تعيش فرنسا مفارقة كبيرة. فاليمين المتطرف يوجد خارج مؤسسات القرار. لكن أفكار اليمين المتطرف الفرنسي أصبح لها تأثير كبير على القرار السياسي والإعلامي، وكذ على توجه الرأي العام، دون أن يصل حزب الجبهة الوطنية المعادية للأجانب إلى الحكم. كل الاستطلاعات والدراسات للرأي، التي تجري بفرنسا، أصبحت تعكس هذه الوضعية، وتبين هيمنة الأفكار المحافظة والخوف من كل ماهو أجنبي، والرغبة في إغلاق الحدود. بل الأكثر من ذلك، فإن أفكاره أصبح يتبناها جزء من الطبقة السياسية الحاكمة. وأصبح هذا الأخير يحتج لسرقة أفكاره العنصرية التمييزية. أهم أفكاره، والتي تم الاستحواذ عليها من طرف قصر الاليزيه، مشروع إسقاط الجنسية عن الفرنسيين من أصول أجنبية،من المتورطين في أعمال إرهابية أو إجرامية خطيرة. وهي الفكرة التي تبناها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولند مباشرة بعض التفجيرات الإرهابية التي شهدتها باريس في شهر نونبر الماضي أمام ممثلي الأمة دون أن يتوفق في إنجاز ذلك. هذا المشروع، لإسقاط الجنسية، الذي رغب الرئيس في إدخاله إلى الدستور لكنه لم يتحقق، وتم إسقاط هذا المشروع في تجاذب سياسي بين الغرفة الأولى والثانية بين اليمين وبين اليسار، هذا المشروع القانوني التمييزي، هو أحد أهم أفكار اليمين المتطرف الفرنسي الذي يعتبر الميز حتى بين الفرنسيين أحد أكبر مبادئه التي يدافع عنها لينافسه في ذلك رئيس اشتراكي. اللجوء إلى قيم اليمين المتطرف و الاستحواذ عليها لجأ اليها كذلك الرئيس السابق نيكولا ساكوزي، وقد أحدث وزارة للهوية الوطنية والهجرة، وجعل من نقاش الهوية الفرنسية ومهاجمة الأجانب أحد أهم مكونات سياسته، وعين إلى جانبه مستشار كان من أبرز مفكري حركة اليمين المتطرف الفرنسية وهو باتريك بويسون الذي انتهت علاقته بالرئيس السابق أمام المحاكم، حيث لم يتردد في تسجيل نقاشات الرئيس الخاصة من أجل استعمالها ضده في الوقت المناسب.إنها قيم اليمين المتطرف. أحد المؤشرات السيئة على سيطرة فكر هذا التيار المتطرف مؤخرا هي إلغاء حفل فني للفنان الفرنسي «بليك م» بمدينة فيردان بمناسبة الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى، وذلك بعد حملة قادها زعماء هذا التيار المتطرف منهم نائب مارين لوبين فلوريون فيليبو وماريون ماريشال لوبين عضو مجلس النواب مما دفع عمدة المدينة الاشتراكي إلى إعلان إلغاء هذا الحفل تحت تبرير مخاطر «المس بالأمن العام»، وذلك بعد الضغط الكبير الذي تعرض له العمدة في الشبكة الاجتماعية من طرف المتطرفين، حيت استعملت أخطاء سابقة للمغني حول انتقاده لفرنسا واستعماله كلمة بلد «الكفار» في إحدى أغانيه القديمة سنة 2010 ،الحملة بدأها اليمين المتطرف في مواقعه الاجتماعية وتبناها في الإعلام، قادته الرسميين في الجبهة الوطنية، ليلتحق بهم بعض أعضاء اليمين الكلاسيكي مثل الوزيرة السابقة لنيكولا ساركوزي نادين مورانو وكذلك ايرفي ماريتون، هذا الضغط دفع كتابة الدولة لقدماء المحاربين في بيان لها إلى التبرؤ من هذا الحفل الذي اعتبرته خارج الإطار الرسمي، رغم أن عمدة مدينة فيردان صرح بأن الحفل الغنائي كان بدعم من طرف الدولة. هذا الضغط الذي قام به اليمين المتطرف دفع عمدة اشتراكيي ومسؤولي الدولة إلى التراجع عن الحفل، الذي كان فنيا يهدف إلى تقريب جمهور جد شاب ومن أصول أجنبية إلى الاحتفاء بذاكرة نهاية الحرب. رغم أن المغني «بليك م» شارك جده في الحرب الأولى كمحارب سنيغالي إلى جانب الفرنسيين.لكن ذلك لم يشفع له حتى في تقديم حفل غنائي تم إلغاؤه رغم أن اليمين المتطرف لا يتحمل أي مسؤولية سياسية بمدينة فيردان. ترسخ أفكار اليمين المتطرف في المجتمع الفرنسي عكسته مواقفهم من اللاجئين السوريين أيضا. وهذه الصورة السيئة بفرنسا حول شعب أنهكته الحرب التي يقودها ضده من جهة النظام السوري بدعم روسي وإيراني من جهة أخرى تنظيم داعش .وهو ما يعني نجاح اليمين المتطرف في فرض تصورسلبي عن الهجرة. إعلان عمدة مدينتين صغيرتين فرنسيتين من اليمين الكلاسيكي لحزب ساركوزي، أنهما لن تقبلا إلا باللاجئين السوريين ذوي الديانة المسيحية ورفض الآخرين خاصة ذوي الديانة الإسلامية. هو موقف عنصري وتمييزي يتم التباهي به في الإعلام كأنه حق من حقوق الإنسان. مؤخرا أحد المنتخبين من اليمين المتطرف لمارين لوبين «اعتبر هو الآخر أن اللاجئين السوريين ليسوا بلاجئين، واعتبرهم مجرد «جبناء» و»فارين من الحرب» خاصة الذين تركوا أطفالهم ونساءهم بعين المكان. وقارن ذلك بفرنسا أثناء الحرب الكبرى، مدعيا أن الفرنسيين لم يتركوا بلدهم أثناء الحرب وقاوموا الاحتلال. وهو ادعاء خاطئ و كاذب. فأثناء الحرب الكبرى، وحسب المصادر التاريخية الفرنسية، فإن ما بين 9 و10 ملايين فرنسي فروا من مناطق الحرب من أجل البحث عن مناطق آمنة لهم ولأسرهم. هذه الحملة ضد اللاجئين السوريين تعكس موقف الرأي العام الذي يحرضه اليمين المتطرف بفرنسا حول خطر استقبال هؤلاء اللاجئين، الذي لم يبد تعاطفا مع الفارين من الحرب السورية، مثل ما وقع في ألمانيا التي استقبلت أكثر من مليون لاجئ وحدها، في حين أن فرنسا لم تستقبل رسميا أكثر من 5000 لاجئ، بل حتى السوريين أنفسهم يتجنبون اللجوء إلى فرنسا إلا العدد القليل الذي لا يعرف الوضع بهذا البلد الذي تحول من بلد منفتح على اللجوء ومتضامن مع ضحايا الحرب إلى بلد يخاف من كل ما هو أجنبي بل يتنكر لمبادئ فرنسا نفسها. هذه كلها نماذج من فرنسا حول سيطرة أفكار اليمين المتطرف على المجتمع والطبقة السياسية الحاكمة: سحب الجنسية من الأجانب، منع مغني أسود من الاحتفال بذكرى الحرب بفيردان والموقف السلبي وأحكام القيمة المسبقة ضد اللاجئين الذين وصل عدد جد قليل منهم إلى فرنسا ، ورغم ذلك تستمر حملة للإساءة إلى صورتهم ونعتهم بالجبناء.وهو ما يعكس موقفا معاديا للأجانب بصفة عامة. هذه الأجواء العدوانية بفرنسا ضد كل ما هو أجنبي يعكسها الإعلام ويساهم فيها بتحول جزء منه إلى بوق لهذه الأفكار المقربة من المتطرفين. أحد المعلقين ايريك زمور ( وهو كاتب فرنسي من أصل يهودي- جزائري) لم يتردد في القول والكتابة « إن حكومة فيشي المتعاونة مع النازية أنقدت اليهود الفرنسيين ولم تقدمهم للمحرقة إلا اليهود الأجانب ، هذا المعلق يشتغل بعدة قنوات إذاعية وتلفزية وبجريدة الفيغارو صرح أن المسلمين يشكلون خطرا على فرنسا في كتابه «الانتحار الفرنسي» وهو كتاب يغذي معاداة الإسلام، وحقق مبيعات كبيرة. بل لم يتردد في التصريح لأحد الجرائد الإيطالية بضرورة ترحيل المسلمين من فرنسا، كما رحلت النازية اليهود أثناء الحرب الثانية. وهي التصريحات التي جرت عليه متابعات قضائية.لكن رغم ذلك، فإن عدة وسائل إعلام كبيرة تستمر في احتضانه. فينكيل كروت وهو كذلك معلق إعلامي معاد للإسلام، كاد أن يصيبه الجنون في مختلف برامجه وتعليقاته الأخيرة في الإعلام، بسبب نجاح عمدة مسلم بمدينة لندن، وهو الأمر الذي لم يهضمه، واعتبره مؤامرة وتهديدا للغرب.ويعتبر من الكتاب الأساسيين الذين يغذون أفكار اليمين المتطرف والأفكار المعادية للإسلام على الخصوص. وقد تم طرده مؤخرا من طرف حركة «نوي دوبو» حيث أراد أن يشارك في النقاش الليلي مع الشباب بساحة لاريبيبليك، وهو الأمر الذي لم يقبله المشاركون في هذه التظاهرة، حيث تم طرده بشكل مهين. أصبح الخطاب السياسي لليمين المتطرف، يسيطر على النقاش السياسي ببلد فولتر، وأصبح مثار جدل ونقاش، خاصة بالخارج الذي لم يعد يفهم فرنسا، حيث أصبحت أفكار اليمين المتطرف تحكم هذا البلد رغم أنه حزب موجود بالمعارضة، وأصبح عدد ما يسمى بالمثقفين والمعلقين يدافعون وينشرون أفكاره بمختلف وسائل الإعلام الفرنسية، و تأثيره اليوم بارز على القرار والاقتراحات، وهو ما يتضح من الأمثلة التي تحدثنا عنها في السابق. كتاب المؤرخ شلومو صاند «نهاية المثقف الفرنسي، من زولا إلى هولبيك» يطرح هذا السؤال بحدة، ورصد هذا التحول نحو التطرف بفرنسا، وكيف كانت باريس ومثقفيها في الطليعة العالمية من أجل الدفاع عن عالم أفضل. وكانت باريس تستقطب المثقفين والفنانين من مختلف بقاع العالم من أجل هذه المعارك النبيلة. الجميع كان يحلم بباريسوبفرنسا. اليوم، حسب الكاتب الأمريكي أدام شاتز، أصبحت اللائكية تستعمل من أجل إحياء الخطاب الكولونيالي بفرنسا بل إن القادة الجدد بالجبهة الوطنية المعادية للأجانب وجدوا في اللائكية حصان طروادة من أجل إخفاء عدائهم للإسلام والأجانب. اليوم، الكل يتساءل كيف أصبحت فرنسا وطبقتها السياسية رهينة فكر اليمين المتطرف؟وهل هذا يعني أن قادته سوف يقودون باريس بعد أن سبقتهم أفكارهم إلى ذلك؟