ما الذي تغير في واقع حياة المرأة بالمغرب؟. الجواب الأكيد هو: الكثير. لأن دورها ضمن منظومة إنتاج القيم مغربيا، مؤثر ووازن. بل، إن المرء يستطيع الجزم، أن من عناوين التحول التاريخية الكبرى، التي راكمها المغاربة، في صيرورة حياتهم ووجودهم، ضمن باقي التجارب المجتمعية بالعالم، إنما هو كامن في الدور الذي ظل للمرأة في المجتمع. وهذا يفرض أكيد أشكال مقاربة تحليلية لابد أن تكون متجردة عن الأحكام المسبقة والكليشيهات الإعلامية الرنانة. مناسبة ثامن مارس، كاحتفال عالمي بالمرأة، انتصارا لما تمثله من دور في بناء المجتمعات، هو فرصة لنرافق بعضا من عناوين التحول في بروفايل المرأة المغربية في بداية القرن الجديد. وهي محاولة هنا، تريد لفت الإنتباه إلى معنى من معاني أن يكون الإنسان امرأة في مجتمع مثل المجتمع المغربي. وأول مداخل هذه المحاولة، هي الإطلالة على ملمح من ملامح ممارسة المرأة للحياة، في مدينة مثل الدارالبيضاء، اخترنا لها نماذج، يمكن توصيفها بأنها عنوان للمرأة العاملة، في مدينة عمالية مثل العاصمة الإقتصادية للمغرب. ثاني النماذج، السيدة خديجة، حاصلة على الإجازة في الحقوق، فلاحة بإقليم الجديدة. صادفتها في القاعة 7 بمحكمة الإستئناف بالدارالبيضاء، من خلال محام صديق يرافع عن ملف قضائي لها، مرتبط بنزاع حول استغلال مؤقت لجزء من أرض فلاحية تشرف عليها، ضد شركة فلاحية خاصة، متخصصة في تصدير الطماطم. شقراء جميلة، لكن في نبرة صوتها حدة صوت البداوة التي لا يخطؤها السمع، وصراحة الفلاحين الذين لا يترددون في التحدث بنبرة مرتفعة. مثلا حين طلبت منها، في بهو المحكمة التحدث دون حاجة لرفع الصوت، بادرتني بالجواب: «مالنا تانخاونو» (لم هل نسرق؟). هي في الثلاثينات من عمرها، غير متزوجة باختيار كما تقول، لأن «الذكورا كثار، لكن الرجال قلال» (الذكور كثر، لكن الرجال قليلون). لا يمكن أن لا تثيرك بطبيعة شخصيتها، المتمكنة من القانون ونصونه المدنية والجنائية. بعد الإستماع لتفاصيل قصة مشكلتها القضائية، وكيف أنها مصرة على انتزاع ما تراه حقا طبيعيا لها، في الإستفادة من جزء من مداخيل مبيعات تلك الشركة الفلاحية الخاصة، التي تستغل جزء من أرضها الفلاحية التي ورتثها عن والدها، بادرتها بسؤال استفزازي: أليس السبب في عدم زواج سيدة مثلك، يعود إلى طبيعة مزاجك الحاد؟. ضحكت عاليا، وقالت هذه نعمة من وجهة نظري وليست نقمة. الزواج التزام ومسؤولية، وسيأتي في أية لحظة، لكن بشكله العادي والطبيعي. وهي تتحدث، كنت أتأمل معنى آخر للمرأة المغربية، تلك الصاعدة من رائحة التراب، وفي ملامحها وفي لغتها وفي طرائق تعبيرها، كانت تتقاطع صور نساء مغربيات بدويات، من أزمنة متعددة. ولا يمكن للمرء الفكاك من السؤال، أليست النطفة هذه آتية من ذلك الرحم العتيق لمعنى أن يكون الإنسان، امرأة في المغرب؟. وضوح في الرؤية، صرامة في الموقف، تصالح هائل وكبير مع الذات. سألتها، لم اخترت مجال الفلاحة، وأنت درست أصلا الحقوق؟. أكدت أنها نالت الإجازة من كلية الحقوق بالدارالبيضاء، لأن عائلتها انتقلت منذ سنوات إلى هذه المدينة العمالية، بواحد من أحيائها الشعبية (حي سباتة)، وأنها منذ صغرتها ظلت الوحيدة التي كانت ترافق والدها، كل صيف للوقوف على عمليات الحصاد في أرض أجداده الفلاحية، التي احتفظ بأجزاء مهمة منها، بعد أن باع كل أشقائه وشقيقاته حصصهم من الإرث لشركة فلاحية هناك، بمنطقة دكالة (بالضبط بالبئر الجديد). وأنها حين أصبحت طالبة، أصبحت هي من يذهب وحدها للإشراف على عمليات الحصاد، بعد أن أصبحت سن الوالد لا تسمح له بالسفر الدائم إلى هناك. وبعد وفاته، أصبحت هي المسؤولة عن تلك الأرض بتكليف من كل عائلتها. ومع توالي السنوات، أصبحت ملتصقة بالأرض تلك أكثر، وأصبحت فلاحة بكل ما للكلمة من معنى. هي تؤكد باعتزاز، تعكسه نبرة الصوت، أنها لم تكن تتردد في أن تشمر عن ساعدها وتلبس سراويل الجينز، وتنخرط في عمليات الحصاد بنفسها، مما كان يجعل باقي العمال من نساء ورجال، يضاعفون من طاقتهم في العمل. لأنهم يعزونها كثيرا أنها «بلدية» (أي أصيلة). هل تحس نفسها مقصية في المجتمع، كونها امرأة؟. ضحكت عاليا وقالت بلا تردد: «أنا بميات راجل (أنا بمئة رجل). المرأة امرأة والرجل رجل، وكلنا سواسية أمام تحديات الحياة. حقي حقي وأتقاتل من أجله». هذا يعني أنه لا يحضر في ذهنها وفي واقعها أبدا، أنها مقصوصة الجناح، لمجرد أنها امرأة، بل هي في تصالح تام مع شرط وجودها كأنثى. والقيمة العليا عندها هي العمل. بل إنها ستطلق في وجهي جملة، تكاد تلخص أطروحة كاملة، حين قالت لي، ما معناه: «ترف مشاكل المدينة لا تعنيني. أنا ابنة زماني، لكنني لا أكذب على نفسي. أعرف قدري كأنثى، وأعيش كامرأة، عليها واجب مساعدة والدتها وأشقائها الصغار، وحماية أرض والدي رحمه الله». هي ربما تقصد، أن الحياة ليس فيها ما يكفي من الوقت لتضيعه في الإنتظار أن يجود عليه الواقع بدور ما، بل هي تنتزع ذلك الدور وتمارسه، كإنسان. أليس هذا معنى آخر من معاني أن تكون امرأة في المغرب؟. خاصة وأن لخديجة أشباه كثر على طول البلاد وعرضها. وأن قيم المدينة، بمعناها الإستهلاكي الجديد، هي التي رسخت واقعا نمطيا للمرأة في مجتمعاتنا اليوم. خديجة، تملك سيارة خاصة بها، وهي سيارة ليست سياحية، بل سيارة مهنية. تؤكد أنها أصبحت تشارك من خلال المكتب الجهوي الفلاحي لمنطقتها دكالة، كل سنة في المعرض الوطني للفلاحة بمكناس، وأنها لا تعتبر نفسها فلاحة إقطاعية غنية، بل هي مجرد، امرأة مغربية تعيش من الفلاحة، بما ترعاه من أرض ورتثها العائلة عن والدها، والتي تصل إلى 9 هكتارات، في منطقة سقوية. والتحديات الحقيقية التي تعتبر أنها تواجهها، هي تلك التي تتعلق بواقع العلاقة بين صغار الفلاحين مثلها، مع الشركات الفلاحية الكبرى. وهي تقول بقسم بدوي: «والله مانحي ليهم الراس» (والله لن أحني رأسي لهم). هنا المعركة معركة حقوقية بمعنى اجتماعي وليس بمعنى فئوي كونها امرأة. هذا أمر مهم، تمثله في معان أخرى لأن يكون الإنسان امرأة في المغرب. أي أن المقاومة هنا، هي مقاومة منها بصفتها إنسانا، مواطنة مغربية، وليس بالضرورة بصفتها امرأة. هذا معنى آخر، قليلا ما ننتبه لأهميته كعنوان آخر من عناوين «تامغربيت».