هجمات باريس الأخيرة أججت بتوحشها العديد من التساؤلات حول الواقع العربي الحالي المفتقر لأفق تحرري حقيقي. فأمام هول ما يحدث وما سيحدث، أما آن أن تراجع منطقتنا الحضارية الممتدة من غرب أفريقيا إلى تخوم الأعاجم نفسها وبعمق يضاهي استفحال نكوص العقل العربي «المسلم». قال جون لوك ميلونشون السياسي اليساري الفرنسي في إجابته عن سؤال يتعلق بهوية فرنسا «إن فرنسا بوصفها علمانية، تحتكم للقانون وأسس الدولة وآلاتها المنظمة واحترامها للمواطن دون تمييز في الشكل أو اللون أو العقيدة، بما في ذلك المسلمين، أو حتى اللغة، فذلك في ذاته هوية». وقد كبحت هذه الإجابة جموح ممثلة اليمين الفرنسي مارين لوبان التي سارعت إلى القول «إن هوية فرنسا تكمن في عقود طويلة من العطاء للإنسانية في الفكر والفلسفة والرياضيات والعلوم والفنون واللغة الفرنسية». وقد يظهر هذا السجال، إذا عولج من الخارج، بمظهر التناقض بين رؤيتين معكوستين لماهية الدولة، فكلا الشكلين المتباينين للهوية يعتبران منطقيين كل داخل آليته الفكرية ومكتسباته المعرفية. لكن هذا الاختلاف ومنذ عقود لم يدفع بفرنسا إلى الانهيار تحت وقع صراعات الهوية المتوتّرة القائمة على الدين مثل التي تحدث في رقعتنا العربية المرهقة حضاريا، فآلية الاختلاف دائما تبنى على أرضية صلبة ومتينة تمنع كل عنف محتمل، هي أرضية العلمانية. لقد طرحت الهجمات الإرهابية المتعاقبة باسم الإسلام، والتي طالت العديد من العواصم الأوروبية، مفاهيم ضخمة وأعادت وضعها في ورشات التفكيك وإعادة التركيب، من ذلك مفهوم الذات القومية بوصفها جزءا من إنسانية واسعة دمرتها العولمة وخربت فيها روح التصالح مع الذات والتفاعل إيجابيا مع المحيط. وبإعادة طرح سؤال الهوية الفرنسية مرة أخرى وجعله سؤالا للتداول العام فإن رمزية السؤال «الآن» لا تنمّ سوى عن اتهام مبطن للمسلمين بأنهم المسؤولون عما يحدث من إرهاب في فرنسا وغيرها لأن سؤال الهوية بالنسبة إلى أمّة ما، دائما ما يقصي الآخر القومي للتمكن من التعرف إلى الذات، بمنطق ديكارتي. فهل يتحمّل المسلمون جميعا مسؤولية ما ترتب عن الجمع القسري بين الدين والدولة. إلى الآن، لم يقدم أحد إجابة تامة عن هذا التساؤل، فآخر الدعوات البارزة والجازمة بفضائل فصل الدين عن ممارسة الحكم من داخل النسق الإسلامي كانت قبل أكثر من ثمانية قرون مع ابن رشد، الذي أحرقت كتبه وتمّ تكفيره بمجرد دعوته للتعقل، وهو الذي قال «إذا خالف النص العقل، وجب تأويل النص». وبذلك بقي الباب مفتوحا أمام الآخر في أن ينسب إلى العرب المسلمين ما شاء من تهم تتعلق بالعنف والبربرية والتخلف والإرهاب، مادام الفراغ موجودا في الرد على هذه التهم وإنشاء نموذج عربي علماني يعلي من شأن المواطن والدولة معا. ثم إن ظهور حركات الإسلام السياسي في بداية القرن العشرين بعد انهيار الدولة العثمانية أعاد جهود بوادر النهضة العربية إلى مربع الصفر مرة أخرى. ففي الوقت الذي بادرت فيه وجوه جريئة في إحداث تصدع في تلازمية الإسلام والدولة بغرض فصلهما عن بعضهما البعض لينصرف كل مفهوم إلى عالمه ومؤسساته الخاصة، ظهرت جماعة الإخوان المسلمين وظهر معها شعار الخلافة مرة أخرى. وقد ترك لهذه الجماعة المجال لأسباب مختلفة كي تقترب من الناس وتخطف فرصة النهضة المواطنية الناشئة، ففرّخت وتوالدت وتطورت لتصبح نواة لتيارات إسلامية أكثر تطرفا وتحايلا، نراها الآن ممثلة في تنظيم القاعدة وتنظيم التكفير والهجرة وداعش والموقعون بالدماء وغيرها. فنعيد، مجبرين أمام غياب مشروع التنوير العربي الناجز، تشكيل خيالات السابقين من السلفيات التي تعيد تشكيل رؤيتها المعطوبة للواقع انطلاقا من رؤية ماضوية للنصوص.. ألا يدفعنا كل هذا إلى أن نحلم بعلمانية تريح العالم من إسلاميينا؟