الذين يتابعون الأحوال في العالم العربي، منذ ليالي تونس المجيدة، يقرأون العالم بعين الشوارع الساخطة في الخليج الثائر إلى المحيط الهادئ! وبذلك، فإن الناس لا يمكنها دائما مقاومة إغراء المقارنة. عن حق أو عن باطل. هل يمكن أن ندرج ما صرح به بوبكر الجامعي على صفحات أسبوعية «لونوفيل أبوسرفاتور» ضمن ذلك؟ ممكن، لكن لنمحص ما قاله أولا. قال المدير السابق لأسبوعية «لوجورنال»، إن الثورة إذا وقعت في المغرب ستكون دموية.. إذا وقعت، لكن إذا كان كل شيء يقول بأنها لن تقع كما تشتهي الرياح القادمة من الأحلام ومن التهيؤات؟ ولماذا يجب أن تقع وأن تكون دموية؟ إلى هذا الحد يريد الناس أن يكونوا على حق في الهجوم على بلادهم، وعلى نظامها؟ إلى درجة متمنيات الموت والدم والغربان تأكل من عيون المغاربة؟ لا يخلو الكلام من تحريض، لكنه بالأساس كلام صادر عن روح تقفز على وقائع عديدة. هل ممكن أن تكون الثورة مغربية؟ ممكن للغاية، بل إن الثورة في المغرب قام بها الشعب فعلا، مع وبقيادة ملكه محمد الخامس. وكان ذلك عقد تجديد للملكية نفسها على قاعدة الدفاع عن الشرعية الوطنية وعن الوحدة الترابية والبناء الديموقراطي. وليس صدفة أن أكبر السياسيين وكبار قادة الوطنية هم الذين قادوا معركة عودة الملك محمد الخامس من منفاه إلى عرشه، وكانت الأولوية للسيادة والشرعية على أي شيء آخر، في تزامن مع عودة الحرية إلى البلاد. بمعنى آخر، ولدت السيادة والحرية في المغرب الحديث من الثورة نفسها الشرعية للنظام، الحرية للبلاد. أمر سيظل مرتبطا في الأذهان وفي جدلية التاريخ. وحتى في سنوات الرصاص، فإن الثابت الحقيقي كان هو الملكية، وعندما تعرضت لمحاولات الانقلاب كانت من طرف الذين تربوا في أحضان اللغة الفرنسية، ونذكر من ذلك أن أكبر المعارضين للملك الراحل من أكثر الملكيين دفاعا عنها في لحظات الشدة . كان عبد الرحيم واليوسفي وعلال الفاسي، أيضا من أشد المعارضين لطريقة الحكم، لكنهم أيضا كانوا من الوطنيين الملكيين. ولم يكونوا، في غضبهم، في حاجة إلى دروس، ولا إلى أساتذة من الخارج. بل كانوا هم الدرس الأساسي... هذا درس كبير لا يمكن القفز عليه، ونحن نتحدث عن واقعنا اليوم. علينا أن نعطي للشرعية معناها التاريخي الكامل، وهي شرعية مبنية على إرادات وطنية لم تتوقف. أبدا، حتى في لحظات القطيعة الكبرى بين القوى الوطنية والمرحوم الحسن الثاني. هذا درس كبير لا يمكن القفز عليه، ونحن نتحدث عن واقعنا اليوم وإذا كان البناء التاريخي للنظام، (بدون الحديث عن دوائر الشرعيات الأخرى، الدينية والروحية والوطنية ) يعلمنا بأنه لا يمكن أن يجمعنا شيء بتونس من هذه الناحية، فهذه البدهية من بدهيات التحليل لا تقف مع ذلك سدا في وجه قراءة ما يقع هناك بما يجري هنا.. ما هي عناصر التقاطع وإلى أي مدى تكون بنفس النتائج؟ لن نجانب الصواب إذا ما قلنا بأن هناك أشياء كثيرة تطرح علينا أسئلة مرة وكثيرة وصعبة وربما مفزعة. وهي أسئلة نرددها باستمرار اليوم. لسنا من المداحين، لهذا لن نردد فقط ما هو إيجابي، ولن نكون كذلك أبدا لأن التاريخ أو الواقع لا يمكنهما أن يتصرفا بناء على الحلاوة التي تسري في الكلام. لدينا انتقادات مرة عن بلادنا وعن سياساتها وعن جوانب التقصير، ولدينا انتقادات مرة عن جمود الانتقال الديموقراطي وتعثرات السياسة، لسنا بعيدين عن منطق الاحتجاج، بل علينا أن نسويه، ولن نخسر إذا ما اعترفنا بأن علينا أن ننصت إلى صوت شعبنا حتى عندما لا يغضب وحتى عندما لا يخرج إلى الشارع .. ولكن مع ذلك لا نريد لشعب أن يخرج - وهميا - إلى شارع لكي تسيل الدماء غزيرة وتصدق النبوءات المتوحشة. هذا ليس درسا، بل هو ..معضلة في التحليل. إن النبوءات تكثر في الأذهان عندما يصاب التحليل بعطب في الواقع أو بنقص في الواقعية. إذ يكفي أن تكون يائسا أو بالضبط متشائما لكي تتنبأ أو تصبح نبيا سياسيا .. هناك واقع لا يمكن أن نغفله في تحليلنا للواقع، وهو أن لدينا ملكا في أقصى شعبيته، وهو محبوب ولا شك من طرف الجماهير الفقيرة، التي تريده أن يكون ملكها.. وهذا معطى ليس روحيا وعاطفيا، بل هو في قلب السياسة، ومن يغفل ذلك عليه أن يعيد بالفعل النظر في شبكة القراءة. وشبكة الكتابة أيضا. النبوءة الدموية ليس أمنية معزولة، بل لعلها نبوءة عادة ما تكون الصدى لنبوءات أخرى قادمة من فكرة الشيخ ياسين، كما في رؤية 2006 .. وعندما يتعقد الواقع والشبكات، القراءة تتلبد، ويصبح الأمل الوحيد هو النبوءات الكاسرة.. وفي الحقيقة، عندما يتعلق المجال بالنبوءات، فإن الذي يسهر على التفسير، أو المفسر ،عادة ما تكون له أهمية أكبر من .. المتنبئ نفسه! كما في حالة الاشتراك في أمنية مقابرية واحدة.. لنطرح السؤال: ما هي الأعطاب التي تعترينا وتعيبنا والتي فكرنا فيها وعلينا أن نفكر فيها من جديد؟ يتبع