عندما نصرخ بأعلى أصواتنا بأننا مهددون في أمننا الغذائي ، ومهددون في أمننا الاجتماعي بسبب الهجوم الذي شنته هذه الحكومة ولاتزال ، على أوسع الفئات الشعبية في قوتها ، وفي كل ما هي محتاجة له من خدمات اجتماعية .. وعندما يفقد المواطن أمنه الغذائي وأمنه الاجتماعي ، فإن عنصر استقراره يختل ، ويصعب على أي عالم اجتماع بعدها ، أن يتنبأ بالعواقب .. ولعل من أهم الخدمات الاجتماعية الملحة التي يحتاجها المواطن ، هي خدمة الصحة العمومية .. وكل المؤشرات تؤكد بأن المغاربة قد أصبحوا مهددين بفقدان هذه الخدمة الاجتماعية ،وللتدليل على ذلك ، نقف اليوم مع القراء على وضعية المركز الاستشفائي الاقليمي محمد الخامس بمكناس . يتكون هذا المركز من خمس مستشفيات هي : مستشفى محمد الخامس مستشفى مولاي اسماعيل (القبيبات) مستشفى سيدي سعيد مستشفى بانيو مستشفى الأنكولوجيا ( المركز الجهوي للأنكولوجيا ) .. فما هي أوضاع هذه المستشفيات اليوم ؟ بدون مبالغة أو تحامل ، نبادر فنقول بأن الخدمات الصحية التي كانت تؤديها هذه المستشفيات للمواطن ، قد تراجعت بشكل خطير .. ومع وقوف المسؤولين على انحدار الخدمات الصحية في كل هذه المستشفيات ، فإنهم يركنون للأسف الشديد إما الى خطاب التطمين أو التنويم لا فرق ، أو يلوحون بالعزم على التخلص من القطاع بالمطلق ، أو يلجأون إلى خطاب التحريض والتقريع ، كما سنقف عند ذلك لاحقا.. واذا أخذنا مستشفى محمد الخامس نموذجا ، فإن هذا المستشفى كان في سنة 1981 يتوفر لوحده على 780 سريرا ، وفي الوقت الذي كان مفروضا أن يرتفع العدد ، بتناسب مع ارتفاع الساكنة التي قاربت الضعف عما كانت في بداية الثمانينيات .. فإن عدد الأسرة اليوم ، قد تقلص الى أقل من 300 سرير ؟ وفي مصلحة المحروقين التي كانت تتوفر على 30 سريرا بهذا المستشفى ، و ادعت الادارة أنها تقوم بإصلاحها ، فصرفت لذلك أكثر من 800 مليون سنتم ، ليجد المرضى والمهنيون أنفسهم في نهاية الاصلاح المفترى عليه ازاء مصلحة لا تتعدى طاقتها الاستيعابية أربعة (4) أسرة لا غير ؟ .. وبمستشفى سيدي سعيد فإن الطاقة الاستيعابية قد تقلصت من 140 سريرا الى أقل من 40 ؟ اضافة الى تعطيل الخدمات بمجموعة من الأقسام والمصالح .. بسبب الأوراش التي فتحت ولم يعرف بعد ، متى الفراغ منها ؟ كمصلحة الولادة وطب الأطفال والمركب الجراحي .. وتكاد بناياتها أن تتحول الى أطلال ؟ ناهيكم عن الاستقالة التدريجية لما كانت تقوم به الدولة في مجال تأمين الخدمات الصحية ، التي كانت تصل الى أكثر من 83 بالمائة من الخدمات التي كان يحتاجها المواطن في بداية الاستقلال .. لتتقلص اليوم الى اقل من خمسين بالمائة ؟ والدولة اليوم ، وهي تعترف بالخصاص المريع في عدد الممرضين الذي قدرته في 9000 ممرض .. في حين أن النقابات ترفع هذا العدد الى أكثر من 20 ألف ممرض .. ومع ما يعني هذا بأن هناك اجماعا على حدة الخصاص .. فإن الوزارة لا توظف في أحسن الحالات ، الا 1400 ممرض في السنة ؟ واذا احتسبنا عدد المغادرين تقاعدا ، والذي بلغ هذه السنة 2800 متقاعد .. فإن الحصيلة بإضافة الخصاص القائم ، هي ناقص 1400 ممرض ؟ أي أن الوزارة لم تعد تعوض حتى المتقاعدين ؟ هذا التقليص المتعمد في الطاقة الاستيعابية .. وهذا النقص الحاد والمتزايد في الموارد البشرية ، يؤثر حتما على جودة الخدمات .. فترى الطبيب والممرض ، كليهما يكتفيان بما هو أساسي .. ان استطاعوا الى ذلك سبيلا ... فكيف ننتظر الجودة والحفاظ على صحة المرضى وسلامتهم ، من مصلحة الانعاش الطبي والجراحي ، إن كانت لا تتوفر الا على ممرضين اثنين في فترة الحراسة ؟ وكيف ننتظر من قسم الجراحة خدمات أفضل ؟ اذا كانت تشغل طابقا بأكمله ، و لكنها لا تتوفر إلا على ممرض واحد في الفترة ذاتها ؟ .. يضاف الى الخصاص في الممرضين ، خصاص أكثر خطورة في الأطباء ، وبخاصة عدد الأطباء الاخصائيين .. الذي انخفض من سبعة أطباء أخصائيين في أمراض النساء والتوليد وطب الأطفال الى أربعة ؟ كما أن مصلحة الغدد لا تتوفر الا على طبيب اخصائي واحد ؟ ولا تتوفر مصلحتا تصفية الكلي وطب العيون ، الا على طبيبين في كل منهما ... ؟ وقس على ذلك في كل الاختصاصات والمصالح ؟ وعندما نستمع الى تصريحات وزراء هذه الحكومة ، حول قطاع الصحة العمومية ، نكتشف حقيقة على جانب كبير من الخطورة ، وهي أن الحكومة لا تتوفر على استراتيجية معقلنة وموحدة في تدبير هذا القطاع ، الأكثر ارتباطا بأوسع الجماهير الشعبية ؟ .. كل وزير ( يلغي بلغاه ) .. فهذا وزير الصحة يسوق لجودة الخدمات التي تؤديها المستشفيات العمومية ، ويسوق لوفرة الأدوية ، وكذا سعة الطاقة الاستيعابية ، من أسرة وغيرها .. حتى اذا اصطدم المواطن المريض أو المرافق بهذا الواقع المرير ، ثار وصب جام غضبه بالتساوي ، على الطبيب و الممرض ، بسبب تردي الخدمات التي لا يد من قريب أو بعيد للمهني فيها .. هكذا يصبح العاملون في قطاع الصحة ضحية المواطن الذي يلج المستشفى مشحونا بخطابات الوزير الوردية .. وبخطابات رئيس الحكومة الذي تباهى في أكثر من مناسبة ، وأمام نواب الأمة بأنه قد أوقف كذا طبيب هنا ؟ وكذا ممرض هناك ؟ في الوقت الذي يكون المهني ضحية أيضا لشح الدولة في النهوض بالقطاع وفاء بالتزاماتها الدستورية والأخلاقية ؟ .. وهذا وزير الصناعة والتجارة يصرح من جهة أخرى ، بأن ما تصرفه الدولة على قطاع الصحة يشكل عبئا ثقيلا على الميزانية العامة .. ويلتحق به الوزير محمد الوفا بتصريح نهاية 2015 بقوله : لقد انصرفنا الى تخصيص الاعتمادات نصرفها على الجانب الأمني ، و أهملنا قطاعين مهمين ، وهما قطاعا التعليم والصحة ..؟؟ نستنبط من التصريحين الأخيرين المتباكيين على مالية الدولة وعلى قطاع الصحة ، أمرين ، أولهما الكذب على المواطنين إذ أن الحقيقة أن المشكل المادي غير مطروح فالدولة تخصص أربعة مليارات من الدراهم سنويا للتغطية الصحية ، لكن من المستفيد ؟ المستفيد هو القطاع الخاص ، الذي يستفيد من أكثر من 93 بالمائة من هذه الميزانية ولا يبقى للمستشفى العمومي الا الفتات ؟ والسؤال الأكبر هو لم هذا الفرق الشاسع في الولوجيات الى العلاج بين قطاع الصحة العمومية وبين القطاع الخاص ؟؟ أبادر وأقول بأن التاريخ الذي سنحتكم اليه يوما ما ، يحتفظ لحكومة التناوب في سجلاته ، بأن الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي ، عندما زف للمغاربة خبر التغطية الصحية الشاملة بما فيها برنامج الرميد .. فإنه قد ارفق ذلك بضمان تنافسية المستشفى العمومي ، باعتباره مكسبا تاريخيا للشعب المغربي .. ولذلك دخلنا مرحلة مشروع الاصلاح الاستشفائي ، بمبلغ 76 مليون دولار ممولة من طرف البنك الدولي على شكل قرض ، لتأهيل خمس مستشفيات ، ضمنها مستشفى محمد الخامس الذي استنزف من هذه الميزانية 17 مليارا .. دون أن يحقق لا هو ولا غيره من المستشفيات المستهدفة ، الغاية من المشروع ؟ فكان من الطبيعي أن يلج المواطن المؤمن ، المصحات الخاصة ، ويدير بظهره الى المستشفى العمومي ؟ .. اذن ليس الاعتماد هو المشكل ، ولكنه التدبير الجيد للنهوض بالقطاع بما يرجع للمواطن ثقته في المرفق العمومي ، هو المشكل .. وتأسيسا على ما سبق فالوضعية المالية للمستشفيات العمومية في حالة افلاس بين .. فإذا أخذنا نظام الرميد مثلا ، فإن اعتماداته بحوزة رئاسة الحكومة .. لكن بدون آليات قانونية وتنظيمية للصرف ما يحول دون تحويل عائدات «الرميد «الى ميزانية المستشفيات ؟؟ ما يجعل من التردي والنقص في الخدمات ، دون الحديث عن الجودة ، عنوانا بئيسا للصحة العمومية في المغرب ؟ .. وهذا البرنامج الذي يحلو للمسؤولين الحكوميين ، التغني به بمناسبة وبدونها ، فإنهم قد وجدوه أمامهم ، مشروعا معدا كاملا متكاملا ، بفعل اجتهاد سابقيهم .. لكنهم أساؤوا استعماله ، حيث عطلوا آليات الصرف ، التي ما زالت تحت يد رئيس الحكومة ، كما أسلفنا ؟ وحتى اذا ما تم تدارك الأمر ، فإنهم قد عطلوا معيار الفوترة ، الذي على أساسه تحتسب الخدمات الصحية المقدمة ؟ ولذلك ظلت كل الخدمات الصحية التي تقدم على أساس برنامج الرميد ، بدون تعويض منذ العمل به الى اليوم ؟ والخوف كل الخوف ، أن يصبح المواطن الفقير ذات يوم على الخبر المفزع ، والنبأ العظيم : « لقد ألغي العمل بنظام الرميد « ؟ والمركز الاستشفائي محمد الخامس ، أكبر المرشحين لاقدر الله إذ بالاضافة الى ما يقدمه من خدمات صحية مختلفة ، لشريحة واسعة من مواطني الاقليم والأقاليم المجاورة .. وبدون تعويض ، فإن ميزانية الدواء التي تخصصها الوزارة من الحسابات الخاصة ، لهذا المركز ، والمحددة في مليار وسبعمائة مليون، ظلت جامدة ، حتى بعد أن أضيف المستشفى الخامس للمركز بكل احياجاته .. و هو المركز الجهوي للأنكولوجيا ؟ وعندما نقول بأننا قد أصبحنا مهددين في ظل هذه الحكومة في أمننا الصحي .. فلأن رئيس الحكومة ، عبد الاله بنكيران واضح في موقفه العدائي من قطاع الصحة العمومية وهو الذي صرح بعظمة لسانه في مؤتمر البنك الافريقي بالرباط 23 أكتوبر 2014 ، بأنه قد حان الوقت لترفع الدولة يدها عن القطاعات الخدماتية وعلى رأسها الصحة والتعليم ؟ ولذلك فإن تشكي حفيظ العلمي من عبء مصاريف الصحة على الميزانية .. وتباكي محمد الوفا على اهمال هذا القطاع .. يصبان في النهر العميق لرئيسهم في الحكومة الداعي الى تخلي الدولة ، عن هذا المرفق الاجتماعي الخطير والهام .. لصالح القطاع الخاص ؟ وللي عندو عندو .. وللي ما عندو المقابر تحميه ؟؟ .. وبالرغم من أن المواطن هو الضحية الأكبر ، لما تحيكه هذه الحكومة في الخفاء ، لقطاع الصحة ، فإنه لم يتبين بعد خصومه الحقيقيين ، ويختزل مشكل الصحة في الطبيب الوحيد المداوم ؟ وفي الممرض الذي لا مساعد له في مستعجلات زوارها بالعشرات .. ؟ ولذلك لا نستغرب اذا كان مستشفى محمد الخامس لوحده ، قد تعرض العاملون فيه من أطباء وممرضين واداريين ، الى أربعة اعتداءات جسدية ، وتخريب لمنشآته ، في ظرف عشرة أيام ، كان آخرها ليلة العاشر من شهر أبريل الجاري ، حيث تهجمت جماعة من حراس احدى علب الليل المشهورة بالمدينة الجديدة .. على قسم المستعجلات وخربت ما خربت .. واعتدت على الطبيب المداوم .. وكسرت اليد اليمنى لرجل الأمن المكلف بأمن المستشفى .. ؟ ثم تقدم النيابة العامة في سابقة من نوعها .. على اطلاق سراح المعتدين .. بينما الشرطي المعتدى عليه ، طريحا بنفس المستشفى ؟ يتجرع المرارة ، ويموت من الغبن ... ؟