«الظل راحة الوجود» محيي الدين بن عربي «مرايا الظلال» هي المنجز السردي الأول لعبد الغني عارف الذي وسمه بعتبات حكائية،الصادر عن دار التوحيدي في طبعته الأولى سنة 2014 .وقد سبق صدور هذا المنجز حضور اسم المؤلف كشاعر وباحث تربوي مهتم بقضايا التربية والتكوين ومساهم في التأليف المدرسي بالمشاركة في عدد من المؤلفات المدرسية التي شملت مستويات متعددة. ولأن الظل راحة الوجود،كما يقول محيي الدين بن عربي، فإن القراءة تستظل بهذا النص منصتة لممكناته المُؤشر عليها انطلاقا من العتبات، معتبرة أن ظلاله فاتحة للبحث في انعكاسها في المرايا وعلى المرايا. العتبات إشارات وإضاءات، مداخل لمصاحبة النص ومرافقته،العتبات في عرف النقاد علامات سيميائية،وعناصر بنيوية في البناء النصي تؤثر على جميع التأويلات الممكنة للنص، ولكنها في هذا المنجز الأدبي تخاصم هذا التقليد النقدي المتعارف عليه لتستكين لأطروحة أجناسية تجعل للحكي عتبات تبدأ ب»حديث الظل في حضرة الذكرى» وتنتهي ب»مغيب الظل» ، وبينهما ينتصب»الظل يسائل شمس الذكرى فتعده بإشراقة الحلم» و»عتبة الطريق».وهي عتبات تفتح سيرة الكتابة على السيرة الذاتية وعلى الرواية وعلى الحكي وعلى الرسائل...يوحدها خيط ناظم متين فيه الاسترسال والتدفق وترابط السابق باللاحق مما يجعلنا أمام نص روائي متميز.ومعنى ذلك أن العتبات الحكائية ما هي إلا تقطيع مقصود يهدف إلى جمع أنفاس المحكي وتبويبه ضمن استراتيجية تحافظ على كرونولوجية الزمن الروائي وتحترم تتابعه بشكل لا يزعج القراءة ولا يدخلها في إعادة الترتيب. في هذه العتبات الأربع ينتصب الظل موشحا بعمق المعاني الشاعرية،المنفصلة عن التقريرية واللغة المباشرة،هي عناوين لفتوحات وغزوات ومغامرات، انكسارات وخيبات وانتظارات،أحلام وأوهام، عنفوان وإقدام.تلتئم في «مرايا الظلال»،إنها مرايا وليست مرآة وظلال وليس ظل،الجمع موحي بالكثرة المتراقصة حول المعنى،الجمع يُهدم الاطمئنان لشفرة يمكن التوافق حولها،كوكبة من الأيقونات تسبح في فلك المعنى الهارب من كل تفسير بسيط. ياسين في زحمة اشتغاله بالتدريس وانهماكه في العادات اليومية يتلقى رسالة من حورية توقظ تاريخه الشخصي وتعاتب هجره ونسيانه، لذلك يقرر السفر إليها قاصدا أزيلال، ليتم اللقاء في تشكل رمزي له دلالاته وتأويلاته.وبعد ذلك يتم استحضار المرحلة الجامعية بمدينة وجدة بزخمها وعنفوانها وصراعاتها وعنفها وتجاربها العاطفية قبل الرحيل للرباط حيث الصراع الحزبي وتجربة الاعتقال والاختطاف والعودة للبيضاء لتأمل المسار... محكي يستقطب في عمقه التجربة الذاتية مستحضرا حقيقة الأشياء والأسماء والمسميات،كأسماء الفضاءات والشخصيات والمعالم،ولكنه يستنجد بالتخييل في عمقه المنفتح على إشاعة الالتباسات وتحريف الصور حتى يبقى العمق الأدبي حاضرا يضفي على الرواية من جمالياته ما يجعلها آسرة وجديرة بالقراءة والمتابعة. -1 لا حقيقة في الظل: ابن عربي: المهدي وحورية ليس المهدي الكابران إلا تلك الشخصية المثقلة بتاريخها المتقلب بين الهنا والهناك،بين الغياب والحضور بين الواقع والحلم،بين فضيلة وفرانسواز،بين واقع الإقطاع كما عاشه راعيا عند سيده وبين حال ومآل العديد من سكان بلدته،بين المقاومة والخيانة... المهدي الكابران ظله منعكس من عصاه التي يتوكأ عليها اليوم ،بها يخط خارطة طريق ليوم منشود تحمل فيه حورية البشائر. لا حقيقة في الظل لذلك يختفي المهدي بشكل مفاجئ وبدون سابق إنذار حاملا معه أسراره ووعيه اليقظ والعميق بالتناقضات التي ترزح تحتها البلاد:»أعرف كثيرا من المقاومين الذين ضحوا بكل ما لديهم دفاعا عن استقلال الوطن،لقد عاشوا أياما مغموسة في العذاب والحرمان من أجل حرية البلاد،وهاهم يعانون أقصى درجات الهوان والفقر والبطالة،ولا أحد يلتفت إليهم للتخفيف عن معاناتهم،هل هو قدر الفقراء في هذا الوطن،يسمعون كثيرا عن الاستقلال ولكن لا يصلهم منه سوى فتات الكلام وبعض الأصداء عندما تحل مناسبة وطنية،أما غير ذلك فالبؤس يلفهم من كل الجهات»ص98 لقد احتفت الرواية المغربية بهذه المفارقة الغريبة التي جعلت زمن الاستقلال زمن الغنائم لمن كانوا متفرجين ووشاة أيام الاستعمار،للخونة واللصوص،وزمن ذل وهوان وفقر لمن حملوا مشعل المقاومة والمجابهة والتحدي.تيمة ارتبطت برؤى سياسية وايديولوجية رافضة رافضة لواقع الريع وواقع التفاوت الطبقي بين المواطنين،وفي طياتها دعوة صريحة لتوزيع عادل للثروات،مع اهتمام خاص بأولئك الذين انخرطوا وضحوا في سبيل الوطن،نيمة تم استحضارها بتفاوت في أدوات التعبير في روايات وقصص محمد برادة عزالدين التازي ادريس الخوري عبد الجبار السحيمي مبارك ربيع ... إن الوعي بهذه المفارقة، ومعها معاينة حال واقع مدينة الهامش، هو الذي جعل المهدي الكابران مؤتمنا على أوراق و أسرار حورية عارفا بموطنها وتوقيت مجيئها،ولأنه لا حقيقة في الظل فإنه لا يحضر ساعة المخاض ولا يعاين لحظة وصالها مع ياسين،لذلك «فقد نضب عمره وضحا ظله»كما في حديث أبي بكر. لا حقيقة في الظل حينما تصير حورية مجازا واستعارة كبرى تحتضنها الرواية في بعدها الرمزي،وتشكل منها إطارا فكريا ينشد التغيير والتحرر والتقدم لهذه الأمة ،»حورية،الحبيبة الضائعة بين سياط الجلادين،وأناشيد الطلبة وهتافات العمال والفلاحين»ص244 ،حورية الظل الآخر للسارد»وهل لي من ظل أنا الذي فقدت ظلالي منذ أزمنة الرحيل الدامي؟»ص 240 لا حقيقة في الظل حيث تحطم حورية أفق انتظار القراء العاديين حينما يكتشفون رمزيتها وصورتها التي تتبخر في الوادي معلنة صرختها الأبدية. -2 ياسين :امتداد الظل: «تبارك الذي مد الظل لو شاء لجعله ساكنا» شخصية ياسين ممتدة بظلها الذي لا يستكين،حاملة للصوغ الإشكالي بالمعنى اللوكاتشي للكلمة فالبحث عن القيم النبيلة في مجتمع متهالك بطبقية شرسة وتفاوتات اجتماعية عميقة لا يمكن أن يجد المعادلة الكفيلة بخلق التوازن بين الذات ومبتغاها ،فملابسات المرحلة التي اشتد فيها الصراع السياسي والاجتماعي بين المستغلين والمُستغلين لا يمكن إلا أن تفرز كتابة منحازة للطبقات الدنيا المستضعفة ضحية الاختيارات السياسية المتتابعة الرافضة للتغيير. شخصية ياسين وفي مسارها التاريخي تلتقط الكبوات والفواجع التي جعلت اليسار عاجزا عن إدراك حساسية المرحلة وخطورتها ،تؤرخ للحزب في انحرافاته وصراعاته التي تكالبت فيها القوى الرجعية من أجل ضرب التنظيم وفك تلاحمه،وهي في كل ذلك تُقر بوقائع وحقائق من تاريخ المغرب المعاصر (اعتقالات، إضراب عام،نضال نقابي،...)منظورا إليها من زاوية ايديولوجية غير محايدة،وهذا أمر طبيعي مادام السارد منخرطا في صلب العمل السياسي والنقابي. -3 بالظلالات عُمِّرت الأماكن: ابن عربي احتفت المرايا بالأنثى في صيغة الافتتان و التجاذب والتقاطع والوصال المؤجل والفقدان،ولأن تيمة الحب تمركزت كبوصلة هادية للذات في بحثها عن ظلها،فقد أفاضت العتبات في متابعة المسار العاطفي لياسين،رافقته وهو يعيش لوعة الحب والعشق العنيف في وجدة مع مديحة، كطالب جامعي، ويقاسي لوعة فراقها،ويجدد دورة الحياة وألقها مع» نجوى»،ويعانق تجربة فريدة مع «منى» بعد توظيفه،وبقدر ما تتباين المواقف وتختلط المشاعر،وتكبر الأحاسيس،فكل تجربة هي ملونة بذلك الوعي الطبقي الذي يحركها بحيث أن التميز الشعري والنضالي والمهني كلها عناصر كانت وراء انجذاب المرأة إلى دائرة المناضل الشاب الحالم بالتغيير وبالثورة . الاستثناء في العلاقة مع المرأة تخطه الكتابة باستحضار غياب الأم المبكر وما تركه في النفس من ندوب وانكسارات، لذلك تظل هي «الجميلة كما ظلها وانعكاس صورتها في المرآة» كما يقول جبران.فقدان عميق وجارح،هي ظل من ظلال الوجود التي بغيابها يصبح صقيع البرد القارس،عند صلاة الفجر التي يرتادها الطفل،صحبة والده، عذابا أليما لا تخففه الدعوات ولا القراءات. «الأم... أيتها الأم التي لم أعرف منها سوى صرخة الولادة ودمع الفطام ومرارة الغياب.. أيتها الغائبة التي لم أنل منها سوى سراب اسمه:أمي..أي حضن سيعوضني عن فقدك الجارح؟ما أصعب أن تعيش غياب أم لا تعرف منها سوى ظلال الاسم،ونزيف الروح،وحرقة الذكرى.أمي..صورة أخرى من صور الفقدان المفجع...»ص75 فبنية الرواية يحكمها الفقدان كتيمة محورية حاضرة في مستويات عدة،فقدان مر،قاسي،زلزل بعنف حياة الطفل ووجّهها نحو المعاناة المفتوحة على الحرمان،فالفقدان ليس عابرا ولا مرحليا،بل هو ثابت في مجرى حياة ياسين،مرافق وملازم ،لذلك ظل البحث عن تعويض نفسي، يعيد للذات توازنها، يتخذ أشكالا وألوانا من السلوكات تمظهرت في صور شتى لعل أعمقها تلك الرغبة الجامحة في الانصهار في العمل السياسي والنقابي والانتقال من التأملات الفردية إلى الانخراط الجماعي في حركة سياسية حملت من الشعارات ما جعلها تكون أملا للمغاربة في التغيير،وفي صورة التحول من تجربة عاطفية لأخرى..... «رحلت جميلة عن البلدة وسلمت قلبي لحزن لم يخفف من سطوته علي سوى «سعاد»:عنوان حكاية أخرى سكنت القلب،ولم يبق منها إلا يوم التقينا ذات دورة من دورات الحياة،فاحتضنتني بعينيها الجميلتين وهي تقول متأوهة:آه من ذاك الزمن الجميل»ص73 وتبعا لذلك فقد حاول عبد الغني عارف إقامة جسور بين الفقدان والكتابة،في محاولة لتجاوز كل الأعطاب الممكنة،فتصبح الكتابة هنا رقصة صوفية عذبة تُعري الذات لتتأملها في المرايا وفي الظلال،وتتفقد مسارها عبر رحلة ممتدة في الزمان والمكان.فاهتداء بأعمال الناقد الفرنسي جان بيلمان نويل التي اشتغل فيها على تلك العلاقة الخاصة القائمة بين النص الأدبي والتحليل النفسي والتي خلص فيها إلى ما سماه»التحليل النصي» الذي يسمح بالانتقال من الاهتمام بمؤلف العمل الإبداعي إلى العمل الأدبي ذاته،سنجد أن «مرايا الظلال» ما هي إلا تطهير ذاتي تعبر به الكتابة عن رغبة في التجاوز والتحرر والتخلص من ثقل ما، يتحكم في الوعي واللاوعي.الكتابة رد فعل للأنا ضد الفقدان،ضد ما يسميه التحليل النفسي الحرمان الأمومي،الكتابة صدّ للانعزال والخوف والقلق،تشييد لحياة جديدة تعيد بناء المتخيل الفردي والجمعي في صورة مشرقة تريد لهذا المغرب أن يكون جديرا بأبنائه وشهدائه ومناضليه. الكتابة لا تستعيد زمنية انصرمت وانتهت،ولكنها ،بشغف،تبحث عن الانسجام فيما يبدو متنافرا، وترصص بنيان السرد ليصبح للوجود معنى يؤكد أن في هذه الحياة ما يستحق الانتباه . -4 ظلال اللغة من مظاهر قوة هذا النص السردي لغته ،وذلك منحى اختياري يجعل المؤلف مالكا لناصية الحكي باسترسال متحكم فيه، وبتنويع تتلون فيه اللغة بمدارج وطبقات الأحاسيس والمواقف المعبر عنها،فقد أفاضت اللغة السردية في التماهي مع لغة الوجدان والعواطف،وفي وصف ارتداد الذات إلى كينونتها مشتغلة على الأحلام والهواجس والرؤيات ، بانفتاح عارم على اللغة الشعرية بمجازاتها المتدفقة والحارة،وقد كان استحضار التجارب العاطفية فرصة لإشعال فتيل اللغة وإطلاقها من عقالها لتعانق مطلق العذابات اللذيذة التي يلتذ بها العشاق حتى وهي تخترق الوقار وتنبش في الإيروتيك المهذب الذي يؤرخ لوصل ظل مؤجلا. إن ظلال اللغة الوارفة في «مرايا الظلال» تُنسج باندماجها مع مكونات أخرى، فالقيمة الشعرية للعتبات تستحضر كثيرا من الخصائص التي صاغها جون إيف طاديي في كتابه»شعرية الحكي» وستيفن أولمان في «الصورة في الرواية الفرنسية» جون ريكاردو فيما يتعلق بالاستعارة في نصوص الرواية الجديدة. إنه البذخ اللفظي الذي تحدث عنه رولان بارت في كتابه»لذة النص»،وهو عمل ليس من السهل استدراجه للعمل الروائي غير أن عبد الغني عارف نجح في ربط الصلة بين هذه المكونات ليجعلنا أمام نص بهي وعميق. وإذا كان العالم ظل الله فمرايا الظلال هي ظل الكاتب التي بها تتسع رؤياه قبل مغيب الشمس.مرايا الظلال ظل مطيع ومخلص لصاحبه ، لقد جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغير الله لكن ظله يسجد لله. دليلنا في ذلك ماورد في كتب التفسير، حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن الزبير, عن سفيان قال في تفسير مجاهد: ( ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعًا وكرهًا وظلالهم بالغدوّ والآصال ) قال: ظل المؤمن يسجد طوعًا وهو طائع, وظلُّ الكافر يسجد طوعًا وهو كاره. -Bellemin-Noël, Jean, Psychanalyse et littérature (1978), PUF, 2002.