مأساة غرق بشاطئ مرتيل: وفاة تلميذ ونجاة آخر في ظروف غامضة    حادثة سير خطيرة بطنجة تسفر عن إصابة شابين بجروح بليغة    عفو ملكي على 1304 أشخاص بمناسبة ذكرى 11 يناير    اطلاق ثلاث خطوط جوية جديدة تربط الصويرة بباريس وليون ونانت ابتداء من أبريل المقبل    رواية "بلد الآخرين" لليلى سليماني.. الهوية تتشابك مع السلطة الاستعمارية    طنجة : الإعلان عن الفائزين بجائزة بيت الصحافة للثقافة والإعلام    المنتخب المغربي يودع دوري الملوك    مراكش... توقيف مواطن أجنبي مبحوث عنه بموجب أمر دولي بإلقاء القبض    حرائق لوس أنجلوس .. الأكثر تدميرا والأكثر تكلفة في تاريخ أمريكا (فيديو)    مراكش تُسجل رقماً قياسياً تاريخياً في عدد السياح خلال 2024    تهنئة السيد حميد أبرشان بمناسبة الذكرى ال81 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال    وزير الخارجية الفرنسي "يحذر" الجزائر    توقيف شخصين في مراكش بتهمة النصب والاحتيال وتزوير وثائق السيارات    إيكال مهمة التحصيل الضريبي للقطاع البنكي: نجاح مرحلي، ولكن بأي ثمن؟    هذا ماقالته الحكومة عن إمكانية إلغاء عيد الأضحى    "الباطرونا" تتمسك بإخراج قانون إضراب متوازن بين الحقوق والواجبات    مدن مغربية تندد بالصمت الدولي والعربي على "الإبادة الجماعية" في غزة    مؤسسة طنجة الكبرى في زيارة دبلوماسية لسفارة جمهورية هنغاريا بالمغرب    الملك محمد السادس يوجه برقية تعزية ومواساة إلى أسرة الفنان الراحل محمد بن عبد السلام    المناورات الجزائرية ضد تركيا.. تبون وشنقريحة يلعبان بالنار من الاستفزاز إلى التآمر ضد أنقرة    أحوال الطقس يوم السبت.. أجواء باردة وصقيع بمرتفعات الريف    الملك محمد السادس يهنئ العماد جوزيف عون بمناسبة انتخابه رئيسا للجمهورية اللبنانية    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    إيداع 10 علامات تجارية جديدة لحماية التراث المغربي التقليدي وتعزيز الجودة في الصناعة الحرفية    توقف مؤقت لخدمة طرامواي الرباط – سلا    أسعار النفط تتجاوز 80 دولارا إثر تكهنات بفرض عقوبات أميركية على روسيا    الضريبة السنوية على المركبات.. مديرية الضرائب تؤكد مجانية الآداء عبر الإنترنت    اللجان الإدارية المكلفة بمراجعة اللوائح الانتخابية العامة تعقد اجتماعاتها برسم سنة 2025    أغلبهم من طنجة.. إصابة 47 نزيلة ونزيلا بداء الحصبة "بوحمرون" بسجون المملكة    تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، محطة نضالية بارزة في مسار الكفاح الوطني من أجل الحرية وتحقيق السيادة الوطنية    فيلود: "المواجهة ضد الرجاء في غاية الأهمية.. وسنلعب بأسلوبنا من أجل الفوز"    "الأحرار" يشيد بالدبلوماسية الملكية ويؤكد انخراطه في التواصل حول مدونة الأسرة    القِرْد سيِّدُ المَشْهد !    ميناء الحسيمة يسجل أزيد من 46 ألف من المسافرين خلال سنة 2024    من هو جوزيف عون الرئيس الجديد للبنان؟    وفاة صانعة محتوى أثناء ولادة قيصرية    حوار بوتين وترامب.. الكرملين يعلن استعدادا روسيا بدون شروط مسبقة    بوحمرون: 16 إصابة في سجن طنجة 2 وتدابير وقائية لاحتواء الوضع    "بوحمرون.. بالتلقيح نقدروا نحاربوه".. حملة تحسيسية للحد من انتشار الحصبة    بوحمرون يواصل الزحف في سجون المملكة والحصيلة ترتفع    عصبة الأبطال الافريقية (المجموعة 2 / الجولة 5).. الجيش الملكي من أجل حسم التأهل والرجاء الرياضي للحفاظ على حظوظه    صابرينا أزولاي المديرة السابقة في "قناة فوكس إنترناشيونال" و"كانال+" تؤسس وكالة للتواصل في الصويرة    "جائزة الإعلام العربي" تختار المدير العام لهيسبريس لعضوية مجلس إدارتها    ملفات ساخنة لعام 2025    ارتفاع مقلق في حالات الإصابة بمرض الحصبة… طبيبة عامة توضح ل"رسالة 24″    اتحاد طنجة يعلن فسخ عقد الحارس بدر الدين بنعاشور بالتراضي    السعودية تستعد لموسم حج 2025 في ظل تحديات الحر الشديد    الحكومة البريطانية تتدخل لفرض سقف لأسعار بيع تذاكر الحفلات    فضيحة تُلطخ إرث مانديلا... حفيده "الرمز" في الجزائر متهم بالسرقة والجريمة    بطولة إنجلترا لكرة القدم.. إيفرتون يفك الارتباط بمدربه شون دايش    مقتل 7 عناصر من تنظيم "داعش" بضربة جوية شمال العراق    النظام الجزائري يخرق المادة 49 من الدستور ويمنع المؤثر الجزائري بوعلام من دخول البلاد ويعيده الى فرنسا    الكأس الممتازة الاسبانية: ريال مدريد يفوز على مايوركا ويضرب موعدا مع برشلونة في النهائي    الآلاف يشاركون في الدورة ال35 للماراطون الدولي لمراكش    أخذنا على حين ′′غزة′′!    الجمعية النسائية تنتقد كيفية تقديم اقتراحات المشروع الإصلاحي لمدونة الأسرة    فتح فترة التسجيل الإلكتروني لموسم الحج 1447 ه    وزارة الأوقاف تعلن موعد فتح تسجيل الحجاج لموسم حج 1447ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



غراب الإسكيمو

مصادفاتٌ بالجملة تعاقبت بافراطٍ ، في مؤخّر هذه الأيام ، لها علاقة خارقة بالغراب .
قاومتُ التفكير فيها قدر المستطاع ، أو أجّلتُ استيضاح المدار العجيب لانهمارِ أطيافها المدرارة ، بالنظر إلى أنها علاقة ليست طارئة ، بل هي راسخة بصلابة عتيدة في أزلِ أو هيولى طفولتي ، وعلى طولِ فراسخِ حياتي المضطرمة .
كل ما في الأمر أنني حاولتُ – فيما مضى - نسيانها إلى حين ، بسبب انصرافي إلى شؤون ناهبة ، لزم علي المضي فيها حدّ منتهاها ، كي ألوذ بأخرى ، أوافيها ما هي جديرة به .
غير أن علامات الغربان هذه المرّة ، ضاعفت من استدراجي إلى هاوية فخاخها ، عبر دوامتها الخرافية، أو لعبتها المحفوفة بالخطورة والجنون .
هكذا سأتحاشى الحديث عن مجمل تاريخ علاقتي السحرية بالغراب ، كما سأترك التفاصيل المسهبة لجملة المصادفات اللعينة المتعاقبة حديثا وهي كثيرة الصور ومتشعبة الوجوه ، فأكتفي بواحدة جعلتني ألتفت إلى كل ميراث الغراب الشخصي ، في متحف ذاكرتي وقطب مخيلتي .
كنت قد سافرت إلى القاهرة المصرية يوم 3 فبراير 2015 ، دونما تخطيط اخترتُ أن أمشي كيفما اتفق في وسط البلد ، علّ يافطة فندق ما ، تسترعي انتباهي أو تغوي خيالي ، و لم أتهْ طويلا حتى وجدتني ألتفتُ شمالا حيث أثارني عنوان نزل في شارع محمد فريد تحت إسم « بنسيون روما « . خمنت ربما ستجمعني حكاية غريبة مع هذا النزل . إنّ أول ما جعلني أرومه دون تردّد هي فكرة هاجستني لحظتئذ : أن أتواطأ مع ضلعٍ متخيّلٍ من روايتي الصادرة حديثا « النّهر يعض على ذيله « عن دار «العين» بالقاهرة ، ضلعٌ تشتبك حوادثه الغامضة في مدينة « روما « ، من خلال شخصية « لوكيوس « التي تحيل بقوة إيحائية على الكاتب « لوكيوس أبوليوس « صاحب « الحمار الذهبي « . روايتي الملمع إليها آنفا ، هي الذريعة لزيارتي القاهرة – لأوّل مرة - من أجل لقاء مفترض حول صدورها .
في الطابق الرابع بعد صعود مصعد عتيق ، وقفت إلى مصطبة امرأة أجنبية في الستين ونيّف ، و سألتها عن غرفة . اتضح أنها إيطالية بالفعل ، و تتحدث اللهجة المصرية والانجليزية والفرنسية فضلا عن الايطالية . اقترحتْ عليّ أن أرى الغرفة الفارغة أولا ، واطلعت عليها في الحين ، فاستحسنتُ مواصفاتها ، وكان رقمها هو 3 .
أول شيء وقعت عليه نظرتي في الغرفة : لوحتان معلقتان على الحائط بجوار الدولاب . الأولى لبومتين يتوسطهما وجه كرنفاليّ ، و الثانية لغراب مزدوج مرسوم بأسلوب تراث ( هنود أمريكا الأصليين ) ، واحد بالأسود و الثاني بالأحمر ، ضمن دائرة مختومة برأسيهما ومنقاريهما ، و في منقار الغراب الأحمر ثمة علامة لرقم ( 77 ) .
- غراب الاسكيمو ! نبست بتلقائيّة و أنا أبتسم هامسا: وأما الغراب فالغريب المطوح .
تأملتُ لوحة الغراب مرهقا و أجّلت اكتشاف صاحبها، فقد بدتْ لي لشخص هاوٍ وإن كانت مخطوطة ببراعة إيحائية ، ثم خمّنت بدعابة :
- في روايتي الأولى « موسم صيد الزنجور « ، فصل بعنوان « دورات الغراب الثلاث « ، يتحدّث عن غراب يوقّع ثلاث دورات غامضة من كل يوم في سماء البحيرة ، فهل رقم الغرفة ( 3 ) له علاقة بالدورات الثلاث لغراب « موسم صيد الزنجور » !
زد على ذلك رقم ( 77 ) في منقار الغراب الأحمر ، ربما يحيل إلى السنة التي شهدتْ حادثة ولادتي أي : 1977 !!
استحممتُ على عجل مترنما : « سوى الغربان تحجل في فلاها « . ونمتُ متقلّبا ، أفكر في أطياف المرأة التي واعدتها على اللقاء في القاهرة ، فيما سديم حكاية يهوّم في خلاء رأسي بتأثير من اللوحتين على الحائط في الغرفة ، عن حرب دارت بين ملك البوم و ملك الغربان، سبق لي أن قرأتها في ( كليلة و دمنة : باب البوم و الغربان) وقد ضربها « بيدبا الفيلسوف « مثلا للعدو الذي لا ينبغي أن يُغترّ به ، وإن أظهر تضرّعا و ملقا ، بطلب من دبشليم الملك ، و التي مطلعها : من اغترّ بالعدوّ الذي لم يزلْ عدوّا ، أصابه ما أصاب البوم من الغربان !
كما أسلفت الذكر ، علاقتي بالغربان كانت دائما سحرية، ترجع إلى طفولة مولعة بمجاورة الطيور . الغراب كان ملك قائمة الطيور المفضلة و الأثيرة ، ما من طائر يزاحم منطقته الشاهقة و الفاتنة على رأس عمارة الوحيش في مخيلتي و ذاكرتي ووجداني .
لن أقف هنا عند السيرة الغامضة لعلاقتي المهووسة بالغراب – كما قطعت الوعد آنفا - ، فحضوره العجيب دامغٌ لنصوصي الحكائية ، قصة و رواية ... مجمل الأمر أنني أقرّ بما هاجسني مرّات و كرّات ، في شأن الغراب، أي نعم ، طالما هاجستني فكرة الكتابة عن الغراب بإفراد كتاب خاصّ له ، و كلما حاولتُ استجماع سُدُم خيالي و أشلاء ذاكرتي معا ، لأهندس خطاطة هذا الكتاب المتخيّل ، أجد اللحظة لم تنضجْ خميرتها لإنجاز ذلك ...
في الغرفة رقم ( 3 ) ، في « بنسيون روما » بالقاهرة ، ألفيتني أنظر إلى لوحة الغراب بريبة مبتهجة ، و أنا أهجس : ربما حان أوان هذا الكتاب المؤجل حول الغراب ، و ما المصادفات المتعاقبة مؤخرا ، زدْ عليها هذه اللوحة اللعينة في غرفةٍ - ما هي بمصرية و لا إيطالية - ، إلا مخطابة مضاعفة لي و إليّ ، تلحّ عليّ بملء الإشارة و الإيحاء ، أنْ خذ يا إسماعيل الكتاب بقوة .
بعد روايتي « النّهر يعض على ذيله » ، وجدتُني مهَسْهَسا في مهبّ رياحِ أولمبِ اللعبة القصصية . انتابني هوس الرغبة فاستيقظ النزوع حنينا إلى كتابة القصة القصيرة التي لم أهملها أو أنسها و لم أتنكّر لها قطّ ، بإنجازي لروايتين بالتعاقب ، ومهما يكن من أمرٍ فلم يمْض على صدور قصص « بستان الغزال المرقط « إلا ثلاث سنوات .
من يدري ربما يكون الكتاب القادم حول الغراب ، قصصيّا ! خمّنتُ و لم يكنْ هناك من شيء واضح الرؤية في خرائب ذهني .
قضيتُ سبع ليال في « بنسيون روما « بالقاهرة ، و لم تتبخّر ليلة دون أن أرى حلما كان سيّده هو الغراب ... فسارعتُ إلى تدوين ما رسخ في ذهني من تلك الأحلام في كلّ صباح :
ليلة 4 فبراير 2015 :
« رأيتني أنام مع امرأة* تترك لي تبانها الأسود في كل صباح كأثر للذكرى . أفترشه على السرير وأذهب لأستحم فأجد غرابا قد دخل من الشرفة و يسرقه ... فعلها في المرة الأولى ، فأخفيت تبانها الثاني في الحقيبة ، و فتح اللعين الحقيبة و ظفر به مرة ثانية ، فأغلقت الشباك في المرة الثالثة ، ووضعت التبان بين دفتي مجلد* . غبت لهنيهة و خرجت من الحمّام فوجدت الغراب اللعين قد فتح المجلد و ظفر بالتبان الثالث . وقفت مندهشا أتساءل من أين دخل ؟
تسلل الغراب إلى أسفل السرير و اختفى تحته ... استبشرت خيرا بأن أجهز عليه و أقتصّ منه ، فزحزحتُ السرير لكي أحاصره و أنقضّ عليه ، فصعقني أنني اكتشفت ثقبا مهولا تحت السرير ، ثقب أسود لهاويةٍ لا قرار لها !!! »
** : حاولت أن أتذكر ملامح المرأة دون جدوى . كما عذبتني محاولاتي الفاشلة في تذكر عنوان المجلد . ليلة 5 فبراير 2015 :
« كان الثلج يندف بضراوة و أنا أصنع تمثالا لامرأة في البرية ، فيما الغربان تحوّم فوق رأسي ... صنعت تمثالا ساحرا جعلني أرغب في معانقة و تقبيل المرأة المنحوتة ... كأنّ الغربان فطنت لما ينتابني من رغبة محتدمة في العناق و التقبيل فحالت بيني و بين التمثال إذ صارت تهاجمني في خطوط شكلت جدارا بيني وبين المرأة المنحوتة .
من خلال بعض الكوات في السيل المنهمر للغربان بيني و بينها ، السيل الوحشي الشبيه بنهر من الخطوط السوداء رأيت المرأة / التمثال تبتسم لي كما لو تنظر إليّ من وراء مرآة شيطانية .
قررت أن أخترق السّيل الضاري للغربان المنهمرة بيني و بين المرأة مهما كلف الأمر ، فقد كانت المسافة بيني و بينها شبيهة بجدار من السّخام العاصف . عندما اخترقت سيل الغربان صعقتني بروقُ خطوطها أو انهمارها الخارق ، بعدئذ وجدتني في الضفة الأخرى ، أنا هو تمثال الثلج ، و المرأة تنحتُني فيما الغربان تحلّق فوق رأسها !!! »
ليلة 6 فبراير 2015 :
« رأيتني في زقاق غريب أمشي خلف طيف امرأة مفرطة في البياض – لا علاقة لها بامرأة الحلم الأول والثاني – وقفت عند بوابة كان رقمها هو ( 17 ) . دخلت و تركت الباب مواربا و هي تلتفت إليّ و تبتسم لي ... وقفت على عتبة الباب متردّدا ، ثم جازفت بالدخول . وجدتني في منزل دائري – شبيه بالرياض – تتوسطه حديقة مع نافورة يعلوها مجسّم غراب ، يندلع الماء من منقاره و البيت ثلاثي الطوابق و في كل باب ينتصب غراب على عمود .
أحصيت الغرف فوجدتها سبع عشرة غرفة كما هو رقم الباب ... احترت في أي الغرف سأدخل ، و لم يستأثر بغوايتي إلا مرامُ بابيْنِ ، الباب رقم ( 7 ) و الباب رقم ( 17 ) .
لأنني من مواليد الشهر السابع أي يوليوز و إسمي مكوّنٌ من سبعة حروف ، فضلتُ الغرفة رقم ( 7 ) ، وقفتُ عند الغرفة و حدّجني الغراب المنتصب على عمود جانبيّ بعين مفرطة في النقاء ، صافية بشكل مسرف – كعين الغراب صفوها لم يكدر - ، رأيت فيها وجهي كما لو في صفحة مياه بلورية . لم يكن الوجه وجهي ، بل لإدغار آلن بو ، استغربت كيف صرتُ شخصا مزدوجا ... طرقت الباب و دخلت ، هناك وجدت امرأة في أرذل العمر ، بشعة تماما ، ليس فيها ما يروق النظر إلا ثغرها المفرط في الحمرة ، كان فمها فم فتاة عذراء دون العشرين ... و هي تحتضر في ألم دوّار يعتصرها كخرقة ، صاحت بي ، كأنما تهذي :
- قبلني كيْ أحيا . قبلني كيْ أستعيد شبابي . قبلني كيْ .. أيها الوغد ...
كان إغواء فمها شرسا ، لا يقاوم جنون إغرائه و قدح شهوته ، لكن وجهها البشع كان مرعبا ... دنوتُ منها محتارا و مرتعبا ، هل أقامر بقبلة أم أرجع أدراجي و أهرع خارج النزل الملعون !؟
قبلتها بطيْشٍ ، فوجدتني في أنقاض مدينة تصخبُ سماؤها بطائرات حربية ترشق البلدة بالقنابل المفزعة ، فتتزلزل الأرض دويا و رعبا !!!
كنت أهرع بحثا عن زاوية آمنة ، فلاحت المرأة - هي نفسها التي ظهرت في أول المشهد في الزقاق قبل أن تدلج باب البيت اللعين رقم ( 17 ) - ، ركضتُ خلفها و ألفيتها تلج قبوا . ولجته بدوري فألفيته ملجأ . في الملجأ جمهرة نساء ، كنت الذكر الوحيد بينهن ، و كنّ ينظرن إليّ بشرّ مستطير تخالطه الرغبة والشهوة . بحثت عن المرأة التي دخلت قبلي و لم يظهر لها أثر . بحثت عن مخرج دون جدوى ... تحلّقن حولي ، وهجمن عليّ يجرّدنني من ملابسي حتى صرت عاريا تماما ... ثم بدأن يتعاركن في أمر من ستظفر بمضاجعتي أولا ... اشتبكن ونهشن بعضهن البعض . خرجت طفلة من بين ركام النسوة المتمرّغات ، وأشارت إلى ظلمة في الرّكن . هرعتُ إلى نفق الظلمة ، ركضتُ طويلا حتى سقطتُ من الاعياء ... استيقظتُ في محطة قطار بجوارها كنيسة شاهقة دق ناقوسها سبع عشرة دقة ... لحظتها دخل قطار ، عندما دنوت لأركب دون أن أعرف الوجهة ، ظهرت المرأة في الباب مجدّدا - امرأة المشهد الأول والثاني - ، صاحت بي :
- تمهّل فهذا قطار الجنوب ، قطارك المتجه شمالا انتظره بعد سبع دقائق في السكة الأخرى .
تراجعت عن ركوب القطار ، و عبرت إلى ضفة السكة الأخرى . هناك اصطدم بي شخص سكران وأشعث يحمل زجاجة ويسكي . نظرت إلى وجهه ، فباغتتني ملامحه الأليفة ، إنه « إدغار آلن بو « ! عانقني بحرارة و صاح في ابتهاج ثمل :
- زعم الغراب بأن رحلتنا غدا وبذاك خبرنا الغداف الأسود
استغربت كيف حدثني بلسان النابغة الذبياني ، وأردف على عجل :
- بحثت عنك طويلا أيها الوغد ! لأُسِرّ لك بأن « أمية بن أبي الصلت « من أخبرني بأن رقم ( 17 ) هو رقم الغراب اللعين و المقدس في آن !! »
ليلة 7 فبراير 2015 :
« رأيتني أدخل غرفتي في « بنسيون روما « ، فوجدت شخصا في الشرفة يخفي وجهه بقناع غراب شبيه بأقنعة هنود قبيلة « كواكويتل kwakiutl « . كان يشرب القهوة بالتذاذ وهو يدندن أغنية مبهمة :
- غراب، غربان ، غرابيب !
التفت إلي وهتف :
- جئتك بعشب من الاسكيمو لتدخنّه !
- تعني حشيش الاسكيمو ؟ قلت له بارتياب مغتبط .
- بل العشب الأزرق الذي يحتاجه خيالك كي تحبّر أطلس كتاب « غراب، غربان ، غرابيب « !
دسّ العشب في جيبي و خرج من الباب . توقعتُ أن تصرخ السيدة الايطالية في الخارج . خرجت وراءه و لم أجد له من أثر في الدهليز ، فيما السيدة الايطالية منهمكة في تدوين أرقام ضمن سجلّ ...
رجعت الى الغرفة ووجدت غليونا منحوتا على شكل غراب فوق الطاولة . وضعت العشب في الغليون وجلست مكانه في الشرفة ، ثم أضرمت النار في الغليون ... رشفت الدخان مغمض العينين من فرط النشوة ... ما أشبهه بالحشيش المغربي . حين فتحتهما وجدتني أمام مبنى شاهق ، يشبه قصرا باذخا لمتحف ، و في يافطة البوابة الضخمة مكتوب :
غراب، غربان، غرابيب ! »
ليلة 8 فبراير 2015 :
« رأيتني في خلاء مفرط في القحط ، يتوسطه بئر ، و على عمود البئر يمرح فستان امرأة . وجدتني أتمتم على نحو مبهم :
إذا صاح الغراب به شجاني وأجرى أدمعي مثل اللآلى
كان بي عطش مهول ، فسقطت أجثو على الأرض ، ثم صرت أزحف على بطني ، إلى أن وصلت حاشية البئر بمشقة لائبة ... لم أكترث لأمر الفستان الذي بدا لي مرقطا بأزهار الخشخاش و نظرت من حافة البئر إلى الداخل . كانت البئر بلا قرار و ما من مياه يلوح سرابها في الظلمة الفاحمة ...
هبتْ ريح عندها و سقط الفستان فالتصق بوجهي . كان الفستان عاطرا برائحة امرأة أعرفها تمام المعرفة ، غير أني أجد صعوبة في تذكرها ، خشيت أن تكون قد سقطتْ في البئر ...
تفاجأتُ بوجود دلوٍ على شمالي ، فبسطت يدي إليه علّني أظفر بجرعة ماء ، مال الدلو وسقط ومن داخله حلّق غراب ... »
ليلة 9 فبراير 2015 :
« رأيتني أصطاد في نهر وحشيّ ، فيما غراب يحلّق قريبا منّي في منطقة من النهر لعينة ، شهيرة بغرق أكثر من شخص ... اعتقدت أن الغراب ينبهني إلى شيء ما ... فذهبت إلى المنطقة التي كان يحلق فيها ، و إذا به يمكر بي محلقا إلى الجهة التي كنت أصطاد فيها ، فيتلقف السمك الذي ظفرت به و جعلته في السلّة ...
- لعين ...
الغريب أن الأمر تكرر مرات ، و في لحظة غضب قررت أن لا ألتفت إلى لعبته الماكرة ...
انهمكت في صيد سمك الحنكليس ، و عندما لاحظت صمتا مريبا يدمغ المكان تساءلت أين اختفى الغراب و نعيقه ! التفتُّ خلفي ووجدته يقف ورائي ، لم يكن يتربص بي ليخطف السمك ، بل كان يحمل خاتم امرأة في منقاره . أمدني بالخاتم و تأملت الحجر الأزرق في تاجه . عندها خطرت في ذهني فكرة مرعبة وهرعت إلى حيث كان يحلق و ينبهني مرّات وكرّات . غطست في المياه و غصت مرتادا القعر . انتشلت جثة امرأة نحيلة تملأ جيوبها بالحجارة ... ألقيتها على عشب الضفة و تأملتها :
- كم تشبه فيرجينيا وولف ! »
ليلة 10 فبراير 2015 :
« حلمت بشخص يلبس طاقية حصاد ، وهو يحمل زهرة عباد شمس ضخمة . كان يمشي في شارع مدينة فارغ عن بكرة أبيه . بل المدينة تبدو مهجورة كما لو من مائة سنة . صرت خلفه و أنا أنصت لايقاع حذائه المتغضّن على حجر الشارع المبلط . بدا الشارع طويلا أكثر من اللازم و الصمت الدامغ يجلل المدينة فزعا و رعبا .
هل كنت أمشي خلفه لأعرف وجهه ؟ أم كنت أقتفيه من أجل أن أساله إن كان سيبيعني تلك الزهرة الضخمة ؟
أغوتني زهرته و مشيت خلفه مسحورا و أنا أهمس لنفسي :
- أي حصّاد لعين هذا ؟
مشى غير مكترث ، فحاولت أن ألفت انتباهه ، بأن كنت أضرب بحذائي على الحجر حتى يسمعني ، و لم يلتفت . حاولت أن أصفّر صفيرا حادّا كي أستفزّه و لم يلتفت . حاولت أن أناديه و أصيح به ، بل طفقت أصرخ كمجنون ، و لم يلتفت ... هل يعقل أن يكون هذا الوغد أصمّا !
هنا هرعت كي ألمسه من كتفه . عجبا ! لم أكن أستطيع اللحاق به ، و إن كان يمشي ببطء في ثقلٍ سلحفاتيٍّ... هرعت بملء فتوتي و خفّتي ، و لم أصله ... ركضت و ركضت و ركضت دون جدوى ... ثم سقطت حيث ارتطم وجهي بحجر الطريق و تدمّى ...
عندها التفت الرجل الحصّاد ، نظر إليّ بسخرية ، فعرفت وجهه ، كان هو الرسام « فان غوغ « ... نهضت بخجل و دون أن أمسح عني ما عفّر ملابسي من تراب ، أو دم ، خطوت إليه ... عندها رجع إلى سالف وضعه موليا ظهره لي و استمر في مشيه دون اكتراث ... مشيت خلفه كرّة أخرى و هرعت دون جدوى ... لم أستطع اللحاق به .. صرخت به : فان غوغ . فان غوووغ . فان غوووووووغ ...
أنهكني العياء فتوقفت ، و أنا أصيح غيضا :
- إلى الجحيم ...
في تلك اللحظة رأيته يتوقف كما لو أن جملتي اللعينة شكّتهُ بمهماز . توقف دون أن يتلفت ولمحت زهرة عباد الشمس تتغوّل و يتضاعف حجمها إلى أن صارت شمسا . ظلّ يترنح وهو يتحمل مشقة ثقلها المتفاقم ما يزال ...
من زهرة عباد الشمس اندلعت الغربان و صارت تتطاير بشكل غفير باتجاهي ... اندلقت كنهر جارف وأنا أنتظر أن تصطدم بي ... »
هل تكون لوحة الغراب في الغرفة ، وراء اندلاق هذه الأحلام بالتعاقب في كل ليلة ؟؟؟ ماذا لو مدّدت في إقامتي هناك ؟ هل كانت آلة الأحلام العجيبة ستواصل نديفها السحري ؟؟؟
سأفوّت عليّ الظفر بمجلد أحلام شاهقة حول الغراب إذا ، فالظرف الآثم لا يسعفني في إطالة عمر السفر و تمديد الإقامة ، و السبب سطوة التزامات صلدة ، تجبرني على الرجوع إلى المغرب في الموعد ...
لم ألتق المرأة التي خطّطت معها كي نرى بعضنا البعض هناك في القاهرة بسبب خطب ألمّ بها ، فجعلها تفوّت موعد طائرتها . كتبتْ لي رسالة بعد انصرام أيام ، تقول بأن حمّى غريبة زجّت بها في دوامة مرض كابوسية ، إذ ظهرت سبع بقع سوداء فجأة في أنحاء متفرقة من جسدها ! ربما يكون الأمر عرضا من أعراض مرض خطير ، استطردت هلعا . فكتبتُ لها بمرح :
- لن تكون إلا وشوم غربان ، بزغت فجأة في خارطة جسدك بتأثير من ولعي المفرط بالغربان !
( أخفيتُ عنها أنني رأيت بالتعاقب عبر سبْع ليال، سبْعة أحلام عن الغربان في سفري الذي لم يتوّج باللقاء الموعود . حتما أرهقتني هذه المصادفات اللعينة الممهورة بتواطؤ الأرقام الشيطانية : سبعة أحلام مع سبع بقع سوداء !!! )
كما لم أنجز اللقاء المفترض حول صدور روايتي ، في دار "العين" ، لأن مقر دار النشر فُجِّر ساعات قليلة من الموعد . نُسف بسيارة مفخّخة مع المحلات في " ممر بهلر " ، وتطايرت وريقات مكتبة الدار ، وحلقتْ في مدارات كطيور القيامة ، في سماء ساحة " طلعت حرب " . - تفجير " ممر بهلر " ، لم تتبنّه أيّ طائفة أو جهة و ظلّ مجهولا - .
ومع ذلك ، فإن كان لا يعول على السفر الذي ليس معه ظفر ، وفق ما يقوله ابن عربي ، فأظنّني ظفرت في سفري بكنز الأحلام السبعة التي كانت الشرارة وراء انجازي لهذا الكتاب الحكائي ...
كنت قد التقطتُ صورا للوحة الغراب في غرفة «بنسيون روما « ، و حين رجعت إليها ممعنا في توقيع الرسام، اتضح لي أن إسمه هو : danny dennis ، واللوحة مرسومة بأسلوب فن tshimsian .
« تشيمسيان « هذه قبيلة هنود تمجّد الغراب وتؤسطره إذ توليه مكانة مقدسة في خلق العالم ، بالنظر إلى ارتباطه الوثيق بأطوار تكوين الحلقة الأبدية للولادة و الموت . كلمة tshimsian تعني شعب نهر « سكينا skeena « . و تقع قبيلة « تشيمسيان » في الساحل الشمالي الغربي الأمريكي ، تحديدا في ما يسمى بالساحل الكولومبي البريطاني في كندا ، و قد كان مكانهم فيما قبل هو جزيرة « annette ، آنِتْ « في شمال ألاسكا ، و أشهر حكاياتهم عن الغراب ، هي تلك المتعلقة بسرقة الغراب لنور العالم : « نثر الغراب السمك و الفواكه على طول خارطة العالم حتى يوفّر دائما ما يقتات عليه . خشي أن يجد صعوبة في العثور على نثْر طعامه هذا بسبب ظلمة الكون ، فحلق عاليا من خلال فتحة في السماء و رصد أميرة على ضفة نهر في الجنة ، ثم حوّل نفسه إلى ورقة من شجرة الأرز و طفا في دلوها . عندما شربت الأميرة الماء دخل الغراب إلى جسمها و أصبحت حبلى به ، فأنجبته بهيئة صبي افتتن به الملك و زوجته و سمحا له باللعب بالصندوق الذي يدخر ضوء النهار . ما أن تلقف الصندوق حتى عاد إلى شكل الغراب و فرّ راجعا به إلى الأرض عبر فتحة السماء دائما . ثم حدث أن كسر الغراب الصندوق في فورة غضب فامتلأت السماء فجأة بالشمس و القمر والنجوم ... »
لم أكن قد جانبت كثيرا حقيقة هوية الغراب في اللوحة ، عندما نطقت في أول نظرة لي تقع عليها بتلقائية : غراب الاسكيمو .
إنه غراب التشيمسيان إذا ، من منحني صندوقه العجيب لأكسره بدوري ، فكسرته واندلعت منه شموس وأقمار ونجوم هذه الحكايات !
هكذا اخترت لهذه المحكيات القصصية عنوان الكتاب الذي هجس به رجل الإسكيمو / أو غراب الإسكيمو في الحلم الرابع ، حلم ليلة 7 فبراير 2015 . كما حافظت على الرقم ( 17 ) ، في عدد نصوص الكتاب - بما فيها نص هذه المقدمة - أي رقم الغراب الذي كشفه لي « إدغار آلان بو « في الحلم الثالث ، حلم ليلة 6 فبراير 2015 .
-------------------------
توطئة كتاب (غراب، غربان، غرابيب) الصادر حديثا عن دار العين ، بالقاهرة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.