إن التعامل في نسيج العلاقات على مستوى كل المجالات داخل المجتمع، يفترض ارتكاب أخطاء ومخالفات وجنح وجرائم، لأن المعني هو الإنسان، كان جانيا أم مجنى عليه. فالإنسان محكوم بالعيش داخل المجتمع حسب الضوابط والقوانين التي يشرعها الضمير الجمعي لهذا المجتمع، حيث يجب أن يدبر حرياته وإراداته وطموحاته بشكل يستحضر فيه أخلاقيا، الآخر، وقانونيا، ما قد يترتب عند المس بحرية واستقلالية الغير، أي يعدل عن فعل الممنوع، ويلتزم بما يمليه الواجب، وبالتالي فهو مسؤول عن أفعاله، ويشكل موضوع محاسبة، في إطار قانون يحمي قبل أن يعاقب ويسري على الجميع دون ميز ولا تمييز. وفي هذا الإطار فإنه لا يمكن استثناء فرد أو جماعة أو مجال من هذه القاعدة الكونية. فمثلا، أين يمكن تصنيف الوشاية الكاذبة وأفعال التشهير المجانية؟ حيث تشويه سمعة الأشخاص الذاتيين والمعنويين في غياب أدلة دامغة، والمس بكرامتهم وكرامة عائلاتهم، وما يترتب عن ذلك من أضرار مادية ومعنوية، يمكن أن تحول حياتهم ومستقبلهم على التوالي إلى جحيم وانهيار تام بفعل التهور أو سبق الإصرار بنية إلحاق الضرر تحت غطاء حرية التعبير في خدمة تنوير الرأي العام. الشيء الذي لا ينفع معه لا اعتذار ولا تكذيب ولا تعويض في إطار ما يسمى برد الاعتبار وجبر الضرر. يبدو أن عدم إدراج هذه الأفعال في سياقها الحقيقي واعتبارها جرائم، يشكل ضمنيا، النية في عدم الكف عن ارتكاب مثل هذه الأفعال، مع سبق الإصرار حين يتعلق الأمر بالإعلام المكتوب، لأن المقالة تنتج عن التأمل والتركيز والصياغة والتصحيح ... فكل هذه المراحل التي يمر منها إنجاز مادة إعلامية، تثبت الترصد وسبق الإصرار في حالة المس بالغير، ولا يمكن اعتبارها خطأ لا إراديا أو تهورا. فبالإضافة إلى ما تلحقه من أضرار بالغير، فإنها تساهم في خلق الظروف التشريعية والقانونية التي تيسر شروط اقترافها، بمبررات لا تثبت إلا عدم القدرة على الإنتقال من ثقافة التسيب في التعبير إلى ثقافة حرية التعبير، وما تحمله هذه العبارة من سمو وأخلاق. فعزل هذه الأفعال عن منطق الجريمة واعتبارها فقط مخالفات، لا تقبله فلسفة القانون، لأن هذه الأفعال لا تعني عدم القيام بما يجب القيام به، كالإهمال مثلا، بل هي أفعال إرادية مفكر فيها، وتقصد إلحاق الضرر بالغير. إن تحصين المجتمع والرفع من مستوى نقاشاته، يقتضي اعتبار الأخبار الكاذبة، جريمة و خيانة في حق الرأي العام، واعتبار عدم احترام الرأي العام و ذكاءه، فعل مشين يتحتم محاربته وردعه، واعتبار العناوين المغلوطة على صفحات بعض الجرائد، من أجل الإثارة، والتي لا تعكس فحوى مضامينها، تدليسا على القارئ من أجل بيع منتوج على أساس واجهة خاطئة، ملتبسة ومزورة. وبقصد أو غير قصد، تعمل هذه السلوكات والأفعال على استبلاد الرأي العام، وتنميطه على التفاهات والترهات، دون الكلام عن طبيعة المواضيع التي تتصدر الصفحات الأولى لبعض الصحف، تتناول بشكل رئيسي، مواد عن الجريمة والخيانة والشعوذة والشذوذ، والردود المضادة المشخصنة، وغير ذلك من المواضيع التي تغتصب المشاعر، وتشمئز منها النفوس، ناهيك عن المواضيع التي قد تكون لها عواقب لا تحمد عقباها. وحتى لا يزيغ العقل عن معنى الرأي العام، وجب التذكير بأنه الشعب، والوطن والعقل الجماعي للأمة، أي السيادة، المس بها يهم الجميع دون شرط ولا استثناء. وبما أن العيب يطفو، والصواب يعتبر عادي ولا يثير الانتباه، فإنه يوجد في الساحة صحف وجرائد محترمة، تدرك معنى حرية التعبير، وتنقل المعرفة المفيدة إلى قرائها، والساحة لا تخلو كذلك من أسماء وأقلام محترمة، ومميزة بآرائها وجديتها وإبداعاتها، ولا تتورط في نقاش الإشكاليات العقيمة والخاطئة في تركيبتها المنطقية، والتي لا تفضي إلا للبولميك، واللغو المؤدي للعنف والعدوانية. فالرأي العام في حاجة إلى إعلام خلاق، يطرح الأسئلة البناءة، ويستفز قرائح المفكرين، ويرفع من مستوى النقاش السياسي والفكري، وصحافة مسؤولة، جريئة بناءة ومؤطرة تحترم الأشخاص والمؤسسات، وهذا لن يتأتى إلا بإدراك معنى مفهوم الحرية بصفة عامة، والقيمة الحقيقية لحرية التعبير بصفة خاصة.