كان الراحل وسيبقى شاعرا كبيرا بكل المقاييس والمعايير، من هنا كثافة شعره واقتصاد نصوصه، كمن يقطر عطرا غاليا في قوارير معتقة، ذلك أن المصطلي بجمرة الشعر اللاهبة، والعارف حقا بقداسة الشعر وعذابه وعذوبته، لا يمكن إلا أن يحني هامته أمام الشعر. أصدرت المكتبة الوطنية كتابا، وساهمت في تنظيم لقاء ثقافي بمناسبة الذكرى العشرين لرحيل شاعر «الفروسية» أحمد المجاطي، حملا معا عنوان: «شاعر في السماء» شارك فيهما ثلة من الدارسين والشعراء والادباء ممن «عاشروه وأحبوه وتقلبوا معه في ظروف عيش وتجارب أدب ونَصَب مختلف، صبروا عليه، وامتحنهم هو أيما امتحان، بما عرف عنه من مراس صعب، وتشدد في المبدأ، وإخلاص للنفس قبل الآخر، تؤخذ عنده كلا أو تجلى إجلاء»، مثلما يصفهم ويصفه الاديب المبدع أحمد المديني منسق الكتاب واللقاء معا. يتضمن الكتاب بالإضافة الى بطاقة تعريف بالمجاطي وتقديم عام للمنسق احمد المديني وديباجة عن دوام الحاجة الى المجاطي بقلم الاستاذ نجيب العوفي، يتضمن عشر دراسات لأساتذة مختصين، بالإضافة الى مجموعة من الشهادات والنصوص حوله، وحوار مع الشاعر محمد السرغيني حاوره رشيد المومني عن علاقته بالشاعر المجاطي وما تقاسماه من نقاشات حول الشعر وأسئلته وتقييمه لشعره. وفي باب الشهادات الواردة في الكتاب، يمكن أن نرسم للشاعر أحمد المجاطي بورتريها أو صورة فلمية بأقلام متعددة الألوان. - «فقد كان الراحل وسيبقى شاعرا كبيرا بكل المقاييس والمعايير، من هنا كثافة شعره واقتصاد نصوصه، كمن يقطر عطرا غاليا في قوارير معتقة، ذلك أن المصطلي بجمرة الشعر اللاهبة، والعارف حقا بقداسة الشعر وعذابه وعذوبته، لا يمكن إلا أن يحني هامته أمام الشعر. ولا يمكن إلا أن يقشعر منه البدن، وترتعد منه الفرائص أمام لحظة الشعر الخارقة والحارقة، كما يرتعد نبي لحظة هطول الوحي أو نضوبه، ولا يمكن من ثم إلا أن يكون شعره قليلا وجميلا وجليلا كالأحجار النفيسة والاشياء النادرة في هذا الوجود» (نجيب العوفي) «- كان شاعرا مثقفا خبيرا بأوابد الشعر العربي في عصوره، وخباياه، وكان أستاذ العروض المتمرس بالإيقاعات والزحافات والعلل، ومن يقرأ شعره لن يسبر غوره، إلا إذا كان ملما مثله بالشعر العربي قديمه وحديثه، فهذا التعمق في التراث العربي يجعل لقراءة شعره طعما خاصا لأنه يحيل ببراعة على جمل، أو كلمات أو إشارات الى سور من القرآن الكريم، و تضمين الامثال، أو جمل من قصائد عباسية أو أندلسية، وحديثة أحيانا أخرى، وحين عده الباحثون من المؤسسين الرواد للقصيدة المغربية الحديثة، مع الطبال والميموني والسرغيني والخمار الكنوني، أفردوا له مكانة متميزة، لا لم يدع أن الشعر الحديث لم يأت بما لم يأت به الأولون، لإحساسه الصادق بأن الحداثة الحقة لا تبدأ من فراغ « (ابراهيم السولامي) - « بينما كان مستسلما للمخدر في ساعة متأخرة من نهار وليل تكسر غصن وقد أثقلنه الفواكه والريح يا أمة الشجرة له هذا الصخب له عنف انفعالي وجمر الغصب هي كأس تمتع قبلنا منها بشم العرار كل من أسكرته ثمالة كأس قبيل «عشية نجد». وبما أننا نحن من أدرك الكأس فارغة، وعليها كثير من البصمات الرشيقة أصاب زكام عنيف، جميع منافذ أجسادنا ضد تقطير عطر زهور صناعية يا شميم العرار؟ لهذا تخلصت مما عليك من الطين، أسلمت روحك للموت. لو تأخر الموت نصف دقيقة كنت ألقي على عمرك الغض أسئلة خذلتني وأجوبة لم أعد أتذكرها» (محمد السرغيني). - «لدى أحمد المجاطي يخضع الشعراء للإجراء ذاته، هذه هي مقتضيات الموضوعية، أما هواه فقد كان يميل الى صف الخوارج، الى شعر قطري بين الفجاءة خاصة، هذه هي القاعدة أيضا وهناك استثناءات، مثلا: دعبل الخزاعي من الشيعة، وزفر بن الحارث الكلابي من الزبيريين، هنا درس آخر في قبول الاختلاف. ماذا يقول حراس المعنى؟ هنا ذلك فهم آخر للعلاقة بين السياسي (فن الممكن) والشعري (فن ما يجب أن يكون). أساس هذا الفهم أن الكلمة الشعرية لا تنهض على إبراز الاصوات والأدلة فقط، ولكن أيضا على إبراز الحجم الأساسي لإقامة الإنسان في هذا العالم. طرح نظري مثل هذا لابد أن يلتقي فيه مع هايدغر دون ريب، بينما هو - سواء في صمته أو في عباراته - لابد أن يلتقي مع هولدرلين، واما مع رامبو أو معهما معا، العبرة هناك بالشكل، في عمقه وليس في مظهره الخارجي» (محمد بنطلحة). «- إن اسم المعداوي هو الاسم المطابق للحالة المدنية، وهو الذي نجده مكتوبا في أوراقه الرسمية، ولكن لا علاقة له بأسرته ولا بالقبيلة التي ينحدر منها، وإنما فرض على أبيه لدى طلب تسجيل نفسه وأفراد أسرته في الحالة المدنية سنة 1953 على عهد الاستعمار، أما المجاطي فهو الاسم الحقيقي الذي عرفت به اسرته. وكان يجب أن يكون كنيته، لكونه يشير الى القبيلة الاصل، مجاطة، وهي قبيلة من قبائل الاوداية التي خدمت المولى اسماعيل في نطاق الجيش، وبسبب ذلك توزعت على مناطق مختلفة من المغرب كمراكش وفاس وتازة، لكن أباه منع من حمله بدعوى أنه اسم تحمله أسر أخرى أعرق نسبا» (الحسين عزيز). «كان المجاطي سيد النقاشات الجانبية التي تسائل وربما تحسم اختيارات وتوجهات اتحاد الكتاب، وطالما استعمل أسلحته الثقيلة مع المتذبذبين، وبنفس القوة مع السياسيين المخززين، حتى علال الفاسي الذي ناقش أطروحته قبل ذلك، صحبة امجد الطرابلسي، وصالح الاشتر، لم ينج من لسانه وحدته» (محمد الهرادي). - «إن المجاطي، وفر لاختياره الشعري في «الفروسية» كل أسباب الافتتان والفعالية والتفرد والبقاء رؤيا وصناعة وإبداعا، وأغنى ذلك باستقطار مخزون ذاكرته اللغوية والشعرية الخصبة، وبالإصغاء الى روحه المتوترة والمسكونة بالرغبة في الابداع الخالص،. إن الكتابة والشعر أحد تجلياتها، ليست مجرد صناعة تتعلم، بل هي قبل ذلك قلق وسؤال وجوديان داخليان مستبصران، وكذلك كانت روح المجاطي، وكذلك جاء شعره في الفروسية، وبهذا المعنى كان المجاطي رائدا للشعر الحديث بالمغرب، وله مكانته المتميزة بين رواد هذا الشعر بالعالم العربي خلال الخمسينات والستينيات، وبهذا المعنى يمثل شعر المجاطي ذاكرة من ذاكرات القصيدة المغربية المعاصرة وأحد ينابيعها، التي لن تنضب (عبد الحميد عقار). «فالمجاطي أحمد، الذي حضر في حداثة الشعر العربي المعاصر امتلأ به المشهد رغم أنه كان مقلا، على الرغم من أنه كان يوزع قصائده على ورق قابل للتداول بمحبة... ولأن أحمد الذي التزم قضايا الانسان في قضايا أمته كما التزم قضية الحداثة في شعره، فقد أسهم إسهاما مؤثرا، ومميزا في تجذير قصيدته، ومعها في تجذير الحدث الأهم في شعرنا المعاصر» (خالد ابو خالد). - «يتدفق الشعر من صدره صافيا مثلما الماء الزلال من ينابيعه يتدفق، في داخله مرجل ينفس غليله في اللغة، فينقل بها توتره حينا، وحينا تخفيه رومانسيته. لا يفتعل العبارة والصورة، وإنما تأتيانه صاغرتين كلما ألم به مخاض البوح بما يكن. تصعلك في الحياة والشعر، لكن بأناقة رفيعة صارت مضرب الامثال في لسعة اللسان لذلق، هو باللغة كلف، وبالحياة كلف» (عبد الاله بلقزيز). - «هكذا كان حادا في التعليقات والدعابة نظير صرامته في كتابة الشعر، لم يكن يجد حرجا في أن يفصح عن لسعات لسانه لمن لم يتعودوا منه ذلك. سألته مرة، سيدة فاضلة - قرينة أستاذ جامعي مرموق - عن السر في شعبية «طواجنه» التي كان يعدها بنفسه لضيوفه من الاصدقاء حين يدعوهم الى بيته، وعن المديح والإطراء اللذين يكالان الى وجباته. فأجابها: ليس ثمة من سر، كل ما في الامر أنني «أجوع الكلاب» حتى آخر الليل، وحين أقدم لهم العشاء، وهم في ما هم فيه من جوع، يخيل إليهم أن الطعام لذيذ. قد تكون تلك حيلة منه يتوسلها إما للتعذيب، وإما لرفع سوية كفاءته في الطبخ في نظر أصدقائه، وهو كان أهلا لذلك باقتدار في الحيل كبير، لكن المجاطي، قطعا، لم يخدع أحدا منا يوما بشعره: شعره من معدن نفيس يشهد له ولقامته الكبيرة. لم يكن شاعرا. كان الشاعر» (احمد المديني). تلكم بعض من ملامح الشاعر احمد المجاطي، كما يرسمها الباحثون والأدباء من محبيه، وهي فقط شذرات نزعناها من هنا وهناك، بدون سياق أحيانا، فإن كانت تقدم صورة تقريبية لهذا الشاعر الكبير فلابأس، وإن لم تفعل، ففي صحبة كتاب «شاعر في السماء» تجدون الكفاية والعزاء.. وما كل يوم تجود السماء... بأبنائها الشعراء من قامة المجاطي.