مصادفاتٌ بالجملة تعاقبت بافراطٍ ، في مؤخّر هذه الأيام ، لها علاقة خارقة بالغراب . قاومتُ التفكير فيها قدر المستطاع ، أو أجّلتُ استيضاح المدار العجيب لانهمارِ أطيافها المدرارة ، بالنظر إلى أنها علاقة ليست طارئة ، بل هي راسخة بصلابة عتيدة في أزلِ أو هيولى طفولتي ، وعلى طولِ فراسخِ حياتي المضطرمة . كل ما في الأمر أنني حاولتُ – فيما مضى - نسيانها إلى حين ، بسبب انصرافي إلى شؤون ناهبة ، لزم علي المضي فيها حدّ منتهاها ، كي ألوذ بأخرى ، أوافيها ما هي جديرة به . غير أن علامات الغربان هذه المرّة ، ضاعفت من استدراجي إلى هاوية فخاخها ، عبر دوامتها الخرافية، أو لعبتها المحفوفة بالخطورة والجنون . هكذا سأتحاشى الحديث عن مجمل تاريخ علاقتي السحرية بالغراب ، كما سأترك التفاصيل المسهبة لجملة المصادفات اللعينة المتعاقبة حديثا وهي كثيرة الصور ومتشعبة الوجوه ، فأكتفي بواحدة جعلتني ألتفت إلى كل ميراث الغراب الشخصي ، في متحف ذاكرتي وقطب مخيلتي . كنت قد سافرت إلى القاهرة المصرية يوم 3 فبراير 2015 ، دونما تخطيط اخترتُ أن أمشي كيفما اتفق في وسط البلد ، علّ يافطة فندق ما ، تسترعي انتباهي أو تغوي خيالي ، و لم أتهْ طويلا حتى وجدتني ألتفتُ شمالا حيث أثارني عنوان نزل في شارع محمد فريد تحت إسم « بنسيون روما « . خمنت ربما ستجمعني حكاية غريبة مع هذا النزل . إنّ أول ما جعلني أرومه دون تردّد هي فكرة هاجستني لحظتئذ : أن أتواطأ مع ضلعٍ متخيّلٍ من روايتي الصادرة حديثا « النّهر يعض على ذيله « عن دار «العين» بالقاهرة ، ضلعٌ تشتبك حوادثه الغامضة في مدينة « روما « ، من خلال شخصية « لوكيوس « التي تحيل بقوة إيحائية على الكاتب « لوكيوس أبوليوس « صاحب « الحمار الذهبي « . روايتي الملمع إليها آنفا ، هي الذريعة لزيارتي القاهرة – لأوّل مرة - من أجل لقاء مفترض حول صدورها . في الطابق الرابع بعد صعود مصعد عتيق ، وقفت إلى مصطبة امرأة أجنبية في الستين ونيّف ، و سألتها عن غرفة . اتضح أنها إيطالية بالفعل ، و تتحدث اللهجة المصرية والانجليزية والفرنسية فضلا عن الايطالية . اقترحتْ عليّ أن أرى الغرفة الفارغة أولا ، واطلعت عليها في الحين ، فاستحسنتُ مواصفاتها ، وكان رقمها هو 3 . أول شيء وقعت عليه نظرتي في الغرفة : لوحتان معلقتان على الحائط بجوار الدولاب . الأولى لبومتين يتوسطهما وجه كرنفاليّ ، و الثانية لغراب مزدوج مرسوم بأسلوب تراث ( هنود أمريكا الأصليين ) ، واحد بالأسود و الثاني بالأحمر ، ضمن دائرة مختومة برأسيهما ومنقاريهما ، و في منقار الغراب الأحمر ثمة علامة لرقم ( 77 ) . - غراب الاسكيمو ! نبست بتلقائيّة و أنا أبتسم هامسا: وأما الغراب فالغريب المطوح . تأملتُ لوحة الغراب مرهقا و أجّلت اكتشاف صاحبها، فقد بدتْ لي لشخص هاوٍ وإن كانت مخطوطة ببراعة إيحائية ، ثم خمّنت بدعابة : - في روايتي الأولى « موسم صيد الزنجور « ، فصل بعنوان « دورات الغراب الثلاث « ، يتحدّث عن غراب يوقّع ثلاث دورات غامضة من كل يوم في سماء البحيرة ، فهل رقم الغرفة ( 3 ) له علاقة بالدورات الثلاث لغراب « موسم صيد الزنجور » ! زد على ذلك رقم ( 77 ) في منقار الغراب الأحمر ، ربما يحيل إلى السنة التي شهدتْ حادثة ولادتي أي : 1977 !! استحممتُ على عجل مترنما : « سوى الغربان تحجل في فلاها « . ونمتُ متقلّبا ، أفكر في أطياف المرأة التي واعدتها على اللقاء في القاهرة ، فيما سديم حكاية يهوّم في خلاء رأسي بتأثير من اللوحتين على الحائط في الغرفة ، عن حرب دارت بين ملك البوم و ملك الغربان، سبق لي أن قرأتها في ( كليلة و دمنة : باب البوم و الغربان) وقد ضربها « بيدبا الفيلسوف « مثلا للعدو الذي لا ينبغي أن يُغترّ به ، وإن أظهر تضرّعا و ملقا ، بطلب من دبشليم الملك ، و التي مطلعها : من اغترّ بالعدوّ الذي لم يزلْ عدوّا ، أصابه ما أصاب البوم من الغربان ! كما أسلفت الذكر ، علاقتي بالغربان كانت دائما سحرية، ترجع إلى طفولة مولعة بمجاورة الطيور . الغراب كان ملك قائمة الطيور المفضلة و الأثيرة ، ما من طائر يزاحم منطقته الشاهقة و الفاتنة على رأس عمارة الوحيش في مخيلتي و ذاكرتي ووجداني . لن أقف هنا عند السيرة الغامضة لعلاقتي المهووسة بالغراب – كما قطعت الوعد آنفا - ، فحضوره العجيب دامغٌ لنصوصي الحكائية ، قصة و رواية ... مجمل الأمر أنني أقرّ بما هاجسني مرّات و كرّات ، في شأن الغراب، أي نعم ، طالما هاجستني فكرة الكتابة عن الغراب بإفراد كتاب خاصّ له ، و كلما حاولتُ استجماع سُدُم خيالي و أشلاء ذاكرتي معا ، لأهندس خطاطة هذا الكتاب المتخيّل ، أجد اللحظة لم تنضجْ خميرتها لإنجاز ذلك ... في الغرفة رقم ( 3 ) ، في « بنسيون روما » بالقاهرة ، ألفيتني أنظر إلى لوحة الغراب بريبة مبتهجة ، و أنا أهجس : ربما حان أوان هذا الكتاب المؤجل حول الغراب ، و ما المصادفات المتعاقبة مؤخرا ، زدْ عليها هذه اللوحة اللعينة في غرفةٍ - ما هي بمصرية و لا إيطالية - ، إلا مخطابة مضاعفة لي و إليّ ، تلحّ عليّ بملء الإشارة و الإيحاء ، أنْ خذ يا إسماعيل الكتاب بقوة . بعد روايتي « النّهر يعض على ذيله » ، وجدتُني مهَسْهَسا في مهبّ رياحِ أولمبِ اللعبة القصصية . انتابني هوس الرغبة فاستيقظ النزوع حنينا إلى كتابة القصة القصيرة التي لم أهملها أو أنسها و لم أتنكّر لها قطّ ، بإنجازي لروايتين بالتعاقب ، ومهما يكن من أمرٍ فلم يمْض على صدور قصص « بستان الغزال المرقط « إلا ثلاث سنوات . من يدري ربما يكون الكتاب القادم حول الغراب ، قصصيّا ! خمّنتُ و لم يكنْ هناك من شيء واضح الرؤية في خرائب ذهني . قضيتُ سبع ليال في « بنسيون روما « بالقاهرة ، و لم تتبخّر ليلة دون أن أرى حلما كان سيّده هو الغراب ... فسارعتُ إلى تدوين ما رسخ في ذهني من تلك الأحلام في كلّ صباح : ليلة 4 فبراير 2015 : « رأيتني أنام مع امرأة* تترك لي تبانها الأسود في كل صباح كأثر للذكرى . أفترشه على السرير وأذهب لأستحم فأجد غرابا قد دخل من الشرفة و يسرقه ... فعلها في المرة الأولى ، فأخفيت تبانها الثاني في الحقيبة ، و فتح اللعين الحقيبة و ظفر به مرة ثانية ، فأغلقت الشباك في المرة الثالثة ، ووضعت التبان بين دفتي مجلد* . غبت لهنيهة و خرجت من الحمّام فوجدت الغراب اللعين قد فتح المجلد و ظفر بالتبان الثالث . وقفت مندهشا أتساءل من أين دخل ؟ تسلل الغراب إلى أسفل السرير و اختفى تحته ... استبشرت خيرا بأن أجهز عليه و أقتصّ منه ، فزحزحتُ السرير لكي أحاصره و أنقضّ عليه ، فصعقني أنني اكتشفت ثقبا مهولا تحت السرير ، ثقب أسود لهاويةٍ لا قرار لها !!! » ** : حاولت أن أتذكر ملامح المرأة دون جدوى . كما عذبتني محاولاتي الفاشلة في تذكر عنوان المجلد . ليلة 5 فبراير 2015 : « كان الثلج يندف بضراوة و أنا أصنع تمثالا لامرأة في البرية ، فيما الغربان تحوّم فوق رأسي ... صنعت تمثالا ساحرا جعلني أرغب في معانقة و تقبيل المرأة المنحوتة ... كأنّ الغربان فطنت لما ينتابني من رغبة محتدمة في العناق و التقبيل فحالت بيني و بين التمثال إذ صارت تهاجمني في خطوط شكلت جدارا بيني وبين المرأة المنحوتة . من خلال بعض الكوات في السيل المنهمر للغربان بيني و بينها ، السيل الوحشي الشبيه بنهر من الخطوط السوداء رأيت المرأة / التمثال تبتسم لي كما لو تنظر إليّ من وراء مرآة شيطانية . قررت أن أخترق السّيل الضاري للغربان المنهمرة بيني و بين المرأة مهما كلف الأمر ، فقد كانت المسافة بيني و بينها شبيهة بجدار من السّخام العاصف . عندما اخترقت سيل الغربان صعقتني بروقُ خطوطها أو انهمارها الخارق ، بعدئذ وجدتني في الضفة الأخرى ، أنا هو تمثال الثلج ، و المرأة تنحتُني فيما الغربان تحلّق فوق رأسها !!! » ليلة 6 فبراير 2015 : « رأيتني في زقاق غريب أمشي خلف طيف امرأة مفرطة في البياض – لا علاقة لها بامرأة الحلم الأول والثاني – وقفت عند بوابة كان رقمها هو ( 17 ) . دخلت و تركت الباب مواربا و هي تلتفت إليّ و تبتسم لي ... وقفت على عتبة الباب متردّدا ، ثم جازفت بالدخول . وجدتني في منزل دائري – شبيه بالرياض – تتوسطه حديقة مع نافورة يعلوها مجسّم غراب ، يندلع الماء من منقاره و البيت ثلاثي الطوابق و في كل باب ينتصب غراب على عمود . أحصيت الغرف فوجدتها سبع عشرة غرفة كما هو رقم الباب ... احترت في أي الغرف سأدخل ، و لم يستأثر بغوايتي إلا مرامُ بابيْنِ ، الباب رقم ( 7 ) و الباب رقم ( 17 ) . لأنني من مواليد الشهر السابع أي يوليوز و إسمي مكوّنٌ من سبعة حروف ، فضلتُ الغرفة رقم ( 7 ) ، وقفتُ عند الغرفة و حدّجني الغراب المنتصب على عمود جانبيّ بعين مفرطة في النقاء ، صافية بشكل مسرف – كعين الغراب صفوها لم يكدر - ، رأيت فيها وجهي كما لو في صفحة مياه بلورية . لم يكن الوجه وجهي ، بل لإدغار آلن بو ، استغربت كيف صرتُ شخصا مزدوجا ... طرقت الباب و دخلت ، هناك وجدت امرأة في أرذل العمر ، بشعة تماما ، ليس فيها ما يروق النظر إلا ثغرها المفرط في الحمرة ، كان فمها فم فتاة عذراء دون العشرين ... و هي تحتضر في ألم دوّار يعتصرها كخرقة ، صاحت بي ، كأنما تهذي : - قبلني كيْ أحيا . قبلني كيْ أستعيد شبابي . قبلني كيْ .. أيها الوغد ... كان إغواء فمها شرسا ، لا يقاوم جنون إغرائه و قدح شهوته ، لكن وجهها البشع كان مرعبا ... دنوتُ منها محتارا و مرتعبا ، هل أقامر بقبلة أم أرجع أدراجي و أهرع خارج النزل الملعون !؟ قبلتها بطيْشٍ ، فوجدتني في أنقاض مدينة تصخبُ سماؤها بطائرات حربية ترشق البلدة بالقنابل المفزعة ، فتتزلزل الأرض دويا و رعبا !!! كنت أهرع بحثا عن زاوية آمنة ، فلاحت المرأة - هي نفسها التي ظهرت في أول المشهد في الزقاق قبل أن تدلج باب البيت اللعين رقم ( 17 ) - ، ركضتُ خلفها و ألفيتها تلج قبوا . ولجته بدوري فألفيته ملجأ . في الملجأ جمهرة نساء ، كنت الذكر الوحيد بينهن ، و كنّ ينظرن إليّ بشرّ مستطير تخالطه الرغبة والشهوة . بحثت عن المرأة التي دخلت قبلي و لم يظهر لها أثر . بحثت عن مخرج دون جدوى ... تحلّقن حولي ، وهجمن عليّ يجرّدنني من ملابسي حتى صرت عاريا تماما ... ثم بدأن يتعاركن في أمر من ستظفر بمضاجعتي أولا ... اشتبكن ونهشن بعضهن البعض . خرجت طفلة من بين ركام النسوة المتمرّغات ، وأشارت إلى ظلمة في الرّكن . هرعتُ إلى نفق الظلمة ، ركضتُ طويلا حتى سقطتُ من الاعياء ... استيقظتُ في محطة قطار بجوارها كنيسة شاهقة دق ناقوسها سبع عشرة دقة ... لحظتها دخل قطار ، عندما دنوت لأركب دون أن أعرف الوجهة ، ظهرت المرأة في الباب مجدّدا - امرأة المشهد الأول والثاني - ، صاحت بي : - تمهّل فهذا قطار الجنوب ، قطارك المتجه شمالا انتظره بعد سبع دقائق في السكة الأخرى . تراجعت عن ركوب القطار ، و عبرت إلى ضفة السكة الأخرى . هناك اصطدم بي شخص سكران وأشعث يحمل زجاجة ويسكي . نظرت إلى وجهه ، فباغتتني ملامحه الأليفة ، إنه « إدغار آلن بو « ! عانقني بحرارة و صاح في ابتهاج ثمل : - زعم الغراب بأن رحلتنا غدا وبذاك خبرنا الغداف الأسود استغربت كيف حدثني بلسان النابغة الذبياني ، وأردف على عجل : - بحثت عنك طويلا أيها الوغد ! لأُسِرّ لك بأن « أمية بن أبي الصلت « من أخبرني بأن رقم ( 17 ) هو رقم الغراب اللعين و المقدس في آن !! » ليلة 7 فبراير 2015 : « رأيتني أدخل غرفتي في « بنسيون روما « ، فوجدت شخصا في الشرفة يخفي وجهه بقناع غراب شبيه بأقنعة هنود قبيلة « كواكويتل kwakiutl « . كان يشرب القهوة بالتذاذ وهو يدندن أغنية مبهمة : - غراب، غربان ، غرابيب ! التفت إلي وهتف : - جئتك بعشب من الاسكيمو لتدخنّه ! - تعني حشيش الاسكيمو ؟ قلت له بارتياب مغتبط . - بل العشب الأزرق الذي يحتاجه خيالك كي تحبّر أطلس كتاب « غراب، غربان ، غرابيب « ! دسّ العشب في جيبي و خرج من الباب . توقعتُ أن تصرخ السيدة الايطالية في الخارج . خرجت وراءه و لم أجد له من أثر في الدهليز ، فيما السيدة الايطالية منهمكة في تدوين أرقام ضمن سجلّ ... رجعت الى الغرفة ووجدت غليونا منحوتا على شكل غراب فوق الطاولة . وضعت العشب في الغليون وجلست مكانه في الشرفة ، ثم أضرمت النار في الغليون ... رشفت الدخان مغمض العينين من فرط النشوة ... ما أشبهه بالحشيش المغربي . حين فتحتهما وجدتني أمام مبنى شاهق ، يشبه قصرا باذخا لمتحف ، و في يافطة البوابة الضخمة مكتوب : غراب، غربان، غرابيب ! » ليلة 8 فبراير 2015 : « رأيتني في خلاء مفرط في القحط ، يتوسطه بئر ، و على عمود البئر يمرح فستان امرأة . وجدتني أتمتم على نحو مبهم : إذا صاح الغراب به شجاني وأجرى أدمعي مثل اللآلى كان بي عطش مهول ، فسقطت أجثو على الأرض ، ثم صرت أزحف على بطني ، إلى أن وصلت حاشية البئر بمشقة لائبة ... لم أكترث لأمر الفستان الذي بدا لي مرقطا بأزهار الخشخاش و نظرت من حافة البئر إلى الداخل . كانت البئر بلا قرار و ما من مياه يلوح سرابها في الظلمة الفاحمة ... هبتْ ريح عندها و سقط الفستان فالتصق بوجهي . كان الفستان عاطرا برائحة امرأة أعرفها تمام المعرفة ، غير أني أجد صعوبة في تذكرها ، خشيت أن تكون قد سقطتْ في البئر ... تفاجأتُ بوجود دلوٍ على شمالي ، فبسطت يدي إليه علّني أظفر بجرعة ماء ، مال الدلو وسقط ومن داخله حلّق غراب ... » ليلة 9 فبراير 2015 : « رأيتني أصطاد في نهر وحشيّ ، فيما غراب يحلّق قريبا منّي في منطقة من النهر لعينة ، شهيرة بغرق أكثر من شخص ... اعتقدت أن الغراب ينبهني إلى شيء ما ... فذهبت إلى المنطقة التي كان يحلق فيها ، و إذا به يمكر بي محلقا إلى الجهة التي كنت أصطاد فيها ، فيتلقف السمك الذي ظفرت به و جعلته في السلّة ... - لعين ... الغريب أن الأمر تكرر مرات ، و في لحظة غضب قررت أن لا ألتفت إلى لعبته الماكرة ... انهمكت في صيد سمك الحنكليس ، و عندما لاحظت صمتا مريبا يدمغ المكان تساءلت أين اختفى الغراب و نعيقه ! التفتُّ خلفي ووجدته يقف ورائي ، لم يكن يتربص بي ليخطف السمك ، بل كان يحمل خاتم امرأة في منقاره . أمدني بالخاتم و تأملت الحجر الأزرق في تاجه . عندها خطرت في ذهني فكرة مرعبة وهرعت إلى حيث كان يحلق و ينبهني مرّات وكرّات . غطست في المياه و غصت مرتادا القعر . انتشلت جثة امرأة نحيلة تملأ جيوبها بالحجارة ... ألقيتها على عشب الضفة و تأملتها : - كم تشبه فيرجينيا وولف ! » ليلة 10 فبراير 2015 : « حلمت بشخص يلبس طاقية حصاد ، وهو يحمل زهرة عباد شمس ضخمة . كان يمشي في شارع مدينة فارغ عن بكرة أبيه . بل المدينة تبدو مهجورة كما لو من مائة سنة . صرت خلفه و أنا أنصت لايقاع حذائه المتغضّن على حجر الشارع المبلط . بدا الشارع طويلا أكثر من اللازم و الصمت الدامغ يجلل المدينة فزعا و رعبا . هل كنت أمشي خلفه لأعرف وجهه ؟ أم كنت أقتفيه من أجل أن أساله إن كان سيبيعني تلك الزهرة الضخمة ؟ أغوتني زهرته و مشيت خلفه مسحورا و أنا أهمس لنفسي : - أي حصّاد لعين هذا ؟ مشى غير مكترث ، فحاولت أن ألفت انتباهه ، بأن كنت أضرب بحذائي على الحجر حتى يسمعني ، و لم يلتفت . حاولت أن أصفّر صفيرا حادّا كي أستفزّه و لم يلتفت . حاولت أن أناديه و أصيح به ، بل طفقت أصرخ كمجنون ، و لم يلتفت ... هل يعقل أن يكون هذا الوغد أصمّا ! هنا هرعت كي ألمسه من كتفه . عجبا ! لم أكن أستطيع اللحاق به ، و إن كان يمشي ببطء في ثقلٍ سلحفاتيٍّ... هرعت بملء فتوتي و خفّتي ، و لم أصله ... ركضت و ركضت و ركضت دون جدوى ... ثم سقطت حيث ارتطم وجهي بحجر الطريق و تدمّى ... عندها التفت الرجل الحصّاد ، نظر إليّ بسخرية ، فعرفت وجهه ، كان هو الرسام « فان غوغ « ... نهضت بخجل و دون أن أمسح عني ما عفّر ملابسي من تراب ، أو دم ، خطوت إليه ... عندها رجع إلى سالف وضعه موليا ظهره لي و استمر في مشيه دون اكتراث ... مشيت خلفه كرّة أخرى و هرعت دون جدوى ... لم أستطع اللحاق به .. صرخت به : فان غوغ . فان غوووغ . فان غوووووووغ ... أنهكني العياء فتوقفت ، و أنا أصيح غيضا : - إلى الجحيم ... في تلك اللحظة رأيته يتوقف كما لو أن جملتي اللعينة شكّتهُ بمهماز . توقف دون أن يتلفت ولمحت زهرة عباد الشمس تتغوّل و يتضاعف حجمها إلى أن صارت شمسا . ظلّ يترنح وهو يتحمل مشقة ثقلها المتفاقم ما يزال ... من زهرة عباد الشمس اندلعت الغربان و صارت تتطاير بشكل غفير باتجاهي ... اندلقت كنهر جارف وأنا أنتظر أن تصطدم بي ... » هل تكون لوحة الغراب في الغرفة ، وراء اندلاق هذه الأحلام بالتعاقب في كل ليلة ؟؟؟ ماذا لو مدّدت في إقامتي هناك ؟ هل كانت آلة الأحلام العجيبة ستواصل نديفها السحري ؟؟؟ سأفوّت عليّ الظفر بمجلد أحلام شاهقة حول الغراب إذا ، فالظرف الآثم لا يسعفني في إطالة عمر السفر و تمديد الإقامة ، و السبب سطوة التزامات صلدة ، تجبرني على الرجوع إلى المغرب في الموعد ... لم ألتق المرأة التي خطّطت معها كي نرى بعضنا البعض هناك في القاهرة بسبب خطب ألمّ بها ، فجعلها تفوّت موعد طائرتها . كتبتْ لي رسالة بعد انصرام أيام ، تقول بأن حمّى غريبة زجّت بها في دوامة مرض كابوسية ، إذ ظهرت سبع بقع سوداء فجأة في أنحاء متفرقة من جسدها ! ربما يكون الأمر عرضا من أعراض مرض خطير ، استطردت هلعا . فكتبتُ لها بمرح : - لن تكون إلا وشوم غربان ، بزغت فجأة في خارطة جسدك بتأثير من ولعي المفرط بالغربان ! ( أخفيتُ عنها أنني رأيت بالتعاقب عبر سبْع ليال، سبْعة أحلام عن الغربان في سفري الذي لم يتوّج باللقاء الموعود . حتما أرهقتني هذه المصادفات اللعينة الممهورة بتواطؤ الأرقام الشيطانية : سبعة أحلام مع سبع بقع سوداء !!! ) كما لم أنجز اللقاء المفترض حول صدور روايتي ، في دار "العين" ، لأن مقر دار النشر فُجِّر ساعات قليلة من الموعد . نُسف بسيارة مفخّخة مع المحلات في " ممر بهلر " ، وتطايرت وريقات مكتبة الدار ، وحلقتْ في مدارات كطيور القيامة ، في سماء ساحة " طلعت حرب " . - تفجير " ممر بهلر " ، لم تتبنّه أيّ طائفة أو جهة و ظلّ مجهولا - . ومع ذلك ، فإن كان لا يعول على السفر الذي ليس معه ظفر ، وفق ما يقوله ابن عربي ، فأظنّني ظفرت في سفري بكنز الأحلام السبعة التي كانت الشرارة وراء انجازي لهذا الكتاب الحكائي ... كنت قد التقطتُ صورا للوحة الغراب في غرفة «بنسيون روما « ، و حين رجعت إليها ممعنا في توقيع الرسام، اتضح لي أن إسمه هو : danny dennis ، واللوحة مرسومة بأسلوب فن tshimsian . « تشيمسيان « هذه قبيلة هنود تمجّد الغراب وتؤسطره إذ توليه مكانة مقدسة في خلق العالم ، بالنظر إلى ارتباطه الوثيق بأطوار تكوين الحلقة الأبدية للولادة و الموت . كلمة tshimsian تعني شعب نهر « سكينا skeena « . و تقع قبيلة « تشيمسيان » في الساحل الشمالي الغربي الأمريكي ، تحديدا في ما يسمى بالساحل الكولومبي البريطاني في كندا ، و قد كان مكانهم فيما قبل هو جزيرة « annette ، آنِتْ « في شمال ألاسكا ، و أشهر حكاياتهم عن الغراب ، هي تلك المتعلقة بسرقة الغراب لنور العالم : « نثر الغراب السمك و الفواكه على طول خارطة العالم حتى يوفّر دائما ما يقتات عليه . خشي أن يجد صعوبة في العثور على نثْر طعامه هذا بسبب ظلمة الكون ، فحلق عاليا من خلال فتحة في السماء و رصد أميرة على ضفة نهر في الجنة ، ثم حوّل نفسه إلى ورقة من شجرة الأرز و طفا في دلوها . عندما شربت الأميرة الماء دخل الغراب إلى جسمها و أصبحت حبلى به ، فأنجبته بهيئة صبي افتتن به الملك و زوجته و سمحا له باللعب بالصندوق الذي يدخر ضوء النهار . ما أن تلقف الصندوق حتى عاد إلى شكل الغراب و فرّ راجعا به إلى الأرض عبر فتحة السماء دائما . ثم حدث أن كسر الغراب الصندوق في فورة غضب فامتلأت السماء فجأة بالشمس و القمر والنجوم ... » لم أكن قد جانبت كثيرا حقيقة هوية الغراب في اللوحة ، عندما نطقت في أول نظرة لي تقع عليها بتلقائية : غراب الاسكيمو . إنه غراب التشيمسيان إذا ، من منحني صندوقه العجيب لأكسره بدوري ، فكسرته واندلعت منه شموس وأقمار ونجوم هذه الحكايات ! هكذا اخترت لهذه المحكيات القصصية عنوان الكتاب الذي هجس به رجل الإسكيمو / أو غراب الإسكيمو في الحلم الرابع ، حلم ليلة 7 فبراير 2015 . كما حافظت على الرقم ( 17 ) ، في عدد نصوص الكتاب - بما فيها نص هذه المقدمة - أي رقم الغراب الذي كشفه لي « إدغار آلان بو « في الحلم الثالث ، حلم ليلة 6 فبراير 2015 . ------------------------- توطئة كتاب (غراب، غربان، غرابيب) الصادر حديثا عن دار العين ، بالقاهرة .