نُشرت المؤلفات الأربعة الخاصة بسلسلة «الدفاتر السوداء» لمارتن هايدغر، بين سنوات 2013 و2015 بألمانيا، محدثةً ضجة بجل أرجاء العالم، طالما أنها أتت لتؤكد بأن الفيلسوف الشهير كان متحمسا لصعود النازية، مبرزة كذلك بعض السمات المميزة لمعاداة السامية. يظهر بإسبانيا حاليا الجزء الأول من هذه السلسلة، مذكرات الفيلسوف التي تضم العديد من الأفكار المتنوعة، والمدوَّنة بين سنوات 1931 و1938. وبالرغم من أن جزءًا مهمّا منها يتعلق بمسائل فلسفية، إلا أن العديد من المقاطع تُلمّح للظرف السياسي الألماني : الانتصار المشهود للاشتراكية الوطنية، الحدث الذي أشاد به كذلك سنة 1933، عندما كان عميدا لجامعة فرايبورغ، ظاهرا بشاربه الهتلري والصليب المعقوف بصدر سترته، الموقف الذي جعله شبيها نوعا ما بالنازيين. في ظل الضجة الإعلامية لهذه الدفاتر السوداء، يميل الاعتقاد إلى أن تلك الصفحات تشيد بهتلر وتسيء لليهود، إطلاقا، فملاحظات الفيلسوف غير صريحة، وماكرة بدرجة كبيرة. فالكتاب الأول من السلسلة لا يكشف سوى عن التزام تمهيدي تجاه النازيين، بعدها، ازدراء واضح للوضع «الروحي» الألماني. ولم يدل بأي كلمة بخصوص اليهود. بشكل عام، يبدو هايدغر انطلاقا من ملاحظاته كمتحمس ل»الفلسفة»، الرؤية المقابلة للعلم «لا فِكر للعلم»، كتب يقول هايدغر كشخص يفهم التفلسف باعتباره طرحا لأسئلة جذرية وجريئة أكثر من كونه مجرد إجابات : «كل سؤال متعة، كل إجابة انحدار». كان السؤال الجوهري لدى الفيلسوف العظيم الذي طالما أبهر طلابه (كما طالباته، على سبيل الذكر عاشقته الشابة حنة أرندت) هو «ماهية الكينونة؟ لماذا هناك وجود بدلا من لاشيء؟». باختصار، قام «الساحر» بتفكيك المقولات المتداولة ليقول ما انفلت من القول. بالواقع، نرى أن المفكر الفريد من نوعه، وهو بنفس الوقت إنسان، قد ارتكب خطأ كبيراً بالتزامه مع النازية، معتقدا أن صعود هذه الحركة سيأتي بالتغيير الأفضل لمصير ألمانيا، ثورة جذرية للروح الألمانية لم تحدث كما كان يتوقع. معتقدا أن التوحد الألماني بقيادة هتلر، سيلهم الألمان للسعي نحو الحقيقة والكينونة، فحيّى الصعود النازي ك»مبدأ عظيم»؛ آملاً بأن الفلسفة ستستفيد من جراء ذلك، بهيمنتها الثقافية على الحياة الاجتماعية للألمان، كما حدث ب(مثالية) المجتمع الإغريقي القديم. والفلاسفة، الذين غالبا ما يعيشون منعزلين (هايدغر كان كذلك بدرجة كبيرة)، سيخرجون من عزلتهم، وبصرف النظر عن «أناهم الصغير»، سيمشون مجتمعين مع الرجال الآخرين. بفترة قصيرة قبل سنة 1933، يغمره أملٌ جامح، دوّن بدفاتره مقاطع ك»كل ما هو عظيم يترنح ويتعثر، كما لو بالعاصفة، الجميل يظل ثابتا مشيرا للثورة الاشتراكية الوطنية أيضا: «ثبات بزيادة في الهجوم، دون تراجع، دون تخاذل، فقط هجوم. لا يمكنك امتلاك قوى كاملة مالم تكن قادراً»! درجة التعصب للاشتراكية الوطنية كانت كبيرة. كارل ياسبرز، الذي شعر بأن الخطر آتٍ، سأله هل يعتقد بأن شخصا ضيق الأفق كهتلر سيقدر على قيادة الأمة، فكان جوابه : «المعرفة لا تهم، يلزم أن ننظر ليديه الجميلتين»! . اختفت هذه اللهفة لدى هيدغر عندما رأى «فلاسفة» آخرين يتولون قيادة الجامعات : روزنبورغ، بوملر وكريك، وهم أيديولوجيون من أسوء شاكلة، بتعصب مطلق. كانت سنة صعبة بالنسبة للعميد، التغييرات الخاصة بالنظام الجديد والدعاية «عودة حملة تشهيرية غير واثقة من نفسها» كتب كملاحظة أجابت على متمنياته المقتلَعة. تدريجيا أدرك أن التصريحات الشعبوية للسادة الجدد لا تمت بصلة للفكر العظيم وبدرجة أقل ل»الثقافة»، حيث تقوم بتحريض الشعب. هايدغر، كما أفلاطون مع طاغية سيراكوس، آمن بدولة مثالية للفضلاء حيث بالإمكان دمج بعضٍ من أفكاره، فأتت هذه الدفاتر تعبيراً عن خيبة أمه بعدما تبيّن أنه ليس هنالك ما يفعله. إلى أن انتهى به الأمر متبرّماً من الشكل «المبتذل» للحركة الهتليرية، مغيّراً الوجهة صوب «البلاشفة» بكلماته. أتى سخطه المدوي على جو الجامعة، موضحا بأنها تفرض «الرداءة»، «متناسية المعرفة الحقة»، جامعات «الاشتراكية الوطنية» ليست سوى «مدارس تقنية»، معربة عن «الأزمة المادية الكبرى في شكلها البيولوجي». الفلسفة «معرفة عبثية، لكنها أكثر نبلاً» يقول هايدغر، تركت المجال ل»العلوم السياسية» كمبحث للجموع الصاخبة وسلوكاتها المريبة. خيبة أمل هايدغر تنكشف ضمن مداخلاته الفلسفية. بالإمكان الحط على روحانية تنبعث من بعضها بالجزء الأول من هذه السلسلة، ويصعب فهم مطلب الفيلسوف المتكرر بإيجاد أشكال جديدة للتفكير حول الكينونة، مستدعيا بنفس الوقت مزيدا من «الآلهة الجدد» لإنقاذ عالم العدمية والتقنية، الآلهة التي لم تجلبها النازية، والتي تتطلب لغة جديدة. مقتطفات من الدفاتر : الخبرة العظمى هي الدافع الأكبر لقول أن الفوهرر قد أثار واقعا جديدا يمكّننا من التفكير في مصدر وقوة الصدمة الصحيحة. نهاية العميد. 28 أبريل 1934 : وضعت استقالتي، لأنه لم يعد باستطاعتي تحمل المسؤولية تحيا الرداءة! يحيا الصخب! سادة المدارس المتخلفة، التقنيون دون وظيفة والبورجوازيون الصغار، تحولوا لأوصياء على «لناس»، باعتبارهم واضعي المعايير. العالم مختل. لم يعد بعد عالما. أو بتعبير أدق : لم يكن يوما عالما. إننا بعدُ في مرحلة التكوين. كل مفكر عظيم يفكر تفكيرا واحدا، هذا التفكير دائما فريد : إنه التفكير في الكينونة. فخرنا ونبلنا : يستدعيان المطالب الأكثر حميمية وتطرفا. الفلسفة معرفة دون عائدات، لكنها مفخرة. السياسة الثقافية، هي الحيلة الأخيرة للهمجية. الآن، نتصرف كما لو أن لا شيء لنقوم به اتجاه «الحقيقة». لازلنا نبدو غير مرئيين أمام الروح الألمانية السرية. Heidegger, el pensador desilusionado Luis Fernando Moreno Claros El Pais.