بعد رواية«المؤتفكة » الصادرة سنة2004 ، تأتي رواية دموع باخوس للكاتب والأديب محمد أمنصور الصادرة عن دار الموجة سنة2010 . و هي رواية جعلت من سرقة تمثال الإله باخوس من مدينة وليلي الأثرية حدثها الرئيسي و المحوري . ولأن هذه السرقة عرضت الكثير من أهالي فرطاصة وزرهون للاعتقال والتعذيب وتجرع كل أشكال المهانة والقسوة ،فقد كان من بين هؤلاء المعتقلين والد «أنور» الشخصية الأساسية في الرواية الذي ظل يحمل في أعماقه جراحا نرجسية عميقة بسبب وفاة والده مباشرة بعد إطلاق سراحه متأثرا بسادية التعذيب الذي تعرض له. هذا الموت الفجائعي سيشكل صدمة قوية لابنه أنور الذي سيقرر تكريس حياته للثأر لدم والده ودماء جميع الضحايا من فرطاصة الذين تعرضوا للتعذيب ظلما و بهتانا. ومن هنا سيقرر أنور السفر إلى بوردو لمتابعة دراسته العليا تخصص التاريخ والأركيولوجيا بدل تخصص الفيزياء الأثير والمفضل لديه، وأنجز أطروحة حول «باخوس بين الأسطورة و التاريخ» لا لشيء إلا كي يبقى قريبا من الموضوع الذي تعرض أهل فرطاسة بسببه إلى مجزرة رهيبة أودت بحياة والده بشكل مؤلم و حزين يقول « هذا الزلزال رجني و من فرط ما زلزلني أسكنني في الانتقام ، الثأر لدم أبي المقتول صار هدف حياتي الوحيد، ولا تقل لي ما علاقة المغادرة بالانتقام ، فأنا غادرت فرطاصة لأعود إليها من فرنسا قويا.» (ص 17). يتضح إذن أن أنور اختار المعرفة و العلم كطريقة للثأر أي أنه بقدر ما يسلم بكل ما يتعلق بالإله باخوس سيقترب أكثر من الذين لهم مصلحة حقيقية في سرقة تمثاله لأنه لا يعقل أن يقدم أناس بسطاء و أميون على هذه الفعلة . وقد توصل أنور علميا لهذه الحقيقة فأصبح يراهن على كتابة مقالات صحفية تعيد طرح قضية هذه السرقة إلى واجهة الأحداث. لكن بعد عودته من فرنسا سيجد الكثير من المياه قد جرت تحت جسر الوطن المدمى والجريح؛ سيجد عهدا جديدا في ظل ملك جديد، عهدا جديدا انفجرت فيه كل مآسي الماضي تحت عناوين جديدة من قبيل : الحقيقة والإنصاف، طي صفحة الماضي، جبر الضرر وغيرها من شعارات المرحلة. فبدأ يحس أن القضية التي عاش من أجلها لن تجد من ينصت إليها أمام قضايا أخرى أفظع و أشرس لينتهي به المآل إلى الاستسلام إلى اليأس و تقديم طلب التعويض المادي، غير أنه من مكر الصدف والتاريخ أيضا أن الطلب سيرفض بدوره باعتبار أن قضية والده ليست قضية سياسية صرفة مما سيدفع به إلى المزيد من الانحدار نحو قاع اليأس و الاستسلام . غير أن الحدث الثاني و القوي الذي هز أنور وزعزع كيانه بشكل صادم هو خبر وفاة صديق طفولته الوفي علاء بباريس. وعندما سيذهب لتقديم العزاء لأسرة علاء، سيكتشف أن هذا الأخير ترك له وصية تتعلق برواية ناقصة كان قد بدأها غير أن الموت لم يمهله لإتمامها فترك وصية لصديقه أنور كي يتممها. و هنا تضعنا الرواية أمام إشكال بنيوي مربك يتعلق باحتواء الرواية الأم لفصول من رواية أخرى ناقصة وهي رواية« منزل البهلوان » التي خلفها علاء بعد موته . و تقنية رواية داخل الرواية الموظفة في هذا النص تفرض على القارئ الانتقال من عوالم تخييلية إلى عوالم أخرى و من أحداث إلى أخرى تقوم بينها علاقة التصادي في لعبة مرآوية تغدو فيها أحداث الرواية الثانية وكأنها انفلتت من رحم الرواية المركزية . وتقوم الروايتان على التواشج والتشابه، إذ أن رواية « منزل البهلوان » تتحدث عن طالبة أمريكية أنجزت بحثا أكاديميا عن الإله باخوس فقررت السفر إلى وليلي من أجل تعزيز بحثها بصورة لتمثاله، غير أن الطائرة التي كانت تقلها ستنفجر، الشيء الذي دفع بأختها التوأم إلى أن متابعة إنجاز هذه المهمة إكراما لروح أختها . لكن بعد مجيئها إلى وليلي رفقة إدريس ستصدم بعدم وجود تمثال الاله باخوس. و التواشج بين الرواية الأم والرواية المتضمنة قائم على المستوى الثيمي أيضا، إذ كلاهما تتحدث عن باخوس والموت والسفر والبحث العلمي وغيرها من الموضوعات الشيء الذي يجعل العلاقة بينها تقوم على ما يسمى بالإرصاد المرآوي الذي تغدو فيه العلاقة بين المحكيات تقوم على علاقة مرآوية فيما يشبه علاقة النسخة بالأصل وهذه قيمة شكلية وبنيوية تحسب لهذا النص. لقد فرضت فصول رواية «منزل البهلوان» على أنور استعادة الكثير من التفاصيل المتعلقة بشخصية صديقه علاء والتي تبين مدى تفرد وتميز هذه الشخصية الباخوسية العاشقة للحياة حتى الثمالة. سافرعلاء بدوره إلى باريس لإتمام دراسته في الأدب إلا أن حياة الخمر والعربدة و المجون استغرقته بشكل نهائي خاصة أنه كان يعرف أن نهايته قريبة بسبب مرض وراثي، لذلك كان علاء لا يترك اللحظة تمر دون أن يستمتع بها إلى أقصى حد وهذا ما جعله يخلف موعده مع مشاريعه الأدبية المؤجلة ويقول عنه صديقه أنور: «ألم تقل لي ذات يوم ... إذا كان قدر هذه الأسرة المريضة أن يموت أبناؤها في عز شبابهم فلماذا لا أعيش أنا قوة الشباب، أفجر رغبات رجل متوحش ينام في أعماقي، أشعل حرائق الملذات في كل لحظات عمري الباقي فأجعل من نهاراتي وليالي صحوا أبديا مشعا لا تطفئ لهيبه إلا الشهقة القاتلة؟ !»( ص 127 ) وفعلا فقد عاش علاء حياته بالطول والعرض ولم يسمح للمرض أن يطوح به في مجاهل اليأس والتواري عن الأنظار، بل ظل وفيا لملذاته يكرع الخمرة ويجري وراء النساء ويستمتع بجمال اللحظة نكاية في الموت الذي يتعقبه ويطرق بابه بإصرار. شخصية علاء شخصية قوية ومدهشة، وحياته أقوى بكثير من روايته في نظري، ولعل من بين الأشياء التي تحسب للكاتب محمد أمنصور في هذه الرواية هي قدرته على بناء الشخصية، صحيح أنها شخصيات قليلة ولكنها مبنية بناء دقيقا ومتكاملا. وتحيلنا شخصية علاء على واحدة من الثيمات المطروقة في هذه الرواية بقوة وهي ثيمة الصداقة باعتبارها « بحث عن الآخر الذي يمكن أن نقتسم معه فضاء الوجود، الآخر المجهول الذي يجاورنا كعلاقة وكفكر رغم كونه البعيد والذي نكون مسؤولين إزاء حضوره و غيابه وفق نمط من المسؤولية يزلزل كياننا و يحول زمننا و يغير لغتنا »، أما أبو حيان التوحيدي فيرى أن « الصداقة شيئ آخر هو أنت». و قد ظلت العلاقة بين أنور وعلاء يتداخل فيها الحب والإيثار والتضحية بالغيرة والمنافسة التي تقترب في بعض الأحيان من الكراهية. إنها مشاعر متباينة و متضاربة كانت تكشف عن نفسها أحيانا وتبقى متوارية ومتخفية أحيانا أخرى. وقد كان أنور يحس بتداخل هذه المشاعر بينه وبين صديق طفولته علاء، يقول معلقا عن بعض الأفكار الواردة في مخطوط منزل البهلوان:«هكذا... بهذه الوقاحة كان يفصح عن نار غيرته القديمة مني ... طبعا لطالما اغتظت من مزاجه الثقيل هذا لكنني لم أكن أظهر انزعاجي مادمت أعرف أن الصداقة، كل صداقة لا تخلو من غيرة... فالصديق عندما تحبه وتطمئن إليه نفسك تفاجأ بأنك تغار منه في الوقت نفسه ، أو تخشاه وربما تكرهه في بعض الأحيان !»( ص 248). وتتجلى ثيمة الصداقة أيضا في علاقة روزالي بعلاء فقد تقاسما معا نفس البيت في باريس لمدة طويلة من الزمن ولم تخرج علاقتهما عن دائرة الصداقة الصرفة رغم أن هذا يتناقض مع طبيعتهما الباخوسية التي تحث على الإستلذاذ بكل مباهج الحياة سواء منها الروحية أو الجسدية. وتعتبر روزالي من الشخصيات البارزة في هذه الرواية التي حظيت بحضور بارز وقوي، فهي صديقة علاء كانت تقطن معه في نفس المنزل بباريس ، كما أنها كانت تقاسمه فلسفته الباخوسية للحياة. وقد حاولت أن توفق بين دراستها العليا و العمل بسبب ظروفها المادية ثم عادت إلى المغرب لحظة كان علاء على وشك الموت، وهي التي حملت معها مخطوط رواية «منزل البهلوان» إلى أنور. إنها فتاة متحررة إلى أقصى الحدود ، تعيش حياة أبيقورية تحتفي فيها بالشهوات و الملذات دون أي رادع قيمي أو اجتماعي، و تقبل على الحياة بشراهة ونهم رهيبين. تقول عن نفسها:«أنا امرأة حرة وأيام باريس علمتني أن أغرق حواسي في الملذات الممكنة والمستحيلة... المباحة والمحظورة... وعندما أقول حرة فلا أقصد بذلك رخيصة أو مبتذلة.» ص 291 . أما على مستوى الشكل، فقد حبكت الرواية على شكل ضفيرة من المحكيات المتجاورة والمتراصة فيما بينها، فإلى جانب المحكي الرئيسي هناك تحقيق صحفي مقتطف من بعض الجرائد يتحدث عن سرقة تمثال الإله باخوس، وهناك أيضا حوار صحفي مع الكاتب العام للجنة الوطنية للمتاحف بالإضافة إلى بعض الأشعار والرسائل الرومانية التي انفتح من خلالها الكاتب على التراث الأسطوري والوثني وما يزخر به هذا التراث من قيم بطولية ومأساوية وغيرها كما ورد في الرسالة القوية والجميلة التي بعث بها الكاتب جايس بترونيوس قبل انتحاره إلى الامبراطور نيرون يقول فيها : « أي نيرون إمبراطور الرومان وسيد العالم وكبير الكهنة ليكونن نبأ موتي حين يبلغك خيبة أمل لك، لأني أعلم كم كنت تتوق إلى الظفر بهذه المتعة ،متعة إزهاق روحي على يديك(....) قد أغفر لك قتلك لزوجتك ولأمك و حرقك لمدينتنا روما المحبوبة، و إغراقك لبلادنا الجميلة برائحة جرائمك النتنة و لكن شيئا واحدا لا أستطيع غفرانه : الملل الذي يصاحبني حينما أستمع لأشعارك وأغانيك التافهة وتمثيلياتك السوقية »( ص191). إلى جانب هذه الرسالة هناك حكاية كيلوباترا وديدون وغيرها كنماذج للنساء الباخيات الشرسات اللواتي يذهبن في العشق إلى أقصى حدوده وهو الموت عربونا على الإخلاص والوفاء والتشبث بالعشيق. وقد ساهمت هذه المحكيات وغيرها في ترفيد رحم النص و تخصيبه وتعديد لغاته وأصواته وملفوظاته و غيرها كما أن اللغة السياسية كانت حاضرة من خلال تلك الصفحات التي كان يتحدث فيها السارد عن الراهن المغربي الذي طبعته لحظة مهمة في مساره، وهي لحظة طي صفحة الماضي . أما الأمكنة التي تحركت فيها شخوص هذه الرواية فهي الرباط - مكناس- وليلي- فرنسا وغيرها. وقد اختار الكاتب سرد الجزء الأهم من هذه الرواية بضمير المتكلم نظرا لما تتيحه هذه الطريقة من كشف لبواطن ودواخل الشخصية المضطلعة بعملية السرد، وهو ما ضمن بالتالي للرواية نوعا من الثنائية الصوتية البارزة والتي تتجلى في صوت أنور المسكون بحقده وغله ضد قتلة والده، و صوت علاء المحتفي بالحياة ، والذي قاوم هاجس الموت عن طريق الاستجابة غير المشروطة لنداءات الجسد وإغراءات اللذة والمجون. وستنتهي الرواية بالاختفاء المفاجئ لروزالي بعد ليلة حمراء بينها وبين السارد تحدثا فيها كثيرا عن علاء، وعن «منزل البهلوان » وعن التشكيل والموسيقى والرقص والجسد وغيرها من الموضوعات. وفي الصباح تختفي روزالي وتأخذ معها مخطوط « منزل البهلوان» تاركة السارد حائرا أمام العديد من الألغاز التي تركتها خلفها سواء منها ما يتعلق بشخصيتها الملتبسة والغامضة، أو ما يتعلق بحقيقة المخطوط الذي أخذته معها الشيء الذي يبين أن السارد اختار اللعب كتقنية بنائية وشكلية لتوليد دلالات متباينة ومختلفة. وفي الأخير، فإن رواية «دموع باخوس»، قد توفقت في توظيف المكون الوثني الذي قلما تم توظيفه أو الانتباه إليه من طرف الرواية العربية، ولعل هذا التوظيف هو من أهم إضافات هذا النص الغني والممتع. نسيج الصداقة، مصطفى الحسناوي، منشورات اختلاف، 2001، ص9