بمناسبة مرور سنوات على الترخيص القانوني، وبدء العمل العلني للحزب الشيوعي الأردني يوم 17/1/1992، بعد سنوات من المنع والمطاردة، قضى خلالها غالبية قيادات الحزب شبابهم وأياماً صعبة قاسية مريرة من حياتهم هم وعائلاتهم في السجون وما كابدوه من حظر العمل ومنع السفر، أسوة بمعاناة مماثلة لباقي الأحزاب اليسارية والقومية : حزب الشعب الديمقراطي، حزب الوحدة الشعبية، حزب البعث العربي الاشتراكي، حزب البعث التقدمي، كرّم الحزب بهذه المناسبة عدداً من أصدقائه الذين وقفوا معه وساندوه مادياً ومعنوياً، وكنت أحد المكرمين . ولا شك أن غيري قدّر هذا التكريم وسعد به، ولكنني كنت الأكثر فرحاً واحتراماً لهذه الالتفاتة الكريمة، والأشد مباهاة بها، نظراً للدور الذي قمت به في ذلك الوقت، حين تعرفت إلى الراحل الملك الحسين، من خلال عملي لدى صحيفة الدستور، أتاح لي فرصة تقديم مجموعة من الأفكار والاقتراحات أدت نتائجها إلى تحولات وطنية عميقة في مسار بلادنا السياسي الداخلي، ونقلت الدولة الأردنية ونظامها السياسي من دولة محافظة عنوانها الكبت، ورفض الآخر، ومحاربة الشيوعية، إلى دولة تتبنى التعددية وتقر بها وتحترمها . لقد شهد بيتي المتواضع اللقاءات المتصلة والجلسات المتقطعة، كانت حصيلتها عبر الحوار السياسي والإنساني المباشر، إطلاق المصالحة الوطنية بين الراحل الملك حسين وبين القيادات الوطنية : يعقوب زيادين وعيسى مدانات، وتيسير الزبري وسالم النحاس، وعزمي الخواجا وحمدي مطر، واحمد النجداوي وتيسير الحمصي، ومحمود المعايطة وفؤاد دبور، والشخصية البارزة المحامي الراحل ابراهيم بكر ومعه فارس النابلسي وغيرهم، وأثمر ذلك كله عن ولادة فكرة الميثاق الوطني، وتشكيل اللجنة الملكية لصياغة هذا الميثاق، وهدف هذا إلى تحقيق غرضين : أولهما إرساء المصالحة الوطنية بين مختلف الأطياف الفكرية والمكونات السياسية الأردنية، بدءاً من الإخوان المسلمين وانتهاء بالشيوعيين وما بينهما . وثانيهما صياغة وثيقة وطنية مُتفق عليها تشكل مرجعية فكرية لمختلف التيارات السياسية والحزبية الأردنية، وهكذا كان، حيث تم تشكيل اللجنة الملكية برئاسة احمد عبيدات شارك فيها ممثلون من مختلف الاحزاب والتيارات والشخصيات السياسية، وصياغة وثيقة الميثاق الوطني التي تم إقرارها في مؤتمر وطني اجتمع في قصر الثقافة، وأقر الوثيقة، التي تحولت إلى ثاني أهم مرجعية سياسية بعد وثيقة الدستور الاردني لمختلف الاطراف السياسية . مع الراحل الملك حسين، أدى الصديق عدنان ابو عودة دوراً اساسياً جوهرياً في عملية الحوار والانتقال وبلورة الافكار الخلاقة، ومع الراحل الشريف زيد بن شاكر أدى الأصدقاء الوزراء علي السحيمات وابراهيم عز الدين أدواراً رسمية لتسهيل تنفيذ ما تم التوصل اليه، وخاصة بشان شروط الترخيص والتي تم تحديدها بالقبول العلني من قبل الأحزاب اليسارية والقومية بالعناوين الثلاثة وهي : 1- الدستور الأردني باعتبار نظام الحكم نيابيا ملكيا، و2- الميثاق الوطني وما حوى من رؤى ومفاهيم وقواعد ارتكازية للعمل السياسي الأردني، و3- قانون الأحزاب المفترض أن تتم صياغته وفق وثيقتي الدستور والميثاق . التحولات التي جرت في بلادنا، على اثر هبة أبريل 1989، ونتائج الحرب الباردة 1990 عالمياً، والنتائج المدمرة لكارثة حرب الخليج 1990 – 1991 عربياً، أدت إلى بروز العقلانية والحس بالمسؤولية والتحلي باليقظة لحماية بلادنا، وتحقيق الوحدة الوطنية، وإسناد الشعب العربي الفلسطيني في انتفاضته التي انفجرت عام 1987 واستمرت، رغم خسارتها للرافعة الدولية، ممثلة بالاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي الذي مزقته الحرب الباردة، وافتقادها للعامل العربي المساند الذي انقسم بفعل الاجتياح العراقي للكويت، وتدمير العراق ووضعه تحت الحصار الخانق حتى سقوط نظامه القومي عام 2003، هذه العوامل لعبت دوراً في إعادة صياغة الوعي الوطني انذاك بدءاً من رأس الدولة جلالة الملك وأداته الفكرية الواعية عدنان ابو عودة، وكذلك لدى الأحزاب اليسارية والقومية وأداتها الفكرية الناضجة ابراهيم بكر . اليوم أتباهى بما فعلت، لأننا جميعاً في معسكري الدولة والمعارضة أخرجنا بلادنا من مأزق التبعية، وعدم الذهاب إلى حفر الباطن، والصمود الجماعي في وجه الضغوط الخليجية والاميركية، وقطع المساعدات عن الأردن، ومواصلة دعم الشعب العربي الفلسطيني وتشكيل مظلة حماية له بالوفد المشترك لمؤتمر مدريد 30/10/1991 الذي سعى العدو الاسرائيلي لأن يكون مؤتمراً لتصفية القضية الفلسطينية، انعكاساً لنتائج الحرب الباردة، ونتائج حرب الخليج المدمرة . شكراً للحزب الشيوعي الأردني في ذكرى ترخيصه وعلنيته والتقدير العالي إلى عدنان أبو عودة وعلي السحيمات وإبراهيم عز الدين الذين أوفوا للأردن وأخلصوا له، ولا يزالوا، الأردن التعددي الباحث عن الديمقراطية وصناديق الاقتراع، والأمن والعدالة والمساواة لكل أبنائه .