يدعونا هايدجر إلى التحرر من التصور الحداثي للغة والشعر والفن الذي أغرقتهما الحداثة في منحدرات فلسفة الذاتية ، ويهيب بنا لنعود أدراجنا صوب لحظة الفلسفة السابقة على سقراط لنربط اللغة والشعر والفن بحقيقة الوجود . في جدالاتنا الفكرية نكاد لا نميز أحياناً بين مفهوم النقد ومدلوله العملي الصحيح وبين ما نسميه إساءة أو حتى ما نعتبره مسا بكرامة الآخر وتنقيصا من قدره . ذلك أن مدلول النقد عندنا ارتبط دائما بما هو شخصي وذاتي ، فلا يكاد يتعرض مفكر أو كاتب أو فنان لجملة انتقادات ، موجهة بالأساس نحو مادة أفكاره وإبداعاته الأدبية أو الفنية ، حتى يأخذ الأمر على منحى ذاتي شخصي أحادي الطرف فيعده تشكيكاً في قدراته الذهنية والإبداعية ، وذلك من منطلق اقتناعه بأنه لا فرق بين انتقاد الفكرة وانتقاد صاحبها مادامت الأولى تنتمي إلى الثاني ومادام الثاني هو صاحب الأولى ومالكها الأصلي ومبدعها الوحيد . مؤكد أن ردود الأفعال التي تتبع معظم الجدالات والإنتقادات المتبادلة بين المفكرين تكشف عن طبيعة فهم معين لمفهوم التفكير والإبداع الفكري والأدبي/الفني، مفاده أن الفكر من إبداع فرد مفكر وأن الأفكار إبداعات شخصية لا تخرج عن نطاق الذاتية تقع المسؤولية فيها على كاهل الفرد الذي يفكر . لذلك فليس من الغريب في شيء ، عند البعض ، أن يُعد انتقاد مفكر أو كاتب لآخر انتقاصاً من قدراته المعرفية والإبداعية وتشكيكا في مكانته العلمية . لكن ، وإن كان هناك من يزعم لنفسه نبوغا في الفكر أو أنه مبدع أفكار وأنساق وهو باريها الأصلي ، فمن أجل زعزعة يقينه ذاك ومحاولة تغيير معياريته الذاتية في الحكم على أصل نشوء الأفكار، ليس من الضروري الرجوع إلى ثنائيات الذاتي والموضوعي الكلاسيكية . فلم يعد يكفي الآن القول أن الأفكار متجذرة في المجتمع وأنها تنمو في حضن إطار موضوعي ، أو أنها تتحدد برغبات ونوايا الأشخاص . فمع الفكر المعاصر صار الفكر منظوراً إليه من منظور جدلي ليس هو مجرد فكر شخص بعينه، وليس رهين ذهن وتفكير ذات مفكرة . إن الحركة الجدلية للفكر لا تقف عند حدود حركية واقع بعينه ولا عند توارد خواطر وتأملات على وعي الإنسان، بل إنها ترتد وتعود إلى ما هو أعمق وأشمل ، أي إلى حركة الوجود في كليته . فالفكر لا يخضع لأهواء الأفراد ، كما أنه ليس استجابة لظرف وللحظة بعينها بقدر ما هو صدى للوجود وانعكاساً لقوانينه . تحيلنا رأساً طبيعة هذا الربط بين الفكر والوجود إلى فكر الكينونة عند فيلسوف الغابة السوداء المرعب مارتن هايدجر . هايدجر الذي يعتبر الفكر شكلاً للإفصاح عن حقيقة وجوهر وجود الموجود لا يتوانى في إعلان وحدة تاريخية بين الفكر والوجود . لذلك فإن الفكر لن يكون عنده إلا صدى وتاريخاً للوجود . الفكر في جوهره عند هايدجر هو أنطولوجيا ، أي حقيقة ينكشف من خلالها الموجود بما هو موجود . والحقيقة على هذا الأساس لن تكون إلا إنكشافاً لوجود الموجود في ماهيته وكيفية وجوده وليست هي ما يلقنه ويمليه هذا المفكر أو ذاك ، لأن حقيقة الوجود سابقة علينا كذوات وغير متعينة أو مرتبطة بواقع أو ظرف تاريخي اجتماعي مخصوص . إن منطق الوجود هو الذي يقوم بانتداب المفكر القادر على الإفصاح عن حقيقة هذا الوجود ، وعلى هذا فإن الفكر والإبداع الفني والأدبي تنتفي وتزول عنهما صفة الذاتية بالقدر الذي يكون الوجود هو من يوحي للمفكر أو المبدع بأسراره وحقيقته ليعبر عنهما من خلال مادة إبداعاته . ولذلك فإن الوجود هو الذي يصطفي هذا المفكر أو ذاك ليعبر على حقيقة كينونة الكائن وينتقل بها إلى حيّز اللغة ، فليس المفكر هو من يختار حقائقه وموضوعاته وأفكاره بل هي من تختاره كنوع من سطوة الكينونة وأسبقيتها على الفرد والتاريخ ، وليس المبدع هو من يطوع اللغة ويبدع بها ، بل اللغة هي من تتكلمه وتفكر بواسطته (1) . لقد انشغل هايدجر ، فترة العشرينات والثلاثينات ، بمحاولة استعادة المكانة الحقيقية للفلسفة وذلك ضداً في الاتجاهات التي حجمت أفق الفلسفة وعطلت دورها لصالح العلم أو الأخلاق أو الفن . وهكذا فإنه أعاد لها سلطتها وهيبتها المطلقة التي افتقدتها مع فكر الحداثة ، وجعل من الفلسفة شكلاً للإفصاح عن حقيقة وجود الموجود بعد أن تم نسيان الوجود لصالح الذات . ولذلك كان من اللازم على هايدجر الدخول في عملية نقد ومجاوزة لأهم خصائص وثوابت المشروع الحداثي . وما يهمنا هنا هو تأسيسه لأنطولوجية شعرية مخالفة لما ذهبت إليه الاتجاهات اللسانية التي ضخمت من قامة الإنسان، وبذلك أكدت ارتباطها اللصيق بفلسفة الذاتية ومشروع الحداثة الفكري ككل . فخلافاً للاتجاهات اللسانية تلك فإن شعرية هايدجر تقوم على مقومات لا إنسية ولا ذاتية كونها تظل مشدودة إلى حقيقة الكينونة ومناهضة لفلسفة الذاتية(2) . يتصرف الإنسان عادة كما لو أنه واضع اللغة والماسك بعقالها ، في حين أن اللغة كما يتصورها هايدجر ، خلاف لكل ذلك هي من تبسط سيادتها على الإنسان . فالكلام الذي يتكلمه الإنسان واستعمالاته للغة لا تعني امتلاكه لها وتحكمه فيها ، بل إن اللغة هي من تتكلمنا أثناء الكلام وهي من تشير إلينا بعلاماتها ورموزها حتى ينفتح العالم أمامنا وتنبسط لنا أسراره شفيفة واضحة . إن اللغة هي كشف لحقيقة الموجودات وتعبير عنها ، وهي لا تعكس التجربة الذاتية لهذا الشاعر أو لذك الكاتب إزاء العالم ، بل إنها تدشن وجود الأشياء وتخلق العالم الذي يتأمله كل من الشاعر والمفكر ، وبذلك تنمحي الذات إزاء الوجود ، وتتشظى ذاتية المبدع والفنان في فسحة الكينونة . يدعونا هايدجر إلى التحرر من التصور الحداثي للغة والشعر والفن الذي أغرقتهما الحداثة في منحدرات فلسفة الذاتية ، ويهيب بنا لنعود أدراجنا صوب لحظة الفلسفة السابقة على سقراط لنربط اللغة والشعر والفن بحقيقة الوجود . لم يكن الفن أبداً عند الإغريق تجربة إستيطيقية شخصية لذات مبدعة ، بل كان الفن عندهم لحظة انكشاف للوجود وحضور للكائن في كينونته . ولهذا فإن الفنان حسب هايدغر لا يبدع ولا يخلق من تلقاء ذاته كائنات وأشياء جميلة ، إنما الفنان فقط يدع الكائنات وأعيان الموجودات تأخذ محلها من الكينونة وثم يحفظها ويشملها بالرعاية حتى تأخذ نصيبها من الوجود ، فهو إذن حافظها وراعيها وليس مبدعها وخالقها . وهكذا فالفن لا ارتباط كبير له بوجدان الفنان وعواطفه الشخصية ، فالمنجزات الفنية والأدبية ليست إبداعات وذهنيات سيكولوجية وحياة نفسية تنطوي على مقاصد وإنما هي إنتاجات يعاد إنتاجها ، لأن كل فن وكل فكر وكل إبداع لغوي في ماهيته ليس إلا انكشاف لحقيقة الوجود والموجود . الحواشي : 1- : في هذا الصدد يكتب عبد الفتاح كيليطو : " لست أذكر من قال (ولكم كنت أود أن أكون صاحب القول) إننا ضيوف اللغة ، وهو تعبير جميل يشير إلى أننا نقيم عندها وننعم بالخيرات الجمة التي تغدقها علينا بسخاء . وطبعا نتحلى خلال مقامنا في رحابها ، أي طول حياتنا ، بالآداب التي يتعين على الضيف احترامها عندما يكون في فضاء المضيف . لكن يخيل إلي أحيانا أن المتكلم هو المضيف وأن اللغة هي الضيفة ، ضيفة مشاكسة عنيدة تحل عنده بدون استئذان ، فتتملكه وتسكنه على الرغم منه ، إننا مسكونون باللغة ، مسكونون بالمعنى السحري للكلمة . وسيتأكد لدي هذا الارتسام عندما أشاهد أشخاصا يتحدثون بلغة أجنبية لا أفهمها . أصاب حينئذ بالدهشة والذهول ، وأكاد أعتقد أنهم ضائعون في لغتهم ، وأنهم غير قادرين على الإفلات منها ، وأن لا أحد بإمكانه تخليصهم من قبضتها ، وأن لا شفاء يرجى لهم " . (عبد الفتاح كيليطو ، في ضيافة اللغة ، مجلة فلسفة ، عدد مزدوج 7/8 ، 1999 ، ص ، 24 ) . 2- : نستعمل هنا مفهوم الذاتية بالمعنى الذي حملته إياه فلسفة الكوجيطو عند ديكارت . فإذا كان العقل قبل ديكارت يحمل دلالة موضوعية محضة ويشير إلى القانون الأسمى الذي وفقه تنتظم الموضوعات ضمن علاقات علية وسببية . فإنه مع ديكارت أخذ العقل دلالة ذاتية وصار ذاتياً في جوهره وصارت الذات كيانا عاقلا . وبالتالي أصبحت الذات مؤشراً على انبجاس أزمنة الحداثة ، وصارت الذاتية شعاراً لهذه المرحلة . وبالتالي فإن كل محاولة فلسفية للإنسلال من ربقة الحداثة لابد وأن تمر من انتقاد وتجاوز ، أو استبدال ، معطى الذات وفكرة الذاتية .