المتتبع لحياة المهدي و عطائه سيتضح له انه شخصية نادرة و سابقة لأوانها و قد ظل رحمه لله مؤثرا في الاحداث تتسم رؤاه السياسة ببعد النظر و الاستباقية، و هذه الميزة جعلته ذاكرة حية لا تنسى رغم كيد الكائدين , و غيابه مند 1965 لم يكن خسارة فقط للاتحاد بل خسارة كبيرة للبلاد و للقوى الحية فيه و خسارة ايضا لجميع الشعوب المستضعفة من العالم الثالث و جميع الحركات التحررية التي تناضل من اجل تحريرها . هذا و بدون مبالغة فان استعراض منجزات المهدي نجدها لا تعد و لا تحصى ، يصعب الالمام بها في مقال او كتاب . تم ان السياسة المنتهجة من طرف الحاكمين في المغرب لو صارت على النهج الذي رسمه المهدي و ناضل من اجله لا ستعاد المغرب جميع اراضيه من موريتانيا و كولمبشار و توات و تندوف و الصحراء المتنازع عليها منذ سنوات و لم يعد ضمن البلدان السائرة في طريق النمو و سيصنف من الدول المتقدمة على جميع المستويات الاقتصادية السياسية و الديمقراطية يتمتع فيه المغاربة بجميع الحقوق و الحريات و الاستفادة من ثرواته . اعتاد الاتحاد الاشتراكي تخليد ذكرى الشهيد بن بركة في 29 أكتوبر من كل سنة و هو التاريخ الذي تم فيهاختطافه و اغتياله الفظيع . و في 29 اكتوبر من هذه السنة بعد مرور 50 سنة على اغتياله في ظرفية خاصة وإضفاء طابع خاص على الذكرى يتعلق الأمر بالوضع الحالي الذي يعيشه المغرب حيت ترأس الحكومة السيد بنكيران الامين العام لحزب العدالة و التنمية المحسوب على المرجعية الدينية في ظل دستور جديد ليكون اول حزب يستفيد من المنهجية الديمقراطية المنصوص عليها في دستور 2011 رغم حداثته في السياسة كحزب . و انتهجت حكومته سياسة تضرب في العمق المكتسبات التي ناضل من اجلها الشعب المغربي و في مقدمته القوى الحية في البلاد . وتتجلى هذه المكتسبات بالأساس في بناء الدولة الحداثية و الديمقراطية الحقة و دولة المؤسسات , قوية في اختياراتها الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية لإخراجها من التخلف و رواسب الاستعمار و محو الامية و صيانة كرامة المواطن و تمتعه بجميع حقوقه و حريته و مشاركته في القرارات المتعلقة بالشأن العام بواسطة ممثليه الحقيقيين . اما بالنسبة للحزب فقد جاء تخليدها يوم 29 اكتوبر في سينما رويال من طرف القيادة الحزبية الوطنية و في 30 اكتوبر تم تنظيم ندوة بالمناسبة تحت اشراف صديق المهدي و الكاتب الأول السابق الأستاذ اليوسفي الذي توصل برسالة ملكية تشيد بشخص المهدي لأول مرة في التاريخ و ذلك في المكتبة الوطنية و قد يشاطرني الرأي الكثير من الإخوة في الاتحاد سواء في الأجهزة الحزبية أو في قواعده في أن تكون هذه المناسبة فرصة لردء الصدع داخل الحزب و ذلك بفتح حوار جدي اتحادي اتحادي يتمخض عنه لم الشمل و التفاف الجميع حول الحزب وفاء لروح المهدي . و أنذاك سينزل الله عمليا السكينة على قلوبهم و يؤلف بينها ليزدادوا ايمانا مع ايمانهم , و ما ذلك على لله بعسير . وكان الامر يسيرابوجود الكتاب السابقين اليوسفي و اليازغي الراضي و كفاءات حزبية كثيرة لأن هؤلاء يتوفرون على ما يكفي من الحكمة و الحنكة السياسية انطلاقا من تصريح الكاتب الاول الاستاذ لشكر حول الاتصال بهم و مبادرته الرامية الى فتح حوار في الموضوع و إدكاء الحزب و تقويته لتحقيق الغاية المتوخاة من ذكرى الشهيد بعد مرور خمسين سنة من اختطافه و اغتياله و ذلك باستحضار قولة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد كمؤسسة في إحدى اجتماعات اللجنة المركزية خلال الثمانينات « اذا مات الحزب نحييه من جديد « لذلك اخطأ كل من يعتقد أن الاتحاد سينتهي لأنه تجذّر في ذاكرة الشعب المغربي و ما زالت طائفة عريضة من المناضلين أوفياء لحزبهم و ثابتين على المبدأ مؤمنين بأن الحزب بدأ قويا و سيعود قويا كما كان . أما بالنسبة للشهيد المهدي بن بركة فما زال ذاكرة حية بعد مرور خمسين سنة على اختطافه و اغتياله بالحي اللاتيني بفرنسا و ذلك في ظروف معروفة و أخفيت آثاره في ظروف لا تزال غامضة في مجملها حتى الان , و بهذا الاختطاف يظل في الذاكرة الزعيم التقدمي المغربي الذي فقدته حركة التحرر الوطني في المغرب و في بلدان العالم الثالث رائدا من روادها الاكفاء و مناضلا صلبا من مناضليها المخلصين . لقد غاب المهدي مند خمسين سنة و ترك فراغا هائلا ربما لا تزال آثاره و نتائجه تظهر حتى الآن , و هو لا يزال يعيش في نفوس إخوانه المحافظين على العهد و لا تزال ذكراه في ذاكرة هؤلاء الذين عرفوه و عاشروه و عملوا معه و لم يتغيروا رغم تغير الأحوال و المكان و الزمان مخلصين و أوفياء للمبادئ التي تربى عليها سياسيا في مواجهة الرجعية و الإقطاعية وأعوان الاستعمار الجديد الذين استحوذوا على ثروات المغرب و هي برجوازية هجينة لا تعرف إلى الحس الوطني سبيلا و أصبحوا أداة معرقلة لأي إصلاح و احتلت مراكز القرار السياسي و الهيمنة على الثروات، و هذه الشرذمة التي يطلق عليها القوى الثالثة و يسميها الاستاذ اليوسفي بجيوب المقاومة و تسعى في البلاد فسادا باختلاسها للمال العام و نسف أي حكومة تحاول المساس بمصالحها .و يشهد التاريخ بدوره الريادي حول مطالب الحركة الوطنية ثم بناء طريق الوحدة و المجلس الوطني الاستشاري الذي يترأسه كبرلمان ذا طابع استشاري و لا يزال كثير من الناس لا يعرفون عطاءات المهدي خدمة لمصلحة البلاد كما لا يعرفون دوره ايضا في نطاق حركة التحرر العالمية ، و هذا الدور الذي يقوم به في هذا الاطار مكنه من نسج علاقات وثيقة مع رؤساء و زعماء من العالم الثالث خاصة جمال عبد الناصر في مصر و بن بلا في الجزائر ونكروما من غانا و سيكوتوري من غينيا بيساو و هوشي منه في الفيتنام و تيتو في يوغسلافيا و غيرهم . و بذلك كان من لبنات الفكر الوحدوي و هو الذي كان وراء التقريب و التنسيق بين القارات الثلاث أسيا امريكا اللاتينية , و افريقيا و بذلك تآمرت عليه اسرائيل و امريكا لما شعرت بان هذا التنسيق يهدف الى تأسيس قطب دولي ثالث سينافس القطبين الامريكي الرأسمالي و السوفياتي الشيوعي , و كان ذلك احد اسباب اختطافه و اغتياله قبيل انعقاد المؤتمر التأسيسي لهذا القطب بكوبا , كما ان السبب الثاني قد ساهمت فيه عناصر من داخل البلاد كان يتزعمها الجنرال اوفقير حيت ان عودته الى المغرب و تقربه الى تلميذه الملك الحسن الثاني رحمه الله سيضر بمصالحهم لذلك اسرعوا في المساهمة في اختطافه و اغتياله و على اثر هذه الجريمة تمت ادانة افقير من طرف القضاء الفرنسي في حين تمت تبرئة الدليمي بناء على شهادة احرضان . و للتذكير فقد صدر حكم غيابي في حق المهدي رفقته بإعدامه في حملة القمع التي باشرها السفاح اوفقير ضد الاتحاديين بدعوى اكتشاف إعدادهم لزعزعة امن الدولة وسلامته . هذا و قد ظل الشهيد المهدي حريصا على قيام علاقات متينة بين النخبة السياسية و الجماهير الشعبية ، و هو صاحب رؤية خاصة لتدبير مرحلة ما بعد الاستقلال و سعى الى بسط اختيارات كبرى ، كان على المغرب أن ينهجها و يتعلق الأمر بتطور المغرب المستقل حتى يلحق ركاب العصر و التنمية ، و هو صاحب الفكرة المتعلقة بضرورة تعلم الفتاة المغربية و اصلاح حالها حتى تكون عاملا قويا في رقي المجتمع و سعادته إلا ان تدافع المصالح و السلط التي تنازعت في شأنها شرعية المقاومة و الحركة الوطنية بعد رحيل الاستعمار و ما نشأ عنه من مخاض بين القوة المحافظة و بين القوة التقدمية الحداثية افضت الى الانفصال عن حزب الاستقلال و تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوة الشعبية سنة 1959 و كان الصراع بين القوتين حول مسألة الاقتصاد و الديمقراطية . فبالنسبة للقوة المحافظة فتسعى الى التبعية للمعمرين فيما يخص مسالة الاقتصاد و اشراكها في تولية المصالح في حين يرى الجناح التحرري الذي يتزعمه المهدي و رفاقه الى تحرير الاقتصاد و اما فيما يخص الديمقراطية فان الجناح المحافظ لا يرغب في اقامتها خلافا للجناح التحرري الذي يناضل و يضحي من اجلها الاتحاد الى الان بعدما تم الانفصال عن حزب الاستقلال و تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية . و ثبت بعد تأسيس للحزب الاخير انه اصبح قويا و يحظى بدعم من اغلبية رجالات الحركة الوطنية و المقاومة و جيش التحرير . و على ضوء هذه المساندة تم تعيين المرحوم عبد الله ابراهيم رئيسا للحكومة و تولى المرحوم عبد الرحيم بوعبيد وزيرا للمالية و المهدي رئيسا للمجلس الاستشاري على شكل برلمان , و هذه الحكومة التي لم تعمر إلا ثمانية عشر شهرا و تم اقالتها, و تولاها ولي العهد الحسن الثاني انداك . رغم هذه المدة القصيرة لحكومة الاتحاد فقد انجزت مشاريع لا تعد و لا تحصى في جميع الميادين الاقتصادية الاجتماعية و السياسية و بما تجدر الاشارة اليه ان الشهيد المهدي لم ينحصر دوره في مهامة كرئيس للمجلس الاستشاري بل امتد الى المساهمة في مشاريع الحكومة و التنظيم الحزبي و النقابي. اما خارج البلاد فكان دوره الريادي في تأسيس قطب ثالث بعد امريكا و الاتحاد السوفياتي و يتعلق الامر بالقطب للعالم الثالث من افريقيا و اسيا و امريكا اللاتينية . و مما لا شك فيه ان اختطافه و اغتياله جاء نتيجة تخوف القوى الثالثة في البلاد على مصالحها بعدما شعروا بان الملك الراحل المرحوم الحسن الثاني كانت له الرغبة في عودة المرحوم بن بركة حسب ما جاء عنه في عدة روايات و بذلك وقع الاسراع باغتياله و كذلك الشأن بالنسبة لأمريكا و فرنسا و اسرائيل و غيرها من القطبين لان القطب الثالث سيضر بمصالحها . وهكذا فبعد اقالة الحكومة سنة 1960 بدأت السياسة المنتهجة من طرف النظام الحاكم و اتباعه تتجه نحو منعطف جديد يتجلى في سياسة لا ديمقراطية و لا شعبية و انعكست سلبا على تطور البلاد و تخلفه عن عدة مواعيد مع التاريخ و اوصلت هذه السياسة البلاد الى الباب المسدود و هي ما سماها المرحوم الحسن الثاني السكتة القلبية و يعني بها الفشل ، و بذلك وقع الاختيار على الاخ المجاهد عبد الرحمن اليوسفي لتشكيل حكومة الانقاد . لكن بعدما تأسست مشاريع للانقاد و الانفراج السياسي وقع نسفها من طرف جيوب المقاومة و هي القوى الثالثة علما بان اليوسفي اتخذ قرار المشاركة بانفراد و غامر بالحزب و لم يستمد قراره في المشاركة من مؤسسات الحزب الذي يعتبر من صلاحية برلمان الحزب (اللجنة المركزية ) خلافا لما كان عليه المرحوم بوعبيد الذي اعتاد اللجوء اليها في الشاذة و الفادة . و انتقدناه انذاك و نحن في اللجنة المركزية لكنه تحمل الصبر الناتج عن اخلاصه لوطنيته . اما الحسن الثاني رحمه الله فجاء اختياره لليوسفي ككاتب اول للحزب فيعتبر نقدا ذاتيا منه و معبرا عن عدم الثقة في محيطه طيلة اربعين سنة تميزت بمحاربة الاتحاد بمختلف الوسائل و الاشكال. اختطف المهدي و قتل المرحوم عمر بنجلون و فشلت مؤامرة اغتيال الاخ اليازغي بواسطة الطرد الملغوم حيت انفجر عليه و نطفت اصابعه و اثرت على جهازه السمعي و ما زالت اثار الجروح في انحاء جسده و رغم ذلك كان اليازغي يتحلى بالجرأة في المواقف و دوره في التنظيم الحزبي و لا اعتقد ان اي مسؤول في القيادة السياسية سيعرف التنظيمات الحزبية و المناضلين اكثر منه . و في هذا الصدد فقد صدق الاخ المالكي رئيس اللجنة الادارية في قوله بان استقالة اليوسفي و اليازغي هي السبب الرئيسي في الازمة التي يعاني منها الحزب و ذلك اثناء استضافته في برنامج من طرف القناة الاولى خلال الشهر المنصرم . و لا يفوتني بدوري ان اضيف ان عددا كبيرا من المناضلين جمدوا نشاطهم بعد المؤتمر الوطني التاسع و منهم ايضا من التحق بأحزاب اخرى و منهم من يتهيأ لتأسيس حزب جديد لإضعاف الحزب و هنا اعتقد ان تأسيس حزب لا يؤدي الى اضغاف الاتحاد فقط بل إن الحزب المزمع تأسيسه سيكون بدوره ضعيفا لا محالة، شأنه شأن حزبي الطليعة والمؤتمر الوطني . و هكذا اعود الى وثيقة الاختيار الثوري للمهدي و التي تتضمن تشخيصا واقعيا و واضحا و رصدت الاخطاء القاتلة التي وقعت فيها الحركة الوطنية منذ انفجار معارك الاستقلال ثم بداية مواجهة ضغوطات تتنازع السلط و الشرعيات و يتعلق الامر بأنصاف الحلول مند ان تكرست كمنهج سياسي ثابت في تسوية مسالة النضالات و الصراعات في نطاق مغلق دون ان يعرف الشعب عنها شيئا و اخرها غياب الوضوح الايديولوجي و تحديد واضح لسقف الاهداف المتوخاة تحقيقها .و خلاصة القول ان المتتبع لحياة المهدي و عطائه سيتضح له انه شخصية نادرة و سابقة لأوانها و قد ظل رحمه لله مؤثرا في الاحداث تتسم رؤاه السياسة ببعد النظر و الاستباقية، و هذه الميزة جعلته ذاكرة حية لا تنسى رغم كيد الكائدين , و غيابه مند 1965 لم يكن خسارة فقط للاتحاد بل خسارة كبيرة للبلاد و للقوى الحية فيه و خسارة ايضا لجميع الشعوب المستضعفة من العالم الثالث و جميع الحركات التحررية التي تناضل من اجل تحريرها . هذا و بدون مبالغة فان استعراض منجزات المهدي نجدها لا تعد و لا تحصى ، يصعب الالمام بها في مقال او كتاب . تم ان السياسة المنتهجة من طرف الحاكمين في المغرب لو صارت على النهج الذي رسمه المهدي و ناضل من اجله لا ستعاد المغرب جميع اراضيه من موريتانيا و كولمبشار و توات و تندوف و الصحراء المتنازع عليها منذ سنوات و لم يعد ضمن البلدان السائرة في طريق النمو و سيصنف من الدول المتقدمة على جميع المستويات الاقتصادية السياسية و الديمقراطية يتمتع فيه المغاربة بجميع الحقوق و الحريات و الاستفادة من ثرواته . اما بالنسبة للحزب فيجب على الاتحاديين و الاتحاديات ان يكونوا خير خلف لخير سلف و يصبح الحزب قائدا و متزعما لجميع القوى الحية و التحررية في العالم المتخلف . رحم لله المهدي و من سار على نهجه الذين انتقلوا الى جوار ربهم مصداقا لقوله تعالى : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا للَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ) صدق لله العظيم .