغال بالسياسة الظرفية، فإنه كان يبدى حسا سياسيا جد عميق. فتدخلاته في الحياة السياسية تكشف عن ذكاء استثنائي! لنتذكر في هذا الإطار على سبيل المثال تدخلاته حول حركة ماي 68 في فرنسا، الفهود السود في الولاياتالمتحدة، الفلسطينيين، الألمانيين... لقد كان يتدخل، كيفما كان المكان، انطلاقا من تصور عام للعالم، وضد عالم يعتبر خاطئ التشكيل، ولأنه تعرض للمعاملة السيئة وللتهميش. إننا نلاحظ نجاحه الفعلي في أن يظل منسجما في جميع مواقفه، دون الخضوع للشروط السياسوية أو لتصورات الآخرين. لقد كان يرتاب من الإيديولوجيات المجردة. o كيف تفسر، وقد كنت عميق المعرفة به، ارتباطه بالمغرب، إلى درجة التوصية بأن يدفن في ترابه؟ هل لعوامل ذاتية، رغم أن الأمر يتجاوز ذلك بكل تأكيد؟ n بحبه المتعدد الأوجه. كما أنه كان له بعض الأصدقاء والعلاقات في المغرب. o هل المغرب، بصفته بلدا عربيا والحدود الشمالية بين قارتين، هو ما كان يجذبه؟ لقد طلب بأن يدفن في العرائش، في المنطقة المتوسطية... n بنى جونيه منزلا في العرائش أهداه إلى صديقه محمد القطراني. وقد حكى لي أن القطراني، وهو إنسان ذو مستوى ثقافي بسيط لكنه مرهف الحساسية، قال له: «شكرا جان، جعلتني أسكن منزلا يشبه عالم رواياتك. فالمقبرة يمينا، السجن غير بعيد يسارا، وهناك البحر...» لكن جان لم يكن شخصا عاطفيا، إذ جعلته قسوة التجارب التي عاشها واضح الرؤية بدرجة كبيرة. o لم يكن يؤمن بطيبة العالم... n لا، إطلاقا! o هل بإمكاني أن أطلب منك التحدث قليلا عن نفسك؟ ما هي مشاريعك؟ n نشرت روايتي «حيوات متجاورة» مترجمة ضمن منشورات «أكت سود» في سنة 2013، أما عملي الروائي «بعيدا من الضوضاء قريبا من السكات» فهو قيد الترجمة. وإذا كنت قد شرعت في كتابة رواية جديدة، فإنني توقفت عن كتابتها منذ خمسة شهور وأنا بصدد العودة إلى الاشتغال عليها خلال الصيف. وهي نص أوليه أهمية خاصة، علما أنني أشتغل أفضل صيفا، وسأسعد لو تمكنت من إنهائها هذه السنة. o هل تأتي باستمرار إلى المغرب؟ n أنا مقيم في أوزيس، لكنني أزور المغرب، والرباط في أغلب الأحيان، مرتين أو ثلاث مرات في السنة، وخاصة حين تتم دعوتي. كما أقضي سنويا شهرين أو ثلاثة أشهر في بيروت.