حين يقول راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة الإسلامية التونسية ?نحن والدستوريون جدّنا واحد، والشيخ الثعالبي شخصية وطنية كبيرة ظُلمت وهو مؤسس الحركة الوطنية، وآن الأوان لإعادة اكتشافها من جديد وكذلك الحركة الإصلاحية في القرن التاسع عشر?، فهذا قول يتطلب التدبر والاستجلاء خاصة في جزئه الأول، الحامل لإعلان الاشتراك مع الدساترة في الجد المؤسس. وحين تشق حزب نداء تونس صراعات سياسية قوامها الاختلاف حول ?الأب الشرعي? للحزب، هل هو الشيخ عبدالعزيز الثعالبي (مؤسس الحزب الدستوري القديم) أم الحبيب بورقيبة، الذي انسلخ وصحبه عن الثعالبي لينشئ حزبه الدستوري الجديد في الثاني من آذار من عام 1934، فإن هذا الأمر، بدوره، جدير بالبحث والتقصّي، عن دواعيه ومعانيه. جدير بالتذكير، أولا، ما طبع علاقة الحزبين الكبيرين في تونس من عداوة وتخاصم، طيلة الفترة الفاصلة بين تأسيس حزب نداء تونس، 16 يونيو 2012، حتى دخول الحزبين في ائتلاف حكومي يضم أربعة أحزاب يقودها النداء. استعمل كل حزب أدوات التاريخ وأسلحة الماضي لرشق الحزب وتأثيمه ووصمه بالعار. وكانت تهم ?الانتماء البورقيبي الدستوري النوفمبري? جاهزة وكثيرة الاستعمال في المنطوق النهضوي في كل المنابر، فيما كانت وسوم الأصول الإخوانية القطبية المتطرفة، أدوات الندائيين المقابلة. لكن القصف المتبادل توقف بمجرد إعلان الائتلاف الحكومي، الذي فاجأ المراقبين وعُدّ تراجعا ندائيا عن ثوابت قامت عليها الحملة الانتخابية وأساسها التناقض المبدئي والسياسي مع حركة النهضة، تماما كما انحسر العداء النهضوي لخصمهم، سليل النظام القديم وإن بقي خافتا حبيس أصوات القواعد. الجديد في الراهن السياسي التونسي هو ضرب من التسابق حول افتكاك التاريخ. تسابق مشوب بغزل تكتيكي متبادل قد يجهضه ما يتبدل من أوضاع. النهضة تقر بالجد المشترك مع النداء، الذي تشقه من جهته صراعات حول المرجعية أو الأب المؤسس، بين قسم يقول إن الحزب سليل البورقيبية، بكل ما يرمز إليه بورقيبة من حداثة وتأسيس، وقسم ثان يعيد الأمر إلى البدايات ويعتبر أن النداء صدى للتجربة الدستورية الأولى في نسخة عبدالعزيز الثعالبي، الشيخ الزيتوني العروبي، مؤسس الحزب الحر الدستوري التونسي عام 1920. في استدعاء ?الدستورية? القديمة، لدى النهضة كما لدى النداء، قفز مقصود على مراحل عديدة من تاريخ البلاد المعاصر. تقفز النهضة على ميراثها الذي طالما فاخرت به، بل كان مفصلا أساسيا من نضالها ومظلوميتها. وتتجاوز، محليا، مرحلة الجماعة الإسلامية التي أقامت أول لقاءاتها التنظيمية عام 1972، ومرحلة حركة الاتجاه الإسلامي التي أعلنت عن نفسها عام 1981، قبل أن تتخذ ابتداء من فبراير 1989 من ?حركة النهضة? اسما لها. قفزت النهضة، أيديولوجيا وفكريا، على انتمائها الإخواني، وتملصت من مرجعية حسن البنا وسيد قطب وغيرهما. وانقسم النداء في قراءة تاريخه، بين شق يعيد أصول الحزب إلى الثعالبي ويعتبر أن الفكر الإصلاحي التونسي شارك فيه زعماء الإصلاح من الثعالبي إلى الباجي قائد السبسي مرورا ببورقيبة، وشق ثان يرى ضرورة القطع بين الفكر الإصلاحي القديم الذي حدد تحركاته خارج أطر الاستقلال، والفكر الإصلاحي الحديث الذي حدد مطلب الاستقلال ديدنا وشعارا للعمل، وهو فعل بورقيبي صرف حسب تصور هذا الفريق (المفارقة أن أغلب رموزه ودعاته من اليسار على غرار محسن مرزوق وعبدالمجيد الصحراوي). القفز على مراحل النشأة والتكوين، كما البحث عن مرجعية تأسيسية أصيلة في تاريخ تونس المعاصر، والوصول إلى الاختلاف الحاد في تحديد النسب السياسي، تتجاوز مسألة البحث عن مرجعية، لتطال تلمس شرعيات جديدة، وهو ما ينسحب على النهضة كما على النداء. تجارب الحكم لدى النهضة، ثم لدى النداء بالاشتراك مع النهضة، أثبتت انتهاء زمن الشرعيات (النضالية أو التاريخية أو السياسية) وبدء زمن ?النجاعة? بالمعنى السياسي، حيث تبين أن الفريقين لم ينجحا في إدارة شؤون الدولة، أو على الأقل لم يوفيا بتعهداتهما الانتخابية. أما بالنسبة إلى الأصول، فيسهل دحضها لدى هذا كما لدى ذاك. نداء تونس، الذي تأسس بعد الثورة، والذي يردد أنه سليل البورقيبية، فمحاولة إعادته إلى مرجعية عبدالعزيز الثعالبي تصبح غير ذات موضوع، أو فاقدة للمعنى ومتعسفة على التاريخ، فالثعالبي الزيتوني التقليدي (حسب توصيف بورقيبة) فصله عن بورقيبة مؤتمر 1934 الذي انشق من خلاله الأخير وقطع مع مرحلته وتكتيكاته، ثم انطلق الحزب الجديد يخوض معاركه، من أجل الاستقلال أو من أجل بناء الدولة أو من أجل إرساء النظام، وعرف منعرجات عديدة كانت تبعده دائما عن زمن الثعالبي: الحزب الحر الدستوري الجديد، ثم الحزب الاشتراكي الدستوري مع إرساء التعاضد، قبل أن يرث بن علي القارب ومن يركبه ويحوله إلى تجمع دستوري ديمقراطي، تنكّر في بعض الأزمان لزمن بورقيبة. لذلك فإن العلاقة التي تصل النداء بالثعالبي تنتفي بالزمن وبالأفكار: المنعرجات التي عرفها الحزب الحاكم في تونس بددت كل صلة بالنشأة، كما أن الأطروحات التي توصل الحزب إلى بلورتها ابتعدت كثيرا عن تلك التي صاغها الثعالبي. لم يكن سعي النهضة إلى استدعاء تراث الثعالبي مرجعية لها، المحاولة الأولى لها في هذا الشأن، حيث يذكر التونسيون أنها في معاركها مع الباجي قائد السبسي وحزبه أواخر 2012 وطيلة عام 2013، استعملت كثيرا إرث صالح بن يوسف، خصم الحبيب بورقيبة اللدود، وكانت تعير قائد السبسي بأنه كان وزير الداخلية أثناء مطاردة اليوسفيين والتنكيل بهم بداية الستينات، إلى درجة أنها ارتدت العباءة اليوسفية في بعض الفترات. كما أنها استعملت الطاهر بن عاشور والطاهر الحداد ومحمد علي الحامي وفرحات حشاد، مثلما تبنت قضية حركة ?برسبكتيف? (بداية السبعينات) لتذكير الباجي وجماعته بأنه كان ضليعا في تعذيبهم والزج بهم في السجون. الثابت أن البحث عن أبوة تاريخية أو عن نسب سياسي فعل مؤقت تكتيكي، سينتفي بزوال أسبابه. وستعود النهضة إلى أصولها الإخوانية، وسيعود النداء إلى أصوله البورقيبية (التي اقتطف منها ما يفيد)، وسيظل عبدالعزيز الثعالبي صاحب متن ?روح التحرر في القرآن? عصيا عن توظيف الإخوان والدساترة، لأنه رأسمال رمزي تونسي، ولأن انتماءه الزيتوني لا يعني تماهيه مع الإسلاميين ولا شك أن افتقاد شرعية الفعل ستجبر الطرفين أو أحدهما على فتح جديد لكتب التاريخ.