سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
ذو الرشاد:ضغوطات الداخلية على التلفزيون أدت إلى استفحال مرض الطاهر بلعربي قال إن بعض الإعلاميين اضطروا إلى مغادرة مجال الإعلام بسبب الإذلال الذي تعرضوا له
في جلسات حوار مطولة، هي على شكل اعترافات، تحدث الزميل محمد ذو الرشاد، وهو من أبرز الإعلاميين المغاربة، الذين وضعوا اللبنات الأولى في العمل المهني، في حقل السمعي البصري، عن معارك خاضها رفقة زملاء له آخرين، من أجل إصلاح الأوضاع داخل التلفزيون المغربي. وتطرق إلى تفاصيل ملموسة لتدخل وزارة الداخلية في توجيه التلفزيون المغربي. وقارن بين ماضي القناة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وحاضرها. وقدم حكايات أخرى عن تجارب له في أمريكا وفي منطقة الخليج، قبل أن يعود مجددا، في اعترافاته، ليتحدث عن القناة الأولى، وهو الذي كان من نجومها، في وقت من الأوقات، يشرف على نشراتها الإخبارية ويقدمها في بعض الأحيان, ويغطي ويواكب أنشطة الملك الراحل الحسن الثاني، سواء داخل أو خارج المغرب. - لنعد إلى موضوع الإطاحة بوزير الإعلام، آنذاك، عبد اللطيف الفيلالي، كان في تلك الفترة حديث عن الملف الذي تقدمتم به. ماهي تفاصيل ذلك الملف المطلبي؟ الملف المطلبي كنت وراءه شخصيا. عندما عين السيد عبد اللطيف الفيلالي على رأس وزارة الإعلام، رأت النواة التواقة إلى الإعلام المهني في شخص عبد اللطيف الفيلالي الرجل المناسب الذي يمكن أن يقف إلى جانبنا، لما كنا نلمسه فيه في مختلف المناصب التي تولاها من حرفية ومن شفافية وانفتاح. فقررت أنا وأحمد الزايدي كتابة تقرير لوزير الإعلام الجديد، واستشرنا زملاء آخرين، لكن معظمهم رفض، ولم ينضم إلينا إلا زميلان آخران. دخلنا إلى مكتب قريب من غرفة التحرير وكان أحمد الزايدي يطبع وأنا أملي عليه تفاصيل التقرير ومطالب العاملين في قسم التحرير بالتلفزيون، وانتهينا بتقرير في 11 صفحة. - وماذا كانت مطالبكم؟ تضمنت المطالب أشياء بديهية، من قبيل أن يكون للصحفيين في غرفة التحرير حق اختيار الموضوعات التي يرونها مناسبة في ترتيب الأخبار، وحق الصحفيين في إعطاء المساحة اللازمة لأي خبر من الأخبار حسب قيمة الخبر, لا حسب قيمة الشخصية التي يتحدث عنها الخبر، لأنه في ذلك الوقت كان وزن الشخصية التي أنت تغطيها هي التي تتحكم في طول الخبر أو قصره وموقعه في النشرة، بدون أي اعتبار للمضمون. وفي الأوقات التي يكون فيها النص أقصر من الصور، كان الفراغ يملأ بالموسيقى، وهذا لم يكن موجودا في أي مكان في العالم سوى في الدول المتخلفة، بل إن بعض المحطات ما تزال تتبع هذا الأسلوب إلى وقتنا هذا. ونحن ما كنا نعتقد أبدا أننا نعمل في دولة يمكن نعتها بالتخلف. توجهنا إلى وزارة الإعلام (الأخ أحمد الزايدي ومحمد المودن وأنا)، وسلمنا الرسالة إلى مكتب الوزير. استقبلنا المرحوم عبد اللطيف الفيلالي وخاطبنا بكثير من الترحيب والود، وكان بشوشا وتكلم معنا بصراحة. وأوضحنا له أن أم مشاكلنا هي أن بعض القائمين على التلفزيون لم تكن لديهم أي دراية بالعمل الإعلامي لا من قريب ولا من بعيد. وما كان قصدنا أن نحصل على مناصب أو ترقيات، بل كان هدفنا أن نحسن أداءنا داخل غرفة التحرير بمواصفات مهنية مقبولة. فسألنا إن كان هناك من يمنعنا من القيام بذلك. فأخبرناه بأن هناك أناسا متسلطين يقحمون أنفسهم في الشأن الإخباري دون وجه حق. وكان أيضا من ضمن النقاط المطروحة الفصل بين إدارة ومالية التلفزيون والأخبار، لأن المحطات العالمية تضع «جدارا ناريا» يعزل الأخبار عن صفقات التلفزيون المالية والتسييرية حتى لا تؤثر في خطها التحريري. وبفضل هذه الخطوة عين الفيلالي مديرا للتحرير، وهو الأخ عبد اللطيف لسلامي، وكان أستاذا في المعهد العالي للصحافة، وبعده تم تعيين الأخ الصديق معنينو مديرا للأخبار، وأعتقد أنه بعد ذلك تم تعيين المرحوم الطاهر بلعربي. وكانت تلك المطالب سببا وراء استحداث منصب مدير الأخبار بالتلفزيون. أتذكر أنه قبل ذلك التعيين، دعينا إلى اجتماع مع المدير بناء على توجيهات الوزير الفيلالي لفتح حوار حول مطالبنا، وقال لنا المدير إنه استلم تقريرا من مكتب الوزير، وأن التقرير يتحدث عن الفصل بين الأخبار وإدارة التلفزيون. وبضحكة ساخرة، قال: هل يعقل أن تطالبوا بمثل هذه الأشياء؟ فطلب مني الحديث، وشرحت له وجهة نظري في الموضوع، وتكلم الأخ أحمد الزايدي في نفس الاتجاه ثم الأخ المودن. ثم جاء دور مجموعة من الزملاء، ونطق أحدهم، وهو اسم بارز في التلفزيون ولا أزال أذكره بكل خير، بجملة واحدة، قال فيها بالحرف: «السيد المدير، كل ما قاله السيد ذو الرشاد، أنا لا أتفق معه». لم يقدم زميلنا أي تبرير لأسباب رفضه لكل ما قلته، كما لم يقدم أي بديل. ثم عادت حليمة إلى عادتها القديمة، إلى أن تدخل الوزير مرة أخرى، وتم تعيين مدير للأخبار، مما ساعد على تحسين أدائنا المهني إلى حد ما. سنة بعد ذلك، كان هناك برنامج شهير يقدمه الدكتور المهدي بن عبود، وكان يتحدث في إحدى الحلقات عن المغفور له محمد الخامس وكيف كان يتعاطى مع المقاومين، وربما نبس بنعبود بكلمة لم ترق لوزير الداخلية ادريس البصري، فأبلغ المرحوم الملك الحسن الثاني، وربما استأذنه أيضا لوقف البرنامج على الهواء. اتصل الوزير البصري بالتلفزيون بعد ذلك وتم وقف البرنامج، ويحكى أن ذلك كان من أسباب اتخاذ الملك قرار ضم وزارة الإعلام إلى حقيبة إدريس البصري، وتحول التلفزيون إلى ما أصبح عليه فيما بعد. - وكيف تعامل الصحفيون ومديرو الأخبار مع هذا الوضع بمراقبين من وزارة الداخلية داخل غرفة الأخبار؟ كنت قد غادرت التلفزيون وهاجرت إلى واشنطن للعمل في إذاعة «صوت أمريكا»، وكان قد مضى عام كامل بعد رحيلي عندما تم تعيين البصري في منصبَي وزير الداخلية والإعلام، ولكن بين الفينة والأخرى كنت أزور المغرب وبقيت على اتصال مع الزملاء المقربين العاملين في التلفزيون، وكان من بينهم المرحوم الطاهر بلعربي الذي عانى الأمرين من مندوبي وزارة الداخلية وتعرض لكثير من المضايقات. وظل المرحوم بلعربي يراسلني عبر البريد ليروي لي قصص الظلام التي كان يعيشها باستمرار، وقصص الجهل الذي كان يتحكم في مصير محطة تلفزيونية كانت ساعتها الوحيدة في المغرب، وكيف انقلبت الأمور إلى أن تحول التلفزيون إلى مقاطعة من مقاطعات وزارة الداخلية. وما زلت أحتفظ برسائله، حيث كنا مقربين جدا إلى أن رحل رحمه الله. وأعتقد بأن هذا الرجل، الذي كان بالنسبة إلينا قدوة لأنه كان من جيل الرواد وأفنى حياته في خدمة التلفزيون، قرر بسبب تلك المضايقات الانتقال إلى مونتريال للعمل في سلك الديبلوماسية، وأعتقد أن ما حدث له في نهاية حياته المهنية في التلفزيون كان سببا في استفحال مرضه. فقد أسر لي بالكثير من الأشياء التي كانت وراء تدهور حالته الصحية وهو في كندا. كان رجلا يحب الدعابة وكان ينظر إلى الأمور بنظرة فلسفية، بل وكاريكاتورية، وهذا الرجل تمت تنحيته بالطريقة التي لم يكن يتقن فنونها إلا أصحاب الداخلية آنذاك. كانت المضايقات قد أصبحت كابوسا يوميا بالنسبة إليه وإلى عدد آخر من العاملين، فانسحب الرجل وذهب إلى كندا وهناك أجريت له عملية جراحية في الكبد، وللأسف لم تنجح العملية، وفقدنا ذلك الرجل الذي كان يلقبه المغاربة باسم «فيتنام»، بسبب تقديمه ملف الأخبار الدولية التي كان يفتتحها باستمرار بأخبار حرب فيتنام. كان محبوبا لدى الجميع، لأنه كان علامة من علامات التلفزيون، وطبعا لم يكن وحده في هذا، لأن كثيرا من الرواد الذين قامت على أكتافهم الإذاعة والتلفزيون في المغرب لا تجد لهم ذكرا اليوم، فبعضهم رحل عنا، مثل المرحوم محمد بناني الذي ترك التلفزيون قبل عهد الداخلية بوقت طويل، ومنهم من فضل خوض غمار مجالات أخرى خارج العمل الإذاعي والتلفزيوني، من أمثال الأخ محمد بنددوش، ومنهم من انتقل إلى مناصب أعلى خارج التلفزيون كالأخ الصديق معنينو، ومنهم من رفض العمل تحت وصاية الداخلية من أمثال الإعلامي إدريس عطرسة, رئيس التحرير ومقدم الأخبار باللغة الفرنسية، والمذيعات المتألقات لطيفة القاضي وبديعة ريان ولطيفة الفاسي وخديجة المراكشي، ومنهم من استبعد ونكل به وتعرض لشتى أنواع الإذلال، أو تقاعد، هذا مع العلم أن مجال الإعلام، إلى جانب الديبلوماسية والقضاء، لا معنى فيه للتقاعد. كيف تحيل على التقاعد وجوها إعلامية بارزة ربما كان يمكن أن تفيد في توجيه الشباب وتأطيره؟ فالطاهر بلعربي وغيره، ذهبوا ضحية سياسة همجية ارتكبت في حق الإعلاميين، وأدت إلى تقهقر المغرب في المجالات الفنية والإبداعية، ولهذا أرى أنه في تلك الفترة انتقل المغاربة من الإبداع الحقيقي المنافس والقوي، إلى ما نشاهده اليوم على الشاشة من فنون معظمها هابط ولا يليق بمستوى المغرب. مختصر القول، إن تلك الحقبة الظلماء ما تزال آثارها موجودة إلى اليوم، وقد تستمر لفترة طويلة.