بانتخاب جيريمي كوربن رئيسا لهم، أعاد أعضاء حزب العمال البريطاني تنظيمهم المنبثق عن الحركة النقابية العمالية في مطلع القرن العشرين إلى سكة اليسار. هؤلاء الذين يخفق فكرهم يسارا أعلنوا القطيعة إذن مع ما وسم لحظة بروزه ب»العمال الجديد» بصفته حزبا يساريا قاده توني بلير إلى اعتناق «ريق ثالث عنوانه تبني الأفكار النيو-ليبرالية وتطبيقها في إدارة الشأن العام خلال ولايات بلير نفسه (1997- 2007) وغوردون براون (2007- 2010)، قبل أن تفضل صناديق الاقتراع الليبرالية في نسختها الأصلية (حزب المحافظين بقيادة دايفيد كاميرون) على طبعتها المستنسخة تحت يافطة «الرأسمالية ذات الوجه الإنساني». إعادة استقطاب أعضاء العمال البريطاني حزبَهم إلى الفكر والممارسة اليساريين مر، في 11 شتنبر الجاري، عبر بوابة الظفر غير المنتظر للمصنف في يسار الحزب جيريمي كوربن بالرئاسة، هو الذي لم يسبق له أن تحمل مسؤولية وزارية في حكومات بلير وبراون النيو-ليبرالية التوجه، هو الداعي إلى انعطاف اختيارات الحزب يسارا في حالة الفوز في 2020 عبر طي صفحة التقشف، وتأميم مؤسسات تعرضت للخوصصة، وإعطاء الأولوية في الميزانية العامة للتعليم والصحة، ودعم العمال والفئات الشعبية، ومجانية التعليم العالي، والتخلص من الأسلحة النووية، وإصلاح الاتحاد الأوروبي، ومغادرة الحلف الأطلسي، ووقف الحرب على العراق ونصرة حقوق الشعب الفلسطيني... لكن، وبقدر ما سعد عمال الحزب وشبابه بعودة تنظيمهم إلى إيديولوجيته المؤسسة، بقدر ما يعتبر بعض صقور العمال البريطاني، وخاصة من الجناح البليري، أن الوافد الجديد لقيادة حكومة الظل قد يكون سببا في انفجار الحزب، وأنه لن يراكم، في أفضل الأحوال، إلا الهزائم الانتخابية، وأن لا براغمتية جيريمي كوربن وعدم ستؤدي حتما إلى المكوث طويلا جدا في مقاعد المعارضة. ومنذ اكتساحه لصناديق اقتراع منخرطي حزبه، وكوربن يقارن بألكسيس تسيبراس زعيم حزب سيريزا اليوناني، الذي انتخب على أرضية عنوانها الرئيس القطيعة مع السياسة التقشفية، ليجد نفسه مجبرا من طرف أوربا والدائنين على اعتماد حزمة إنقاذ اقتصادية سمتها الإجراءات التقشفية، ما أدى إلى تصدع حزبه واستقالته من رئاسة الحكومة والدعوة لانتخابات مبكرة... وبناء على هذه المقارنة، فالقوى المتحكمة في السوق الذي لم يعد صوت يعلو على صوته في ظل العولمة، سيفرضون على حزب العمال، في حالة فوزه، التخلي عن تطبيق «المانيفستو» الذي أقنع به كوربن مناضلي الحزب الممتعضين من يمينية القيادة السالفة. ومع ذلك، فزعيم حكومة الظل البريطانية الجديد سيجعل حزبه ينتج فكرا متميزا عن الخطاب اليميني المهيمن حاليا في الحقلين الاقتصادي والاجتماعي، ويبدع ثقافة مغايرة لمنطق السوق لمقاربة الإشكالات المجتمعية. معه على الأقل سيصبح لليسار الحكومي صوت مختلف عن همهمة اليمين، صوت قد يكون له صدى في صناديق الاقتراع سنة 2020 إذا تسلح بما يكفي من الجرأة للتخلص من «المسخ» الذي أفقد اليسار يساريته. ربما راهن مناضلو حزب العمال البريطاني على تغريد زعيمهم الجديد خارج السرب الذي حول الرأسمالية إلى صنم مقدس يبايعه أهل اليمين واليسار والوسط، تغريد مختلف قد يقنع الكتلة الناخبة البريطانية التي لا تتوجه إلى صناديق الاقتراع (40 % من الهيئة الناخبة) بالتصويت على اليسار الذي استعاد يساريته، بعد الاقتناع بأن «أولاد عبد الواحد ماشي واحد».