قرن من الزمن مر على توقيع اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية بين بريطانياوفرنسا والتي قسمت من خلالها القوتان مناطق النفوذ بينهما في المنطقة العربية. ومع استذكار هذه الاتفاقية، تثار تساؤلات عديدة في معنى الجغرافيا اليوم، وعلاقة القوى العربية والإقليمية والدولية ببعضها البعض من خلال البصمة الجيوسياسية التي تركتها الاتفاقية إلى حدود هذه الأيام، فقد تغيرت شروط القوة في العالم، وتغير معها فهم التاريخ. منذ اندلاع الاضطرابات في 2011، ومع وصولها ذروتها بظهور تنظيم الدولة الإسلامية ودخول دول رئيسية في منطقة الشرق الأوسط مرحلة الانهيار السياسي والأمني والفوضى الطائفية، في السنوات التي تلت، تعدّدت التفسيرات والقراءات لهذه الأحداث، بين مستحضر لنظريات صراع الحضارات وتصادمها، ومتحدّث عن الفوضى الأميركية الخلاّقة التي بدأت ملامحها تتشكّل منذ 2003 في العراق، ومذكّر باتفاقية سايكس بيكو، التي سطّرت منذ قرن من الزمن حدود الشرق الأوسط الحديث. وهناك أيضا قراءات أخرى يبدو بعضها أقّل واقعية من القراءات السابقة، وبعضها الآخر مستمدّ من الخلفيات الدينية، وهي تلك التفسيرات والتنبؤات التي تتعلق بحديث البعض عن نهاية العالم. ويقول خبراء إن الربيع العربي الذي نجح في تغيير أنماط الحكم في بعض الدول العربية ليس استجابة لشروط جديدة على المستوى الدولي سوف تؤدي بشكل أو بآخر إلى تقسيم ثان أكثر ضررا للوحدة الجغرافية والحضارية الممتدة من موريتانيا إلى العراق، وهي المنطقة العربية. فالاحتلال الأميركي للعراق وتحويله إلى مساحة للاقتتال الطائفي، وهما صورة الصراع البدائية جدا، والأمر نفسه بالنسبة إلى سوريا الآن، والدعوات التي تظهر أحيانا في منطقة المغرب العربي إلى استقلال الأمازيغ والادعاء بالمظلومية القومية، كل هذه المظاهر تؤكد أن سايكس بيكو ليست مجرد اتفاقية، بل هي منهج حربي ودبلوماسي غربي مع المجال العربي. ومن بين كل التفسيرات السابقة، تأخذ القراءة المتعلّقة باتفاقية سايكس بيكو نصيب الأسد، ويعتبرها بعض الخبراء والمحلّلين أنها رابط بين بقية التفسيرات والقراءات المطروحة؛ فالاتفاق السري الذي وقّعه البريطاني مارك سايكس والفرنسي فرانسوا جورج بيكو في 16 مايو 1916، صاغ اللبنة الأولى لكل ما يشهده الشرق الأوسط اليوم من أحداث وتداعيات ذلك على بقية العالم. وليس هناك مكان تتجسد فيه الأزمة أكثر من سورياوالعراق وهما الدولتان اللتان خط سايكس وبيكو حدودهما بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى وتشهدان اليوم أكثر صراعات المنطقة دموية، ومنهما انطلق أكبر تهديد إرهابي متمثل في تنظيم الدولة الإسلامية، وفيهما استيقظت نيران الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة؛ وبدأت إيران الفارسية مشروعها التوسعي لإقامة الهلال الشيعي. قسّمت اتفاقية سايكس بيكو الهلال الخصيب، وحصلت فرنسا على سوريا ولبنان ومنطقة الموصل في العراق، بينما ترك العراق، وتحديدا بغداد والبصرة، وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية في سوريالبريطانيا. وتقرر أن تقع فلسطين تحت إدارة دولية يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانياوفرنسا وروسيا. لكن الاتفاق نص على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا على أن تكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا، ومنحت فرنسالبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الإسكندرونة الذي كان سيقع في حوزتها. عقدة العثمانيين الجدد في تقييمه لنتائج اتفاقية سايكس بيكو على الشرق الأوسط، رأى الباحث التركي طيار آري أن المنطقة دفعت إلى مرحلة جديدة تستهدف تقسيمها إلى أجزاء أصغر دون الاهتمام بإرادة شعوب المنطقة، مشيرا إلى أن «التطورات الراهنة في المنطقة تدفع إلى التساؤل هل هذا يمهّد الطريق لتحديث الاتفاق». ويعتبر الشعور بالضغينة الذي يكنّه الأتراك (العثمانيون بالأساس) لمعاهدة سايكس بيكو محركا أساسيا لسياسة أنقرة الخارجية تحت حكم رجب طيب أردوغان، رغم أن الجمهورية التركية العلمانية التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك في 1923 قطعت العلاقات بين الدولة التركية وتاريخها العثماني الذي شهد في أوجه بسط الباب العالي سلطته على أراض تمتد من أبواب فيينا إلى خليج عدن. ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية الإسلامي إلى السلطة في 2002 تبنت تركيا سياسة خارجية طموحة في محاولة لاستعادة مكانتها في أراضي الامبراطورية السابقة، لكن، مخطّطات العثمانيين الجدد تبعثرت وسط هزات أحداث الربيع العربي. إعادة الأمور يرى الباحث الفرنسي، جان بول شانيولو، أن «سايكس بيكو فرضت حدودا على الشعوب ويجب إعادة الأمور إلى نصابه»، لكن، رغم ما تتحمّله اتفاقية سايكس بيكو من مسؤولية عما يجري في المنطقة اليوم إلا أن الخبراء والمحللين يؤكّدون أن ما مرّ ويمرّ، من أحداث أمر قد يتكرّر بسهولة، إن لم يكن رصد هذه المتغيرات والأحداث وقراءة سياقاتها وأسبابها وتحليل خفاياها بالقدر اللازم من الوعي لإدراك الحدث في تأثيره وحسن التعاطي معه. واليوم، وفيما يمر قرن كامل على هذه الاتفاقية، يطرح التساؤل التالي: هل حقا كان سايكس بيكو أساس المصائب والهزائم العربية، أم أن المسؤولية يتحمّلها، وكما قالت الكاتبة الأميركية جينفير ويليامز، في ردّ ساخر على المسؤول المصري الذي أرجع تطرّف المتشدّدين وظهور تنظيم داعش، إلى العنف الذي تشرّبه أنصار هذا التنظيم عندما كانوا صغارا من خلال مشاهدة كارتون توم وجيري، المسؤولون العرب والأنظمة التي ما فتئت تلقي باللوم على الغرب لتحويل الاهتمام عن إخفاقاتها وتبرير تقصيرها؟ قد يبدو تشبيه المسؤول المصري مضحكا، وقد لا يبدو للوهلة الأولى أن لا علاقة بين هذا التشبيه، الذي كان يمكن أن يكون مضحكا في سياق آخر، وبين الحديث عن سايكس بيكو وتداعياتها في المنطقة على امتداد مئة سنة. ولكن، السياق الذي يجعل من قول السفير صلاح عبدالصادق، رئيس مصلحة الإعلام الحكومي المصري، إن توم وجيري سبب العنف والتطرف في العالم العربي، أمر محبط، هو نفسه السياق الذي يؤكّد أن سايكس بيكو جديدة قيد الرسم، ولو بقي العرب مبتعدين عن المنطق والواقع، مستمتعين بدور الضحية، فلن يكونوا شركاء في أي اتفاق قادم بشأن منطقتهم وحدودهم وأمنهم القومي، وسيجدون أنفسهم بعد قرن آخر، وربما أقل، تحت طائل أخطار وأزمات أكبر، خاصة وأن شبح التقسيم يخيّم على أكثر من بلد. العالم الجديد الأكيد أن مختلف القراءات والتفسيرات، وإن اختلفت في درجة واقعيتها وأهميتها، فإنه ومن خلال قراءة عقلانية وتاريخية لما حدث ويحدث في منطقة الشرق الأوسط والعالم عموما، منذ دخول الألفية الثالثة من تاريخ البشرية، يرجّح منطق الحديث عن نهاية «افتراضية» ل «عالم»، تشكّل جزء منه بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، فيما بني الجزء الثاني، بعد استقلال الدول الكبرى في المنطقة، وما عاشته من تحوّلات، بالتزامن مع تطور دول الخليج العربي، وتحوّلها إلى قوى نفطية؛ ثم نهاية الحرب الباردة. وبالعودة إلى كتب التاريخ التي تابعت كل فترة من تلك الفترات، نكتشف أن مصطلح «العالم الجديد»، يتكرّر مع نهاية كل مرحلة تاريخية ودخول شعوب العالم إلى مرحلة أخرى. ولو أخذنا على سبيل المثال ثورات الشعوب ضد المستعمر خلال القرن الماضي، نجد أن هذه المرحلة التي انتشرت فيها موجة تحرر الشعوب، سمّيت ب«العالم الجديد». وفترة ما بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثمّ الحرب الباردة أطلق عليها أيضا «العالم الجديد»، ونفس الوصف أطلق على مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وصعود نظام القطب الواحد الأمريكي. واستيعاب هذا التاريخ، وبلورته ضمن سياقاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ضروريان لتفسير ما حدث في دول الربيع العربي، وما يحدث اليوم في مواقف دول إقليمية، مثل المملكة العربية السعودية، التي بات من الواضح أنّها تقود المنطقة ليكون لها دور مختلف ضمن «العالم جديد»، في الوقت الذي بدا فيه أن التركيز الأميركي على محور آسيا ترك فراغا استراتيجيا. كما بدا واضحا أن دولا عربية عديدة بدأت تعتمد على نفسها بشكل متزايد في معالجة قضاياها، بمعزل عن الوصاية الأمريكية والأوروبية.