يندرج فيلم «الصوت الخفي» للمخرج كمال كمال ضمن النوع الموسيقي، وهو نوع عادة ما يصفه المنظرون والنقاد بالفيلم ذي الحبكة الدرامية البسيطة، لأنه يميل أكثر إلى العاطفة، مما جعل بعضهم يقلل من قيمة هذا النوع خاصة أنه يفتقر – في اعتقادهم – إلى الواقعية؛ إذ يرتبط غياب الواقعية هذا، باندماج لا معقول بين الغناء والرقص والأحداث. وخلافا لذلك، ففيلم «الصوت الخفي»، يعتمد على محكي مركب من خلال ثلاثة محكيات: حكاية أساس، فضلا عن حكايتين أخريين موازيتين لها، أي أننا أمام «انشطار مرآوي فيلمي›› أو ما يعرف ب «La mise en abyme filmique»، و هي تقنية تعتمد على الحكي المتناوب والمتفرع الصادر عن حكاية أصل أو حكاية إطار؛ أي أن كل الحكايات الموازية تصب في المصدر الأصل أو الحكاية المنطَلَق والمنتهى. كثيرة هي المحكيات السردية في كل من الحامل الشفوي، المكتوب، المسرحي والسينمائي، التي اعتمدت تقنية الانشطار المرآوي، وهي لا تعدو أن تكون تمظهرا سطحيا لبنية حكائية ذهنية ضمنية، وهو ما أشار إليه كل من «فلاديمير بروب» في كتابه «مورفولوجية الحكاية»، و»تزفيتان تودروف» و»رولان بارث» و غيرهم من البنيويين الفرنسيين؛ هي إذن آلية سردية تتعدى الأدب إلى السينما، حيث وُفق مجموعة من المخرجين في توظيفها داخل اللغة السينمائية كجون فورد، ميلوس فورمان وآخرين. ذا عدنا إلى فيلم «الصوت الخفي» سنجد مجموعة من المحكيات المنعزلة ظاهريا، تروم - انطلاقا من منهج سردي- إلى التوحد موضوعيا ورمزيا، وهي: محكي مغامرة شخصيات صماء – بكماء، في محاولة هربها من الجزائر نحو المغرب مرورا بالخط الحدودي موريس بمنطقة بني بوسعيد، و لعل الغاية من التصريح بأسماء أمكنة حقيقية، لها وجود خارجي سابق (بني بوسعيد، تلمسان، بركان..) هو إضفاء طابع واقعي على محكي الأحداث، مما قد يزيدها مصداقية لدى المتلقي. محكي مسرح الأوبرا الذي يعرض مقاطع متوازية مع تطور الحكاية- المغامَرة. محكي الراوي حسن الذي يحكي للفتاة منى محنة أولئك الصم- البكم، متحسرا على مصيرهم. وبموازاة مع تطور المحكي الدرامي الأساس، تلتئم أشلاء آلة التشيلو المنكسر، وكأنه طلب لعقد الصلح مع ماض آلمَ حسن، أو ترميم لكسر ما قد تسبب فيه. البداية كان الجينيريك ذا خلفية قاتمة اللون، لوحة كتبت عليها أسماء مهنيي الفيلم، كما ظلت الكتابة تتخلل اللقطات الأولى من الفيلم، أي أن المحكي الفيلمي بدأ مع الجنيريك وليس بعده، إذ كان المشاهد - خلف شريط الجنيريك - يرى ويسمع. لقطات عامة أغلبها بانورامي موصولة بربط متسلسل، مرفوقة بموسيقى تصويرية هادئة، شكلت مشهد البداية، وهو مشهد يصف لنا الفضاءات الممتدة التي ستنتهي فيها الحكاية الأساس للفيلم، أي رحلة هرب الصم- البكم متجهين صوب المغرب، وكأن مخرج الفيلم أوحى لنا منذ البداية بأن تلك الأمكنة هي أحد مفاتيح المحكي الفيلمي. يلي هذا المشهد لقطة عامة لمدينة الدارالبيضاء سنة 2011، حيث القطار يسير، محيلا لنا على استمرار الحياة.. نسمع صوت الراوي الذي يمتد إلى مشهد آخر داخلي بمكان خال وفسيح، حيث تبئر كاميرا موضوعية كهلا يحلق رأس رجل، نفهم فيما بعد أنه شخصية حسن نفسها المشاركة في مغامرة العبور.. يبدو أنه يرغم نفسه على نسيان ماض ما (وهو ما يرمز إليه حلق الشعر، أي ذاك السبيل إلى القطيعة مع شيء ما أو ماض ما)، يتذكره فور رؤيته للفتاة منى، إذ نستشف من هذا المشهد أنها قد ذكرته بأخرى تشبهها ربما صادفها قبلا. تنكسر آلة تشيلو إثر تعرض منى للتعنيف من طرف مجهول يغيب عن عين المشاهد، أي أنه صوت خارج الحقل البصري (وهنا، المشاهد يستشعر العنف صوتا دون أن يراه، بمعنى أنه هو الذي سيبني هذا المشهد انطلاقا من اقتضاءاته)، وهو الدافع الذي يدخل تلك الفتاة في حالة نفسية حادة، تجعلها تحاول الانتحار من على سطح البناية، الأمر الذي يدركه المشاهد من خلال اختيار لغوي يتمثل في تقطيع حدث الانتحار، في كاميرا ذاتية مزدوجة، يتوصل المشاهد فيها بنوع من المعرفة البصرية اعتمادا على رؤية من أعلى و رؤية من أسفل (Plongée/ contre plongée). يمكن اعتبار العلاقة الأولى بين حسن- السارد وبين منى المسرود لها، هي الإطار المنظم والمتحكم في البنية الحكائية، إذ يتجلى ذلك في التشابه الفيزيولوجي بين منى وبين الفتاة البكماء كما سبق أن أشرنا، وهو الأمر الذي سيذكره بماضيه البعيد، والذي زاوج فيه المخرج بين السجل الصوتي والبصري (صورة الفتاة حليقة الرأس)، وهي ذريعة حكائية ستمهد فيما بعد إلى استرجاع متواتر، وستكون بدايته الحقيقية مع حادث التعنيف، وبالتالي انكسار آلة التشيلو. يمكن أن تًؤول هذه الحكاية الإطار إلى سرد علاجي، التخفيف عن معاناة المسرود لها والتعاطف بين السارد حسن والمسرود لها منى، وربما – في مستوى آخر- تصالح حسن مع ماضيه. تمظهرات الاسترجاع في الفيلم يتميز السرد في فيلم ‹›الصوت الخفي» بالمزاوجة بين السرد الخطي التعاقبي وبين الاسترجاع (فلاش باك)، ويحتل هذا الأخير حيزا هاما في الفيلم، وقد سار على نهج قار ظل يبئر خطيا محكي الهرب من بدايته حتى النهاية، بموازاة مع استرجاع من نوع آخر لا يرتبط بعالم الشخصيات، وإنما ينحصر في الماضي البعيد لشخصية حسن لا كسارد، وإنما كمسرود (مسرح الأوبرا – محكي المغامرة). هما خطان متناوبان وغير متوازيين، يجمع الأول بين المشهد والمقطع عن طريق المونتاج، ويؤلف الثاني بين عالمين متباعدين لا يجمعهما إلا السارد – الشخصية، والغاية هنا جمالية أكثر منها قصصية. كما هو معروف، إن كل فيلم يحكي قصة حدثت من قبل، هو استرجاع بالضرورة، والاسترجاع في الغالب هو عودة محدودة أو ممدودة في الماضي أو العودة من جديد إلى نقطة الانطلاق، يكون المونتاج هو الذي يعطيها منطقا، وقد تمظهر الاسترجاع في فيلم «الصوت الخفي» من خلال: استرجاع صوتي خارج الحقل للسارد حسن، وقد تجلى في مقاطع عديدة داخل الحكايات الأخرى. استرجاع من خلال مقطع مندمج في خطية الحكي (الأوبرا- المغامرة). استرجاع نستشفه من خلال اللونين الأبيض والأسود (اختاره المخرج للدلالة على ماض فائت، وقت بدايات عشق حسن للأوبرا، و هو لا يزال شابا). استرجاع غرافيكي (حيث كتب Paris 1954) الحكاية الأساس جرت أحداثها في الماضي (فلاش باك)، بدأت إثر تمرد جماعة أفراد صم- بكم كانوا يعالجون بأحد المراكز الصحية الجزائرية، تضامنا مع صديقة لهم تعرضت للاغتصاب من طرف مسؤول بالمركز؛ كان رفضها للرضوخ دافعا جعل ذاك المسؤول ينتقم منها بحلق شعر رأسها.. الشيء الذي جعل جماعة هؤلاء الصم- البكم ينتقمون لصديقتهم بتواطئهم معها من أجل قتله. كان حسن - هو مصحح النطق- يفهم لغة هؤلاء البكم و يتواصل معهم، يحاول إنقادهم من خلال ترحيلهم إلى المغرب، وفق هروب جماعي منظم، مرورا بخط موريس الملغم. يمكن اختزال شخصيات هذا المحكي في شخصية واحدة، تعيش مغامرة مشتركة وتكاد تلقى نفس المصير، تعاني من إعاقة شبه مشتركة (معظم الشخوص بكماء)، مما قد يعلل في الأخير سبب استغلالهم لإزاحة الألغام، وجعلهم موضوع مكيدة لتمرير السلاح، وإلا لماذا أُجبروا على اختيار الطريق الأطول والأصعب؟ تنتهي هذه الحكاية بمقتل الشخصيات البكماء، رولان والسبيسي، بينما نجا موسى وحسن (نفسه الذي يلعب دور الراوي في الحاضر) وفاطمة التي جسدت دورها الممثلة أمل عيوش. مسرح الأوبرا حاول الفيلم المزاوجة بين حسن، مصحح النطق (Orthophoniste)، وبين فن الأوبرا، ينبنيان بشكل منتاقض على ملكة الصوت، يطمح حسن إلى إخراج الصوت المحبوس في دواخل مرضاه، وبالتالي الرقي بهم إلى مستوى الأداء الأوبرالي، ثم الوصول إلى الجنة (الطابق الثالث من الأوبرا كما يقول السارد)، وهو أمر مستحيل التحقق، ولهذا بأر الميتاسارد شخصية حسن (المسرودة) بشكل متكرر داخل مسرح الأوبرا، مؤطرا إياه في لقطات متوسطة، تكشف مدى اندماجه وتفاعله مع الأوبرا. كانت مشاهد الأوبرا مرتبة حسب منطق التوضيب من جهة، وقاعدة التتابع الحكائي من جهة ثانية، حيث كانت دائما تؤشر وتمهد على مرحلة جديدة من مراحل وأحداث الهرب الجماعي. حسن / ترميم آلة تشيلو يتحدد وضع حسن الاعتباري كسارد أول مع بداية الفيلم، خاصة بعد دخول منى إلى عالمه، وسيتسع حجم هذا الوضع مباشرة بعد تعنيف منى و انكسار التشيلو. يبدأ حسن ساردا وينتهي كذلك بعد ترميمه آلة التشيلو، وحتى نفاذ ما في جعبته من الحكايات، إذ يؤشر هذا السارد على بداية المحكي وعلى نهايته.. إذ أنه في الأخير يعيد الحياة للآلة رغم الخدوش التي ظلت لصيقة بها. وبظل حسن في الماضي كمعالج ومهرب ومتواطئ، حاضرا في تشكل الأحداث حافزا حينا وحاجزا حينا آخر، حيث ظل مغامرا مدافعا - إلى حد التضحية بنفسه- من أجل مرضاه. كانت هذه الشخصية ساردا ومسرودا، ومسرودا له في حواراته المحدودة مع منى حيث كان مخاطَبها وهي تسائله وتلومه عن سبب مساهمته في المصير التراجيدي لمرضاه. إلا أننا نميز في وضع حسن كسارد، ما يجعله يتنوع بين سارد أمام الكاميرا (الزمن الحاضر)، أو يتحدث بصوت خارج الحقل تزامنا مع المحكيات الأخرى التي تركب الفيلم في الماضي، أو يتداخل بين كونه ساردا وبين كونه شخصية فاعلة في الحدث القصصي (الأوبرا- الحكاية المغامرة- الحاضر). و رغم سلطة حسن القصصية المهيمنة (سارد/ مسرود / مسرود له)، يظل بدوره أداة في خدمة الميتاسارد والحكاية الفيلمية ككل. توضيب متوازٍ عادة ما يكون المونتاج المتوازي ذاك الذي يربط بين مشاهد أو حكايات أو أحداث لا تجري – بالضرورة- في نفس الزمان، وهي الغاية السردية/ الجمالية من وراء اختيار هذا النوع من التوضيب في فيلم «الصوت الخفي»، يمكن أن نسميتها مقارنة أو مجازا يوحي ببعد رمزي (تشيلو/الأوبرا مثلا) يربط بين المقاطع الحكائية الأساس. وقد كان القطع الحاد بين اللقطات هو البارز والمهيمن في جل مشاهد الفيلم، وقد تم تغيير موقع الكاميرا تبعا للخطية المسترسلة في المحكي الواحد سواء أكان مشهدا من مشاهد الأوبرا أو مقطعا من المغامرة، وبالتالي فربط اللقطات في المونتاج شكل وحدات سردية تجعل الثانية امتدادا للأولى. ومن جهة أخرى، عرف الربط بين المشاهد (أوبرا- مغامرة السفر- السارد في الحاضر) خطية متقطعة، حيث أن المقاطع لا تجري في نفس الزمان (الماضي/الحاضر)، أي أن المخرج اختار عملية الحذف، إذ أننا لا نلحظ تعاقبية الأحداث في المقطع الواحد بشكل دقيق عندما يتم وصلها بمقطع آخر، ثم العودة إليها لاحقا (مثلا: لا استرسال ولا تعاقب بين مشاهد الأوبرا، إذ كل مشهد يفضي بموضوع و ديكور معين). ويلاحظ أن المخرج اختار الربط المتسلسل(fondu enchainé)، مرات نادرة في الفيلم، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالفضاءات الفسيحة المبأَرة من خلال لقطات تخرج من لقطات أخرى دون فصل، ربما تناعما مع الموسيقى المصاحبة.