خمسة أشهر، منذ انتخابات يونيو الماضي، كانت كافية لقلب مزاج الأتراك باتجاه إعادة دفع حزب العدالة والتنمية نحو الصدارة في الانتخابات التشريعية التي جرت الأحد الماضي. انتقل الحزب من أسوأ نتائجه منذ انتصاره الأول عام 2002 إلى أفضلها تاريخياً، بإنجاز لامس ال50 بالمئة من أصوات المقترعين (49.5) محتلاً 316 مقعدا (258 في الانتخابات السابقة)، تخول له التحكم بإدارة البلاد منفرداً أو متحالفاً مع شركاء آخرين. خمسة أشهر عاشها الأتراك في أجواء قلق لم يألفوه منذ سنوات. عادت الحرب بين الجيش التركي وحزب العمال الكردستاني، وعادت الشوارع التركية لتكون هدفاً للإرهاب الذي ضرب بشكل دموي موجع (سقط حوالي 130 قتيلاً في انفجارات سروج الحدودية وأنقرة ضد ناشطين أكراد). عبّرت المؤشرات الاقتصادية عن هذا القلق، فيما وفّر التدخّل الروسي في سورياً توتراً يُنذر بصدام محتمل ظهرت أعراضه في الخروقات التي قامت بها الطائرات الروسية داخل الأجواء التركية. عن هذا الخوف والقلق والتوتر تحدّثت المعارضة، لا سيما حزب الشعوب الديمقراطي الذي تراجع إلى 59 مقعدا (80 في الانتخابات السابقة) معتبراً أن الانتخابات كانت ملوّثة بأجواء مشحونة شوهت حوافز المقترعين. أما المراقبون فيجمعون على استفادة الحزب الحاكم من استئناف القتال بين الجيش التركي والانفصاليين الأكراد، كما من تداعيات الإرهاب الكردي والداعشي على الداخل التركي. في ذلك الإجماع شُبهةٌ مضمرة عن دور الحكومة نفسها في تسعير حربها مع ال?بي كا كا?، كما في احتمال تورّطها بالهجمات الإرهابية الأخيرة، خصوصاً أنه سبق وكيلت لأنقرة تهمُ علاقات ملتبسة مع تنظيم أبو بكر البغدادي. للخاسر في الانتخابات أن يستعينَ بما تيسّر من حجج لتبرير نكسته. لكن الثابت أن الأتراك (87 بالمئة شاركوا بالانتخابات) اختاروا التشبّث بما عرفوه خلال السنوات الأخيرة، توقاً لاستقرار عهدوه وتحرياً لانسجام في الحكم. عبر الأتراك عن حاجة داهمة لفعالية ورشاقة في اتخاذ القرار في موسم التحديات التي تفرضها الحرب في سوريا وتداعياتها المباشرة على الداخل التركي، وهو أمر كان مستحيلاً وفق ما أفرزته الانتخابات السابقة (7 يونيو الماضي). لم يستطع أحمد داوود أوغلو في الأشهر الماضية تشكيلَ حكومة يتشارك فيها حزب العدالة والتنمية مع أحزاب أخرى. قيل أن أردوغان نفسه تمنى -وربما عمل على- عدم نجاح ذلك. لكن الأشهر الخمسة المنصرمة أظهرت صعوبة قيام ائتلاف بين الأحزاب لتشكيل حكومة ناجعة، ذلك أن التقسيم الاقتراعي الذي خرجت به انتخابات يونيو الماضي، كشف عن عمق الهوّة بين الأحزاب التركية وحدّة خصومتها، ليس فقط بين ?العدالة والتنمية? والمعارضة، بل بين أحزاب المعارضة في ما بينها أيضاً، والتي كان واضحاً عجزها عن تقديم بديل مقنع. أراد الناخب التركي في تلك الانتخابات معاقبة الحزب الحاكم على أداء تداخل فيه الداخلي بالخارجي، كما تراكم في حواشيه ضجيج الفساد ومواجهات ساحة تقسيم في اسطنبول، وتعفّن في كواليسه الصراع مع تنظيم فتح الله غولن. لكن أبرز دروس تلك الانتخابات كان رفض الأتراك تحوّل رئيسهم إلى ?سلطان? كما كان يعدُ نفسه وفق دستوره العتيد. تفاجأ الحزب الحاكم بفقدانه للأغلبية لأول مرة، بتراجعه إلى نسبة 40 بالمئة. تعددت الروايات لتفسير ?الإنهيار?، لكن طيب رجب أردوغان، والذي لطالما منّى النفس بأكثرية مريحة تتيح له تمرير دستوره الرئاسي المتوخى، لوّح منذ اللحظات الأولى بالانتخابات المبكرة، علّها على الرغم من مخاطرها تعيدُ له المجدَ السليب. ?قرصة أذن? مارسها الناخبون أوائل الصيف الماضي ضد حزب أردوغان، ليعودوا في انتخابات الأسبوع الماضي لترتيب هندامه ومحضه بأكثرية تتيحُ له التنعّم بحكم البلاد لأربعة سنوات مقبلة. لم يحصل الحزب الحاكم، رغم إنجازه، على أغلبية كافية لتمرير التعديلات الدستورية لوحده، وهي تعديلات باتت ضرورية لإخراج أردوغان من قالب الرئاسة الصوريّ، حسب دستور 1982 المنبثق عن الانقلاب العسكري الدراماتيكي لعام 1980. ولئن تحتاجُ تركيا عملياً إلى تطوير دستورها بعد أن تغيّرت أحوال البلد وأسلوب حكمه وهوية حاكميه، إلا أن المعارضةَ، يشاطرُها في ذلك كثير من الخبراء والمراقبين، تتخوّف من أن يؤسس ذلك لديكتاتورية رئاسية تضع السلطات في يد الرئيس-السلطان. وربما في الهواجس الديكتاتورية مبالغة، ذلك أن زمن الديكتاتوريات قد ولىّ في العالم، وهو قيد الاندثار في المنطقة، كما أن تشابكَ العلاقات الدولية، لا سيما الاقتصادية منها، يجعلُ من المستحيل تعايش الديكتاتورية مع عضوية تركيا في الحلف الأطلسي وطموحاتها لعضوية الاتحاد الأوروبي، ناهيك عما يدفع به أردوغان نفسه من نفي للديكتاتورية عن النظام الرئاسي الذي تعمل به دولة كالولايات المتحدة. لكن إغراءات الاستبداد ماثلةٌ للمراقبين، ذلك أن أردوغان وصحبه استطاعوا، من خلال قضمٍ متدرج، تحييد المؤسسة العسكرية عن كواليس الحكم في البلاد، كما تمكّنوا من تهميش ما يطلق عليه في تركيا اسم ?التنظيم الموازي? بقيادة فتح الله غولن، بما عدّ انقلاباً من قبل أردوغان على شريكه الخفيّ في الحكم، كما استطاعوا، من خلال الانتخابات الأخيرة على الأقل، إلحاق هزيمة بخصومهم التقليديين (حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية)، أو أولئك المستجدين الصاعدين (حزب الشعوب الديمقراطي). في تلك المؤشرات، وتلك التي تطال ما تعرّض له الإعلام المعارض، ما يشي بضعف المقاومة المؤسساتية والحزبية والمدنية لأي نزوع نحو الاستفراد بالسلطة، حتى لو لم يتمكن أردوغان من تمرير تعديلاته الدستورية الشهيرة. لكن المؤشر الأبرز للانتخابات الأخيرة يكمنُ في أن الأتراك منحوا حزب العدالة والتنمية تفويضاً لمواجهة أخطار باتت تهددُ الأمن القومي العام، وباتت تداهمُ المواطن التركي في يومياته. أمام تركيا استحقاقُ تعاظم الحراك الكردي شمال سوريا، بما يعنيه ذلك من تواصل وتعظيم لحراك حزب العمال الكردستاني في تركيا. تعايشت أنقرة بنجاح وحنكة مع الحالة الكردية في العراق، لا بل أضحت أول المستفيدين اقتصاديا من ازدهار إقليم كردستان واستقراره، وراحت تعاملُ رئيسه مسعود برزاني معاملة رؤساء الدول على حساب الحاكم في بغداد، لا سيما في عهد نوري المالكي. لكن حسن الأداء التركي في هذا الملف لا يعود فقط إلى عبقرية لدى حكام أنقرة، بل لبراغماتية لدى أكراد العراق في تفهّم الهواجس التاريخية التركية إزاء الأكراد، وانتهاج واقعية سياسية وضعت إقليم كردستان في معسكرٍ خصمٍ لحزب العمال الكردستاني في تركيا. على أن المشكلة مع التشكّلات الكردية في الشمال السوري (حزب الاتحاد الديمقراطي وقوات الحماية الكردية) تتأسسُ على تجربة مختلفة عن تلك الكردية في العراق. فالحالة الكردية في شمال سوريا ترتبطُ أيديولوجياً بحزب العمال الكردستاني في تركيا، وتتمتع برعاية من قبل النظام في دمشق. وفي تشابك الملفات داخل سوريا، من السهل أن يعتبر الأكراد السوريون، الذين، للمفارقة، يحظون بدعم غربي وروسي على السواء، أن الفرصةَ باتت سانحةً لقيام كيانهم المستقل، كما من السهل أن يدركَ الأتراك إمكانات ذلك واحتمالاته. تعتبر أنقرة أن الأزمة السورية تشكّل خطرا على الأمن الإستراتيجي التركي برمته، كما على أمن النظام السياسي بزعامة أردوغان وحزبه. تخلّت أنقرة عن مذهب ?صفر مشاكل? الذي كان عزيزاً على قلب أحمد داوود أوغلو، وانخرطت بإفراط في جهد عسكري وأمني ولوجستي ودبلوماسي من أجل تقويض النظام في سوريا. استطاعت دمشق تحريك الورقة الكردية بنجاح، على نحو بات الخطر حقيقياً، إلى درجة قد تدفع تركيا للانخراط العسكري البري المباشر في الداخل السوري لوقف أو تجميد هذا الخطر. صحف المعارضة التركية تحدّثت عن عامل الخوف الذي دفع الأتراك لحمل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم. لكن ذلك الخوف لن تبدده صناديق الاقتراع، ذلك أن البلد ذاهب إلى مواجهة كبرى متعددة الجبهات ضد داعش والأكراد والنظام السوري. لم يعد أمر ذلك خياراً، بل هو إلزامي إذا ما أرادت تركيا استعادة زمام المبادرة على حدودها، ووقف تداعيات ما قد يُحاك في الغرف الأميركية الروسية المغلقة.