بقدر ما يمكن اعتبار الحوار في السينما مصدرا هاما أضافته السينما لوسائل تعبيرها لتقديم المعلومات بقدر ما يمكن ان يتحول أيضا إلى منزلق هدام لجمالية الصورة، وطفيليا على لغتها، ما لم يعالج بوعي يدرك حدود الكلمة و سياقاتها في وسط أساسه بصري، بالمعنى الذي يدرك الاختلاف بين السماع و الاستماع، حتى لا تتحول اللغة المنطوقةفي السينما إلى مجرد وسيلة إنقاذ أمام العجز عن التعبير بالصورة. لكن قبل تناول موضوع الحوار في السينما يبدو من الطبيعي ضرورة تأطير ذلك في سياقه التاريخي من خلال ثورة إدخال الصوت و ما واكب ذلك من جدل نظري خصوصا من رواد الفيلم الصامت ، هدا الجدل الذي بدا بالتصدي و الرفض و انتهى بالبحث عن احتواء الصوت في منظومة لغة السينما و ليس خارجها الصوت في السينما لا يشكل الحوار في السينما سوى جزءا من الجانب الصوتي الذي يتضمن الموسيقى التصويرية كفعل سيكولوجي او عامل لربط المشاهد، و المؤثرات الصوتية التي تؤدي عملها على مستوى اللاوعي، و تعمل أيضا على توسيع إطار الصورة لتجلب المكان خارج الشاشة للمشاركة بقول مالا تراه العين، وإعطاء معلومات أكثر مما يمكن رِؤيته. لقد اعتبر فيلم (مغني الجاز) سنة 1927 بمثابة ثورة في عالم السينما الصامتة، وجعل العديد من المخرجين آنذاك يعتبرون إدخال الصوت في ذلك الفيلم بمثابة سرقة ممنهجة للغة الصورة، و كان من بين أكبر المتعصبين كل من المخرج « ازنشتاين» و المخرج « شارلي شابلن» و العديد من رواد السينما الصامتة الذين كانوا ينتجون المعنى من خلال التوليفات البصرية، على اعتبار أن انعدام الصوت لا يعني انعدام اللغة، بقدر ما كان يضفي على السينما طابعها المجازي،إلى حد أن شارلي شابلن» كان مؤمنا بأن الممثل الصامت هو جوهر السينما، وهو ما أومأ له (رالف ستيفنسون و جان دوبري) بالقول «كان قصور التعبير الناتج عن الافتقار للصوت قد دفع العديد من مخرجي الفيلم الصامت لاستخدام الصورة وليس غيرها للتوضيح والشرح والسرد، وأتاح للفيلم الصامت أن يطور أسلوبا قويا و ساحرا للتعبير بالصورة». لقد تضرر المتلقي من هذا التحول، ودخلت مخيلته في عطالة أو كسل ،إذ فقد القدرة التحفيزية على استنباط الدلالات من استعراض الصور في نظام سببي، ينبني على أن الفيلم يصنع على طاولة المونتاج، و انقلب وعيه على القناعة بأن الصمت في السينما كان صمتا متكلما، لكن المتضرر الأكبر كانوا نجوم السينما الصامتة الذين فقدوا مواقعهم، وبعض المنظرين الذين اضطروا لمراجعة أفكارهم محاولين الانسجام مع الواقع الجديد من مثل (رودولف ارنهايم ) الذي كان يرى أن على الفنان السينمائي و بدون صوت أن يوصل كل المعنى بالصورة»، هذه المراجعة ستتحول ما بعد سنة 1932 حينما أصبح التخلي عن الصوت مغامرة إنتاجيه، إلى محاولة استنهاض وعي جديد أساسه أن قيمة الصوت لا تقل عن أهمية الصورة، و أن العلاقة بينهم علاقة جدلية، مادام للصوت وظيفة زيادة القدرة التعبيرية للفيلم،هذه الأرضية سمحت ولو بنوع من التحفظ لبعض المنظرين في حقبة السينما الصامتة من التعديل المنهجي الذي لا يضر بلغة السينما فا»بيلا بلاش» أكد على( ان هدف الفيلم الناطق يكمن في تخليصنا من كابوس الضجيج المرتبك ، و يجعلنا نستقبل هذا الضجيج بوصفه تعبيرا أو دلالة أو رسالة)، في حين أصبح « إزنشتاين» يدعو إلى الاستخدام المناسب للصوت و الصورة حتى يوصل كل منهما معان مختلفة، مثله في ذلك مثل المخرج « روني كلير» الذي أصبح يؤكد على (أن الفيلم حتى و إن كان ناطقا عليه أن يخلق لنفسه أدوات تعبيرية تختلف تماما عن تلك التي تستخدم على الخشبة )، تترجم هذه التعديلات في المواقف وبشكل مبطن عدم التهويل من إدخال الصوت واعتباره ثورة في عالمها، لأن بغياب الصوت في الفيلم قد يخسر جزءا أساسيا من التعبير، لكنه لا يخسر جوهره،وهو ما فسره « مارسيل بانيول» بالوضوح التام حينما قال (كل فيلم ناطق يمكنه عرضه بدون صوت ويظل مع ذلك مفهوما، لكنه فيلم سيء للغاية). لقد ساعد الصوت الصورة - كما يرى البعض -، على التحرير من نفسها و تخليصها من الحاجة الى التعبير عن الصوت بوسائل بصرية، مما خلق فنا معقدا من فن بسيط، إد تحول مجال الصوت كما يرى «جان دوبري» (إلى تعددية في التنوع لا توجد في مجال الصورة، في حين كان الفيلم الصامت شكلا صافيا و متجانسا ). لقد منحتنا السينما الناطقة - كما بين البعض-،بعدا آخر للسماع،وعلمتنا كيف نقدر نوعية الأصوات بما فيها تلك الدبدبات التي لا يمكن أن نسمعها في الواقع، بل من خلال الصوت أصبح للصمت في السينما قيمة درامية ورمزية كعلامة سريالية للإيحاء بحالة الغرابة و الحلم، الأكثر (انه أصبح يجدب النظر إليه مثل الوقوف المطلق للفيلم) كما عبر عن ذلك «لوي دي جانيتي» ، ولأن العالم الخالي من الصوت عالم غير حقيقي، فقد قرب الصوت السينما من العالم الواقعي، مما فرض إطارا مرجعيا جديدا لنقاش علاقة الصورة بالصوت ، وما مدى الهيمنة التي يمكن ان يفرضها أحدهما على الآخر، وهو إشكال جدي وجديد في فضاء التوليفات بينهما، فإذا كان «بيلا بلاش» يحدد ذات الإشكال في مستويين: التوازي – الصوت يعبر عن محتوى الصورة – و اللاتوازي، أي حينما لا يرتبط الصوت بمصدر الصورة و يتحول إلى دلالة رمزية،فإن « ازنشتاين « كان يرى أبعد من ذلك من حيث ضرورة وجود تناسق داخلي بينهما من قبيل ارتجاج الصورة أثناء دق الطبول مثلا، في حين أن «أرسون ويلز» ضبط العلاقة بين الصورة والصوت من خلال ما سماه المعادل الصوتي للقطة، من قبيل صوت بعيد للقطة بعيدة، وصوت قريب للقطات القريبة، بل حتى بوجود مجريين صوتيين كان يرى بأن اتصالهما بتضاد يعتبر أكثر فاعلية من احتكاك صورتين متناقضتين. لقد أسست هذه النظريات الأولى التي واكبت دخول الصوت للسينما لما سوف يرافقها فيما بعد من اجتهادات، خصوصا بعدما تبين بالملموس قيمة وظائف الصوت المتعددة، إن على المستوى الإنتاجي إذ أنه يشارك في القصة دون أن يحتل حيزا من السليلويد، أو من الناحية الإبداعية، كاستخدامه للربط بين المشاهد أو الإحالات الضمنية على مشاهد سابقه وتحقيق الاستمرارية لمشاهد بأكملها بعيدا عن القفزات الزمانية أو المكانية. الحوار في السينما إدا كان الحوار في المسرح وسيلة تعبير أساسية لإيصال المعني ونقل الأفكار، فإن الحوار في السينما ليس سوى قيمة صوتية كعنصر من عناصر مادتها، على اعتبار السينما وسط مرئي أساسا، لا يحضر فيها المنطوق إلا حينما تستهلك كل الوسائل التعبيرية البصرية الأخرى،وتصبح عاجزة عن إيصال المعني ، وذلك حتى لا يتحول المنطوق إلى تعليق فج على المرئي، لقد كان المخرج المصري الراحل «صلاح أبو سيف « يرى ان ( الحوار هو أسهل مصادر المعلومات بالنسبة للكاتب الكسول)، وهو ما نجده عند «هيتشكوك» كوصية بإعطاء العناصر البصرية الأولوية ، فالسينما هي وسيلة للفرجة وليس للإصغاء. إن الأفلام الثرثارة تفقد هيبتها الفنية، بالرغم من كون الحوار هو إحدى الوسائل التي تربط بين الفيلم (الكاتب) و الجمهور، لكنها ليست الأساسية، حتى و إن اعترفنا بقدرته في التعليق على الفعل، و توضيح الأحداث و الدفع بالقصة إلى الأمام، إلا أن الغلو في التفسير بالكلام يربك العملية الإخراجية، ويحول فعل الكاميرا الى فعل غبي غير مسنود بشرعية بصرية، مما يجعل من الشريط يعيش حالة هذيان في بعض الأحيان، وهو ما يبدو جليا في الحوارات الثنائية التي لا يمكن ان تخرج عن الصياغة المرئية من خلال المجال ضد المجال، او أثناء الحوارات الداخلية ( المونولوج ) للتعبير عن ما هو داخلي أو ما تفكر به الشخصيات، باعتبار هذا النوع من الحوارات الداخلية يعتبر مشكلة نوعية في السينما، تزيحها عن صفة ثمتل الواقع، لدرجة ان «بيير جين» وصف طريقة تعامل السينما مع هذه الحوارات و إظهارها –إسماعها – بالسذاجة، كما لو ان الشخصيات تعطى ما تفكر فيه، ما تحياه وما تشعربه، دون قيد وبوعي تام. إن الأهم في وظيفة الحوار باعتباره عاكسا لعنصري الفعل و الصوت، هو بالدرجة الأولى الكشف عن معالم و أبعاد الشخصيات، وعاكسا أيضا لما تنطوي عليه دواخلها حتى في صمتها، وهو ما يفسره « بييرجين « بالقول ( الصمت و الحركة و الموقف يمكن أن تؤدي المعنى أكثر من الجملة المنطوقة، لأن الشخصيات السينمائية لها قاموس كبير من التعبير)، فالحوار كما يشبهه البعض مثل الماكياج لا يجب ان يخفي معالم الشخصيات، بل عليه ان يكشف ما نجهله عنها أي كما يقال ( تلك الظلال الدقيقة التي لا نعرفها )، و بهذا المنطق يكون الحوار وظيفة الشخصية و تابعا لها ، يكشف باستمرار عن خصوصياتها و حالاتها الانفعالية، ومن ثمة يصبح المشكل هو في معرفة متي يجب على هذه الشخصيات أن تتكلم ، ماذا عليها أن تقول أو لا تقول، بأية طريقة و بأي أسلوب. لقد حول الحوار في العديد من الأفلام الشخصيات إلى مجرد كراكيز، تنطق بما يضعه على لسانها كاتب الحوار، بنفس اللغة، ونفس الأسلوب، لا تعكس الاختلافات الثقافية والاجتماعية التي تحدد القاموس اللغوي لكل شخصية، وتندحر أمام هذا القاعدة التي تتبنى مقولة ( إذا كنت تعرف شخصياتك جيدا فإنها تنوب عنك بقول ما يجب ان يقال من تلقاء نفسها)، على اعتبار ان بناء الشخصية يسبق صياغة الحوار، خصوصا في تدبير الحالات الانفعالية. إن الحوار في السينما يختلف عن الحوار في الواقع،أو كما يقول «ميشيل شيون» ( ليس إعادة ما هو كائن في الحقيقة )، إنه متمم للمعنى و ليس مولدا رئيسيا له، لذلك كان اقتصاد الكلمات بمثابة الحل الموضوعي للقفز عن العبت بالكلام ، خصوصا حينما ينبني هذا الاقتصاد على لغة دقيقة و مرئية، ذات دلالات و إيحاءات كما يبين ذلك « علي أبو شادي « بالقول ( كلما استطاع كاتب الحوار ان يكون دقيقا و موجزا، وقادرا على استعمال اللغة بشكل جيد، كلما أعطى للكاميرا فرصة تقديم أبعاد أخرى للشخصيات )، ما يصطلح عليه هنا الإيجاز و نجده عند البعض يأخذ معنى التركيز، يقتضي صياغة الحوار بعيدا عن الصياغة الأدبية، فالكلمات التي تكتب من أجل القراءة ، والكلمات التي تكتب من أجل القول، لا يجب اختيارهما بنفس الطريقة، فالتركيز في استعمال اللغة يعطي إمكانية لقول الأشياء بشكل غير مباشر، من خلال تعويض الكلمات بحركات، أو إيماءات أو صمت، وهو ما ينشط فعل الكاميرا من أجل البحث عن الحلول البصرية المناسبة، للنفاذ إلى عمق الشخصيات وتوظيف ملامحها و سحناتها للتعبير أكثر مما تحمله الجملة المنطوقة، فمعنى اللغة المنطوقة في الفيلم كما يرى البعض ( يقدمه الممثل و ليس اللقطة، وهذا مرتبط بطريقة الإلقاء ، الأصوات المجاورة، الوقفات، التردد وانحدار أو ارتفاع المجرى الصوتي )، يبين هذا ان اللغة في السينما لا تأخذ معناها الحقيقي إلا من خلال صياغتها بصريا، وهو ما دفع بالبعض للمطالبة بتقطيع فني للحوار أيضا، حسب رنة ونغمة الإيقاع، لكن المستوى الأهم –في نظري- و باعتبار اللغة ليست محايدة، هو القدرة على التعامل مع لغة الحوار لذاتها،فالكلمات مثلها مثل العناصر الكميائية، كل اختلاف في التركيب و التركيز يعطى عناصر جديدة ، ويولد دلالات متجددة وهذا لا يمكن ان يتم بعيدا عن التمكن من عبقرية اللغة، و وظيفة تلك العبقرية داخل الوسط المتداولة فيه، خصوصا القدرة على توظيف المجاز و الاستعارة اللذان يحميان الفليم من المباشرة الفجة، وهو ما يقتضى معرفة أصول بلاغة اللغة المستعملة في الحوار، من أجل اختيار ما هو معبر داخلها. لقد سقطت العديد من الأفلام المغربية في المحظور الفني، وذلك بعد ترجمة نصوصها المكتوبة أصلا بالفرنسية، إلى الدارجة، حيث وقع تصادم بين اللغتين، مما ولد حوارات مهلهلة أو رتيبة و دون شحنات دلالية، و نزل مستوى الترجمة إلى أقل من مستوى الدبلجة، إد خلق تيها للمتلقي بين أبعاد الشخصيات و ما تتحدث به . نخلص إلى القول بأنه من السهل تخيل وضعيات و كتابتها وفق هندسة سيناريستية متعارف على أهم قواعدها، لكن من الصعب إنطاق الشخصيات، لأن أي خلل في تدبير اللغة وفق منظومة تراعي ان الكلام موجود من أجل الصورة، قد يؤدي بالحتمية الدرامية إلى عبت بصري.