أمام الساقي جلست . تداعب حافة كأسها ، تمرر أناملها فوقها في شكل دائري لا نهاية له.و بين الدائرة و الأخرى ترتشف بعد أن تحرك الكأس مؤججة الثلج داخله . رشفتان متتاليتان و ضحكة خجولة . لا تهتم لأحد في الحانة الفاخرة،فهي الشقراء بينهم بقوام ممشوق و عينين سوداوتين و شفاه تشع احمرارا كلما انعكس النور الخافت عليها. تداعبه مراقصة ذهنها على إيقاع عازف البيانو . الساقي يراقبها و ينتظر أن يسكب لها أخرى... هي تعشق ما يدور حولها،تعشق زحف الثلج لشفاهها،أعينهم التي لا تنفك تطاردها رغم وجود غيرها من بني جنسها في الحانة . آخر رشفة .. بسرعة أنهتها و ابتسمت للنادل آذنة له بالسقي. بابتسامته المعهودة نحوها اقرب و أخد يسكب و يتأمل الحمرة من الشفتين في جنبات الكأس و لسان حاله يتمنى لو نال قبلة أو اثنين بدل الكريستال بيدها . سكب نصف الكأس مرة أخرى . وضعت الكأس ذو الساق الطويلة بين أصابعها و قد لفت خنصرها حوله كما تلتف الحية بالضحية . وقفت ذات الكعب العالي و انتقلت نحو عازف البيانو بخطوات مثقلة و سيمفونية كعب أنست ذكور الحانة أنغام الموسيقى،فالفرق لم يتغير بين النقرة و الأخرى مؤلفا مزيجا موسيقيا جديدا بين آلة البيانو و آلة هي الأبرع في استخدامها،الكعب العالي. في طاولة قريبة منها يجلس الرجل الغريب،يطل من الزجاج أحيانا،يتأمل مطر الربيع و غالب الوقت يحدق فيها و يحاول فك طلاسمها ككل نهاية أسبوع. يرتدي بذلة رسمية،ربطة عنق كلاسيكية عنبية اللون و حذاء. يحرك عينيه يراقب خطواتها نحو العازف،يتأمل تضاريس جسمها تعابير وجهها و ابتسامتها ،لكنه في بحثه لا يجد جوابا عن ماهية شعورها . يتساءل،هل تراه هي أيضا ؟ يجيب نفسه بالنفي دون أن يكمل مارا لسؤال آخر ، ما سر سعادتها ؟ في الحانة خدعت الجميع،تلك الابتسامة التي من ورائها جرح لم يصله أحد،الكل يراقبها إناثا و ذكورا. اليوم يرتشف من بقايا كأسه شجاعةً،و يتقدم نحوها،سيسألها أن تراقصه في محاولة التقرب منها لعله يفوز بها الليلة . ارتشف،وقف،تقدم نحوها و عينه لا تفارقها . لم يحادثها بل اكتفى بمد راحة يده نحوها فقط. ابتسمت،في خجل وضعت الكأس على أقرب طاولة..أمسكت يده و بدأت بالرقص،تمايل الجميع بتمايل خصرها لكنه لم يحرك ساكنا،يمسكها من ظهرها و هي تتراقص تارة و يطلقها حرة تارة أخرى مكتفيا بثوبها. و في خضم الرقصة يسألها : - ما اسمك ! اقتربت هامسة في أذنه : لندع الأسماء جانبا فلنا وقتها بعد انجلاء الليل . ابتسم رغم أنه لم يفهم من كلامها شيئا و هو من اتخذ السؤال فقط لمعرفة الطريق نحو إنارة ماضيها . الماضي الذي سيقتله. دقائق رقص انتهت لترافقه نحو الطاولة. تجلس دون مساعدة منه،يرفع يده مشيرا للنادل . تسأله كأس ك التي اعتادتها دائما،و قبل أن يسأل رفيقها تقاطعه «سنشرب من ذات الكأس «في ذهنه يتساءل لم نفس الكأس؟لكنه لا يجيب بل يستمر باحثا عن آثار شفتيها ليشرب من نفس المكان كما يفعل العشاق،رغم أن مرتبة العشق بعيدة عن موعدهما الحالي إلا أنه يريد الاقتراب بصورة أسرع.فقد كان منها أن بادرت الشرب من نفس الكأس و هو عليه اقتفاء آثارها . أدار الكأس ببطء،تأمل جيدا الآثار على الحافة،كم هي متجلية و واضحة تنير طريقه و تشجعه ل الآت. أنهيا الكأس سويا . ولم يتحدثا أبدا بل اكتفيا بالنظر لبعضهما . و هو يراقبها،فتحت حقيبتها،أخرجت قصاصة ورق و قلم،كتبت عليها شيئا ما. ثنت الورقة و مدته إياها ثم غادرت . نادى على النادل قصد الدفع. فتح القصاصة لعله يجد عنوانها لكنه وجد حديثا غير مفهوم.كتبت له : « لا شيء شخصي،قد يعيد الماضي نفسه لكن الحية أبدا لن تموت بسمها « لم يفهم شيئا ، أعاد الورقة لجيبه هم بالمغادرة على أمل رقصة أخرى الأسبوع المقبل . هي تقف أمام نافذة غرفتها المقابلة للحانة تراقب خروجه . على بعد خطوات من الحانة و تحت زخات المطر سقط جسده الفارغ من الروح دون أن يراقصها مرة أخرى . أغلقت ستائر النافذة، اتجهت نحو السرير و هي تردد « لا شيء شخصي» . 31/07/2015 - - - - *: أحد النصين الفائزين مناصفة في مسابقة «مليكة مستظرف» للقصة القصيرة المخصصة لطلبة الجامعات والمعاهد الوطنية المنظمة في إطار الدورة الرابعة للمهرجان العربي الرابع للقصة الذي نظمته جمعية التواصل للثقافة والإبداع بالصويرة من 18 إلى 20 دجنبر الجاري.