لست متخصصا في تقنيات الفن السينمائي كتابة أو نقدا، ولكنني، رغم الخمول عنها - لا أتابع جديدها وأخبارها - أتلذذ كثيرا بالمشاهدة من فينة لحين. وغالب الأفلام التي شاهدتها نصحني بها أصدقاء ملمّون بتقنيات الإخراج والصناعة السينمائية. فقد وصلني، -مثالا لا حصرا، (مؤخرا)! - مع رسالة صديق من فلسطين، فيلم «مخيم اليرموك». حيث توقفت لأول مرة على مرارة الحقيقة التي لا ترفعها الشعارات... وهو فيلم شبه وثائقي يفعمنا باللذة ويحاصرنا بالمعاناة. إذن فلولا هذا الصديق لما كنت شاهدت الفيلم أبدا. ولا أخفيكم سرا، فأنا مصاب بالسينوفوبي؛ حين تنطفئ الأضواء أترك مقعدي وأدخل الشاشة ولا أستطيع العودة إلى الواقع إلا عبر انهيار. لهذا لا أغامر بدخول قاعات السينما، وأفضل أن أدفن رأسي في ألوان لوحة مثوىً بها في جناح منعزل من متحف قديم، أو أستنشق ديوانا... فعلى الأقل، اللوحة مثبتة بالبراغى على صدر جدار مدجج بالأنوار. والقصائد محاصرة ببياض الورق. لا يهمنا هذا الكلام، إنه لا يصلح حتى لكتابة سيرتي الذاتية. ولكن بعض الكلام قد يكون سيرة ثم مسرحية وأخيرا فيلما. وفعلا هذا ما وقع حين سهوى فواز بشارة، التي حاولت اغتيال أنطوان لحد الموالي وجيشه لإسرائيل، وبعد سنوات عدة من السجن والتعذيب، تكلمت؛ كتبت سيرتها، فقام وجدي معوض الكاتب الكندي من أصل لبناني بتأليف مسرحية تشبه السيرة إلى حد كبير، وتعتمد عليها في أغلب المشاهد. وتمكنت العدوى من دينيس فيلنوف، فكان فيلمه الرائع والمهول في آن معا «حرائق». ظننته فيلما عن الإرهاب، في البدء، والغرب ومن لا يعرفه، له حصة في ولع البروباجندا. فالأسود عنده مجرم، والعربي إرهابي. لهذا كان لي حكم سلبي مسبق عن فيلم «حرائق» من خلال ملصقه الإعلاني؛ (وبعض الملصقات، كما أغلفة الكتب توحي لنا بغير المضمون، وأحيانا تضع بيننا وبينها ما يقرف أو يخدش). صورة الملصق: امرأة ملقاة حسيرة وسط الرمال، وحافلة تأكلها النيران! كانت البداية ثقيلة بعض الشيء من جراء الحوارات بلكنة كندا الفرنسية. وأنا في خضم مشاهدة الفيلم، فاجأني ابني، وهو يقبلني للنوم، إذ انتبه إلى الشاشة، بقوله مبتسما: «آياياي، تشاهد ال»حرائق»، خذ بالك من قلبك، بابا». وهنا أحسست أنني أمام روعة ما، وبهشاشة ما وضعته بيني وبين هذا الفيلم من شكليات ملصقه وعنوانه. وابني، ثقة لأنه يهتم بالسينما وينتج بعض الأفلام الوثائقية القصيرة. الفيلم لا يحدد المكان، ولكنه يصطحبنا خطوة خطوة، عبر إدراج الأحداث الماضية في الأحاديث الحالية، مشدودين بمتانة حكيه ومشدوهين أمام ألغازه، وقبل التحول المفاجئ الأخير (فك اللغز والتعرف على الحقيقة)، يصطحبنا إلى أجواء الحرب الأهلية اللبنانية. رغم أن المخرج حاول بوسائل شتى أن يبعد لبنان عن وقائع الفيلم. وكأنه أراد أن يخرج الأحداث عن زمكانها، لتصبح رمزا فقط لما قد تفعله الحرب، هنا أو هناك، اليوم كما غدا. توأمان في عز شبابهما، ذكر وأنثى، فقدا أمهما التي بغتة، وهي في رحم الماء بمسبح ما، انتابها ذهول مفاجئ هالك، كما سكتة بطيئة ومزمنة. ومن يظن أن بالماء نارا محرقة، وحكاية حرب غادرة؟ تركت الأم وصية غريبة ورسالتين لكل منهما. ومهمة البحث عن أب - المعلوم عنه أنه ميت - وعن أخ - لم يكن وجوده معلوما. وكما وسط اليم يبدأ الفيلم بحثا عن يابسة مفقودة. بحثا عن التراب لترسو السفينة في أمان، بحثا عن موطئ لجثمان ولهوية (من بين تعليمات الأم أن تدفن مقلوبة إن لم يفك اللغز). وأما الهواء فحين يتردد اسم «نهاد» كالعاصفة... مرجعيته البروز (برز : ظهر، بان، طفا، شاع...). أم تبحث عن مولودها الأول، فيبرز الموت كي تبدأ الأحداث وكأنها قروح لصيقة بالأرض كيفما كانت وطنا أو ملجأ. المكونات الأربعة تفشي خميرتها في هذا الفيلم الجيد. ال»حرائق» يخترق حواسنا بلحن الغياب. ولا نفهم شيئا، نتتبع إبطاء حركة الكاميرا الشديد. مصحوبة بموسيقى «راديوهيد»، متوقفة على نخلة خلفها الخلاء. ثم على نافذة تراقب النخلة والخلاء... ونحن خارج الشاشة، في انتظار مريب، نحدس بوقوع شيء مهول ما، نستمتع رغم ذلك باللحن وبالمشهد الطبيعي، تجرجرنا النافذة الهوينى إلى الداخل. النافذة نعم إلى الخارج ترى، ولكنها تخبئ ما يجري خلفها وما قد جرى... ونرى فيما نراه رؤوس أطفال تحلق... (هل سجن أم ميتم؟) في عيون الأطفال غضب وسخط وحزن عميق ويد الحلاق لا مبالية. نلمح جنديا يمسك برشاش ويجلس القرفصاء، ثم جنديا آخر هناك، ونكتشف أن الحلاق بدوره جندي. وتطيش بنا الكاميرا الهادئة لتتوقف عينها على وشم يصبح لغزا إذ سيصادفه البصر، بعد ذلك ذات ولادة. ترى ما يقوله اللحن، لحن فرقة الروك الإنجليزية «راديوهيد؟ وهل هي رمز آخر من رموز الفيلم؟ أم أن المخرج أقحمها لجمالية ما؟ أو لما فيها من تواتر بين شدة ولين يساهم في خلق الدهشة والتشويق لدى المشاهد؟ ثم فجأة تطفر بنا الكاميرا بتقنية لذيذة لتحط بنا في حاضر ما أمام كاتب عدل يقرأ وصية امرأة ماتت تطلب منه أن يدفنها عارية، وجها إلى الأرض، دون تابوت أو شاهدة باسمها عليها. والمرأةُ الملقاة أمام الكاميرا، في زنزانة ما رهينة للتعذيب والوحشية، صامدة صابرة صامتة إلا عن الغناء نتابعها في جو رهيب تغتصب، بين غنائية الصورة وواقعية الحدث، وبين الارتجاعات الفنية والتحقيقات، وكأنها في كل لحظة تُبعث لتغني بالعربية (ما غنيته لابنتي ذات شباب وهي رضيع) : «نامي نامي يا صغيرة... تا نغفى عالحصيري...» هذه الأنشودة التي وصلت مسامع العالم عبر الصوت العذب الجميل لأميمة الخليل، والتي أصبحت من بين التهويدات التي تباع في الشرق كما في الغرب كي يستمتع بها الصغار قبل النوم. هل كانت المرأة تهدهد بها ذكرى وليدها المنتزع منها، المفقود؟ أم كانت تهدهد الطفلة فيها كي يصبح الواقع حلما مزعجا ليس إلا؟ طفلان من لبنان، هجِّرا لظروف قهرت أمهما إلى كندا، وقدر عليهما يتيمين عبر وصية أمهما البحث في الآن نفسه عن الأب المجهول وعن الأخ الضائع... هل الهجرة؟ أم العودة؟ أم الهجرة العودة في آن، هو موضوع هذا الفيلم؟ الإنسان حين يرغم على الهجرة تضيع منه الحقائب العزيزة، فيقتني حقائب عديدة لا تسع ألم ذاكرته وترغمه دائما على الرحيل. بلى، ربما موضوع الفيلم هو الاستمرار في الغياب لأن العودة صدمة كبرى. تنتصب اللاعودة، إذن، في موت الأم بكندا، ودفنها مقلوبة، بعيدا عن ثرى وطنها الحبيب. والعودة إلى الوطن المزعوم لم تكن سوى عودة تحقيق في القضية؛ من ابن من؟ من أخو من؟ من أبو من؟ ومن زوج من؟ وسط خراب الحرب الطائفية اللعين. اقترحت الفيلم على أسرتي، وشاهدناه في صمت إلى آخره، ولم ننبس ببنت شفة إلا حين شهقت ابنتي بالبكاء. فهل بكت لأنها تذكرت تلك التهويدة الجميلة «نامي نامي يا صغيره...» التي كنت أنشدها لها في صغرها؟ أم لعلها أبكاها لغز ما في الانتماء؟ لن أحكي لكم دقائق المتعة والتعب في الفهم. أنصحكم فقط بمشاهدته عسى نلتقي يوما ونحاوره معا. لن أعفى منه أبدا.