في منتصف السبعينيات شرعت وزارة الأنباء في ممارسة الرقابة القبلية على الصحف. كلفت الوزارة محمد الماجدولي مؤقتا بمهمة الرقابة على الجرائد الصادرة بالدارالبيضاء مثل البيان، ومغرب أنفورماسيون ولاماليف. كان الماجدولي مضطرا، بسبب مسؤوليته الإدارية كمندوب جهوي، للقيام بهذه المهمة. كان يطلع بسرعة على محتوى الجريدة التي يحضرها مبعوثها في المساء ثم يعطي هاتفيا "الضوء الأخضر" للمسؤول على التحرير بطبعها. وطيلة مدة اشتغالي مع الماجدولي، لم يعترض أبدا على محتوى أية جريدة ما دامت هي نفسها كانت تمارس رقابة ذاتية. ذات مرة سيطلب مني الماجدولي مساعدته في مراجعة الصحف الصادرة بالفرنسية. شرح لي طريقة القراءة السريعة للصحيفة مع التركيز على الصفحة الأولى. وطلب مني أن أخبره هاتفيا، في منزله داخل المحطة، بالعناوين الأساسية التي عالجتها الجريدة. لا أنكر أنني تضايقت في البداية من طلب المندوب، خاصة لأن دوامي الذي يبدأ في الثامنة صباحا قد يستمر إلى العاشرة ليلا. وفي ليالي الشتاء، يكون صعبا علي التنقل بدراجة نارية من طريق مديونة إلى محيط مقطع ولد عايشة. كان مكوثي مساء بمقر الإذاعة بعد مغادرة العاملين هو ما أثار انتباه بعض التقنيين. لما عرفوا السبب، "نصحوني" بمغادرة المحطة كباقي العاملين دون إشغال نفسي بأمر الرقابة لأنها، كما قالوا، من اختصاص المندوب الجهوي. تجاهلت "نصيحتهم" في البداية فنظام المؤسسة الذي كنا نخضع له، ينص على ضرورة إنجاز المهام الموكولة للموظف من رؤسائه وإلا اعتبر رفضه خطأ مهنيا. لكن عودة جماعة التقنيين لشحني ضد المندوب، ورغبتي في الظهور أمامهم بمظهر الرافض للاستغلال، جعلني أنساق لحيلتهم. هكذا، ذات مساء غادرت المحطة حينما كانوا يستقلون الحافلة، ولمحت في أعينهم ما يشبه المكر. وفي الطريق، أحسست بالمقلب وفكرت فعلا في العودة إلى عملي، لكن المطر كان قد بدأ يهطل، فواصلت السير. في الصباح الموالي، التقيت محمد الماجدولي في المصعد. حينها قال لي بالحرف جملة ما زالت إلى اليوم، وبعد أربعين سنة، في ذهني، كما لو أني سمعتها بالأمس القريب : - مصطفى لن أثق فيك بعد اليوم. اعتبرت ما قاله في حقي أقسى من كل تأنيب إداري، خاصة وأن أصولي الاجتماعية الشعبية وثقافتي الإنسانية كانت على النقيض تماما من أن أكون يوما محل عدم ثقة. وبطبيعة الحال فسرت له أن الأمر حصل بسبب ظروف قاهرة. بعد ذلك اليوم سأكتشف في محمد الماجدولي، جانبا مشرقا. فهو لم يكن شخصا "يرضع أصبعه"، كما يقال. بل كان يتوفر على ما يكفي من التجربة المهنية ليفطن بسهولة بأنه تم التأثير علي من قبل بعض الماكرين، وأنا ابن 23 سنة. والحال، كما فهمت فيما بعد، كان هو رغبة هؤلاء في افتعال خلاف بيني وبينه لما رأوه يكلفني بمهام كان يستبعدهم منها لعدم قدرتهم على إنجازها أو لصداع الرأس الذي سيتسببون فيه لو طلب منهم إنجازها. كانت تلك سحابة صيف مرت. ثم ما لبثت الوزارة أن أسندت مهمة الرقابة، مؤقتا، إلى صحفي خارجي كان يشتغل بجريدة لوماتان. كانت محطة عين الشق إبان إدارة محمد الماجدولي خلية نحل. والأجمل في كل ذلك هو جو الحميمية بين مكوناتها. كان عدد المراسلين ثلاثة، اثنان لهما باع طويل فيها، هما المرحوم عبد الرحمان مجد (الذي بدأ حياته في التعليم) والأزدي الميلودي (موظف سابق في قطاع العدل)، وأنا حديث العهد بالمهنة. وكان المرحوم أحمد زكي بوخريص ينوب عن المندوب أثناء غيابه. وكان من بين المتعاونين كمال لحلو، والمعلق الرياضي المرحوم محمد الزوين. وكان النفوذ الترابي لمحطة عين الشق يمتد إلى الأقاليم المجاورة. وقد ذهبت مرات لتغطية أحداث وطنية أو محلية بالجديدة وسطات وخريبكة وبني ملال والمحمدية ووادي زم وأبي الجعد. كان الماجدولي أيضا شخصا خفيف الظل. وهنا أسوق مثالا صغيرا : ذات يوم توجهنا إلى عين الذئاب لتغطية عرض موديل جديد من السيارات. كنا صحفيين اثنين ومصورا برفقة المندوب. كانت الشركة المنظمة قد أعدت مائدة عليها مشروبات مختلفة. طلب زميلي الصحفي عصير ليمون، ولما ارتشف جرعة أحس بالامتعاض. سألني الماجدولي عن سبب امتعاضه، فقلت له إنها حموضة الليمون. تذوق الماجدولي نفس العصير ووجده طبيعيا، فقال لي: "زميلك الصحفي لو رأى وجهه في المرآة لما أعجبه". وانفجرنا ضاحكين. كان الروبرتاج الخارجي كثيرا ما يتم من مطار محمد الخامس. وهناك، ذات مرة، سأشاهد طالبا سابقا في دفعتي بفرع كلية الحقوق (ساحة ميرابو) يرتدي زي الخطوط الملكية المغربية، هو جواد مديدش، رئيس القسم الاجتماعي اليوم بأسبوعية لافي إيكونوميك. سوف أشاهده لآخر مرة في بداية 1975، لأنه سيعتقل بسبب انتسابه السابق إلى منظمة "إلى الأمام". في طريق العودة من المطار، ونحن في السيارة، كنت أنهمك في صياغة المعلومات التي حصلت عليها من عين المكان ربحا للوقت. وعند الوصول إلى الإذاعة كنت أعيد كتابة الخبر حريصا على الدقة. ثم أتصل بالصحفي المداوم في قاعة التحرير المركزي لأنقل إليه الخبر. لم يكن وقتها قد ظهر الحاسوب ولا الهاتف المحمول. وهنا أستحضر واقعة مسلية حصلت في بداية مشواري. ذات مرة غطيت وصول وفد تجاري روسي إلى المطار، وحين عدت إلى المحطة وشرعت في نقل الخبر لرئيس التحرير بالرباط، سألني هذا الأخير عن اسم رئيس الوفد الروسي. ارتبكت أوراقي فتبعثرت أمامي ولم أعثر على الاسم. ومن حسن الحظ أن محمد الماجدولي أنقذ الموقف. أخذ مني الهاتف، وقال لرئيس التحرير : - وما عسى اسمه يكون، فكلهم خروشوف أو سوسلوف أو ياكوف. خذ اسما وزده "أوف" في الأخير، والسلام. وضحكنا جميعا. تعلمت حينها من الماجدولي ضرورة تسجيل الأسماء بدقة فور وصولي إلى موقع الحدث أو قبله. وعند الاقتضاء طلب بطائق الزيارة. وكان حرصي على تجميع بطائق الزيارة، لكونها تضم الاسم والصفة والهاتف ومعطيات أخرى، قد أصبح عادة عندي حتى أني لما اشتغلت في مجال التواصل، كملحق صحفي، كان المدراء يطلبونها مني عند الحاجة. أما الدرس الآخر الذي تعلمته بإذاعة الدارالبيضاء في بداية مشواري، فهو الوصول إلى مكان الحدث قبل الوقت المحدد. وأذكر في هذا المضمار أنه ذات مرة، كلفت بأخذ تصريحات رؤساء وفود رياضية حلت بالدارالبيضاء في إطار لقاء عادي. كان الاجتماع مقررا في الثانية عشرة، لكن محمد الماجدولي، نصحني بأن نسارع إليهم في التاسعة صباحا. لم أسأله لماذا نبكر في الذهاب، فالرجل يعرف ما يقول. حللنا بفندق إقامتهم فأخبرتنا موظفة الاستقبال بأن بعضهم يفطر وبعضهم في غرفته. ولم تمر ساعة حتى كنا قد انتهينا من أخذ التصريحات وكافة المعطيات والملف الصحفي. بمعنى آخر كنا نتوفر على تسعين في المائة من عناصر التغطية وموعد الاجتماع لم يحن بعد. لأسباب شخصية منها رغبتي في متابعة تكوين أكاديمي في الصحافة وأسباب أخرى اجتماعية، قدمت استقالتي من الإذاعة والتلفزة المغربية. وأعتقد جازما أن تجربتي الإذاعية رغم قصرها كانت حافزا لدي ورافدا معرفيا استفدت منه في حياتي حتى أنني خصصت لتلك التجربة مع محمد الماجدولي فصلا كاملا في سيرتي الذاتية التي نشرتها دار لارمتان في باريس سنة 2012. خريج المعهد العالي للصحافة، عضو اتحاد كتاب المغرب