استهلال «الموجود المكون أساسا من الوجود ?في- العالم هو نفسه في كل مرة «الهنا». وحسب الدلالة المألوفة فالحرف هنا يشير إلى «هناك» و»هنالك». هايدجر هنا وهناك وهنالك. أسماء إشارة مختصة بالمكان وهي تلزم الظرفية أو الجر بالحرف. فيقال «جئت من هنا وذهبت من هنا إلى هنالك». تدل هنا على المكان القريب وتلحقها «ها» التنبيه فيقال «هاهنا». وإذا لحقتها «كاف» الخطاب تدل على المكان المتوسط فيقال «هناك» وإذا لحقتها «اللام» والكاف تدل على المكان البعيد فيقال «هنالك».(1) هنا وهنالك أسماء تدل على المكان وتعينه. فأين يوجد هكذا مكان؟ هل هو وجود أم عدم؟ هل هو كين (كأين) أم خلاء؟. لكن «هناك» تدقيقا هو لا مكان أو لا تحديد مبهم يثير الخوف والقلق والضجر. فهو مكان مجهول محايد كما يتبدى لنا في الأرق والسهاد والرعب والفزع.. إن كتاب «من الوجود إلى الموجود» لليفيناس يعالج موضوع «الهناك» » L?il y a «. وهو في ذلك مختلف جدا عن «هناك» أبولينير. حيث الاسم يشير إلى ضرب من الفرح والمرح والتكوثر الوجودي مثلما هو الأمر تقريبا لدى هايدجر في مفهومه » es gist «. الهناك لدى ليفيناس يشير إلى الوجود اللامعني أو اللامشخص (impersonnel) أو المبني للمجهول.(2) منبع هذا التفكير يعود إلى طفولة ليفيناس حيث كان ينام الطفل بمفرده ويستمر الكبار في سمرهم. آنذاك يشعر الطفل بصمت غريب في غرفته له رنين الحفيف (bruissement) شبيه بصوت محارة فارغة لصق الأذن؛ وكأنه فراغ ممتلئ، أو صمت ضجيج. إنه وجود منفتح هنا أو هناك في الفراغ القصي كما يمكن أن نتصوره قبل الخلق. يؤكد ليفيناس على صفة المجهول في الهناك مثل يُمطر ويُحكى ويُمتطى.. لا وجود للفرح ولا للتكوثر فيه (abondance). هناك ضجيج يعود بعد نفي كل ضجيج. لا هو عدم ولا هو وجود. إنه الثالث المرفوع. أو إنه حدث وجود أو ما يمكن أن يحدث peut- être، هذه المرة لا كقلق وسأم وإنما كرعب أو فزع. يقصي ليفيناس صفة الضجر من الهناك لأن الضجر هو وجود على شكل تعب أو كسل بعد بدل مجهود. الهناك لدى هايدجر معلوم من جهة الدازاين أما الهناك لدى ليفيناس فهو المجهول المبهم يمكن تقريبه من عالم السهاد والأرق. ففي مثل هذه الحالة يمكن ولا يمكن أن تقول لا أستطيع النوم فهو (il) و(ça) لا يستطيع ذلك. أفضل تعبير عن هذه الحالة هو ذلك الذي صاغه موريس بلونشو في عدة صيغ كالمحايد والخارج والبلبلة والمهمهة والضوضاء والهسيس والهمس.. مثل هذه الحالات نعيشها في الضجيج المبهم، خلف غرفتنا في الفندق: «ماذا يفعل هؤلاء هناك؟» إن الأمر لا يتعلق بإحساس روحي بقدر ما يتعلق بانتهاء الوعي المتموضع. لذا فبلونشو ينعت الأمر ب des- astre: فاجعة لا علاقة لها بالموت ولا بالأسى والشقاء.. بقدر ما لها علاقة بفقدان الاتجاه، وفقدان التوازن الذي يضمنه نجم ما ما فوق القمر. فحين يفقد الدازاين توازنه يصاب بالهلع أمام الوجود، أو بتراجع مهول أو بهروب ما. الهناك لونه أسود، مظلم، حالك. تجاوزه أو الفرار منه لا يكون إلا بطلوع الفجر، حيث يتلاشى السواد وتبدو الأشياء لامعة في واضحة النهار. من الوجود هناك إلى الموجودات هاهنا، من العام المبهم إلى الأشياء المعينة. الخوف من الظلام تجربة ذاتية «للرعشة الفلسفية» في شكل إنصات لرفيف الليل؛ للوجود بدون موجودات أو للشكل المبهم للوجود. تجربة يسود فيها الصمت المطبق النابع من العدم؛ ومع ذلك «هناك» أصوات غريبة لا تفارق الأذن؛ «هناك: لا شيء مأهول برعشات صغيرة غير محددة. لا شيء هناك إلا الوجود العام بصخبه.. هناك، في كل الأحوال لا يتوقف الوجود عن الوجود فقط يكتسيه الظلام، يلفه ويطمس معالمه.. يوغله في عزلته؛ حتى يعدو الدازاين خائفا من الوجود لا من الموت؛ خائفا من الهناك لا من الهنا. مع النور يتلاشى الخوف، كل شيء يعود إلى مكانه، ويأخذ اسمه. ينكشف الوجود ويتوارى «الهناك» أي يرتفع المجهول وتترتب الهويات وينبثق ضجيج الأشياء «وتنطلق الموسيقى» وتبدأ الحياة؛ ويتراجع وراءها الموت إلى الوجود -السابق دوما على ذاته في العالم أي القلق حسب هايدجر. هذه مرحلة أولى. أما المرحلة الثانية والأساسية فيمكن نعتها بالإيتيقا وهي استقلال الذات من قبضة الهناك، بالعلاقة مع الآخر. علاقة خارج-كل-مصلحة dés- inter- essée أو علاقة الوجود من أجل الآخر وهو ما يحد من الحفيف المبهم والمجهول للوجود. منذ ذلك الحين وظلال «الهناك» مسيطرة على الإيتيقا لدى ليفيناس. هذا هو قلق الوجود لا الخوف من العدم. إن مفاهيم الخوف والقلق والضجر تشكل في وجود هايدجر حالات من حالاته. فظاهرة الخوف يمكن النظر إليها من ثلاث زوايا: 1- ما يخيف 2- الشعور بالخوف 3- لماذا الخوف. وهي كلها زوايا تعلن صراحة عن بنية الاستعداد للارتماء. » La disposition représente la manière dont chaque fois je suis tout d?abord l?étant ?jeté. «(3) يكون الخوف مما نخشاه، مما يهددنا بأوجهه الستة كما حددها هايدجر (ص185). أن ينتابنا الخوف إمكانية كامنة في وجودنا ?في-العالم- إنها تهيئ وجودي للدازاين تجعله خائفا من شيء مخيف. (تجربة الطفل في الظلام)، سواء في شكل هلع أو رهب أو رعب. كل هذه المستويات توضح بأن الدازاين «مسكون بالخوف». أما القلق والضجر فهما من أضرب الخوف وهما نوع من الاهتمام أو من «حمل الهم» في العالم، وشكل من أشكال الوجود ?في- العالم. بنيته تتحدد في الصيغة التالية: الوجود ?قبل الذات- الموجودة- سلفا- في... محركها هو هذا الإلتباس الذي يوجد عليه الدازاين دوما هنالك في هذه الانفتاحية حيث ينحشر مع أقرانه وحيث حديث «هم» وحب الاستطلاع يترابطان بنوع من الفوضى أو الجلبة هناك حيث يحصل كل شيء ولا شيء. (ص222). «إن الموجود المكون أساسا من الوجود ?في- العالم هو نفسه في كل مرة «هنا» وحسب الدلالة المألوفة للخوف. «هنا» يشير إلى «هناك» و»هنالك». فهنا ?أنا يفهم دائما انطلاقا من «هنالك» مستعملة في سياق وجود وعلاقتها به أو في سياق اهتمام، إنه نوع من التحويل والإبعاد. إن المكانية الوجودية للدازاين التي تحدد مكانه بهذا الشكل تتأسس هي نفسها على الوجود ?في- العالم. بالهنالك يتحدد الموجود الذي نلقاه في العالم، «هناك» و»هنالك» لا يستقيمان إلا «بهنا» بمعنى سوى إذا كان موجودا، له وجود «هنا» منفتح على الفضاء. فهذا الموجود يحتوي في وجوده الخاص على طابع الخارجية. فالحرف «هنا» يوحي بهذه الانفتاحية الأساسية. بفضل هذه الأخيرة يوجد الدازاين مع الوجود هنا للعالم «هنا» (ص176 نفسه). وإذن لا يرتبط «الهناك» بسيكولوجيا الدازاين ولا بإنسيته بقدر ما يرتبط بوجوده وماهيته. فحين يأتي الوجود من خلال الفكر إلى اللغة تغدو هذه الأخيرة هي مأواه؛ ويتحول المفكرون الشعراء إلى حراس يسهرون على الوجود، فمن خلال قولهم يحملون تجلي الوجود ويحتفظون به «هناك».(4) هناك أي في «الانوجاد» حيث تقيم ماهية الإنسان في نور الوجود وانفتاحه. (ص124) لكن بين الهناك (l?il y a) والهنا (là) مسافة تتجلى في كون الأهم فيهما ليست الإشارة، إنما المكان باعتباره حيزا دالا على الموجود وعلى وجوده. فالهنا حسب هايدجر هو «ضياء الوجود»، والهناك es gibt هو عطاء الوجود. «إن العبارة: «هناك وجود» قد وظفت كذلك من أجل أن نتجنب مؤقتا قول «الوجود يوجد» لأن كلمة «يوجد» هذه تقال عادة عن شيء ما كائن ندعوه بالموجود.» (ص130). بعبارة أخرى الوجود «هناك» هو ما يوجد في حركة انعطائه التي هي ذاته باعتباره ما يعطى ومن يعطي. ولكننا لا نستطيع أن نتحدث عن هذه ال»هناك» أو ال «يوجد» أو ال «ينعطي» (وكلها عبارات لها نفس المعنى المضمر في es gibt) من غير استعداد أو سند. إنها تهيمن كقدر للوجود الذي يأتي تاريخه إلى اللغة في كلام المفكرين الأساسيين» (ص131). ولكن أيضا العبارة هناك ترد في اللغة بأنه «ليس هناك من وجود إلا وجود الكينونة- هنا: أي الدازاين». وهذا لا يعني بأن الموجود هنا هو الذي ينتج الوجود هناك، بل إن هذا الأخير هو «التعالي المجرد البسيط». (ص132) أما مصطلح الموجود ?هنا أو Da- sein» فهي الكلمة المفتاح لتفكيري. كما أنها تفسح المجال أمام أخطاء فادحة في التأويل. إن الكينونة هنا لا تعني بالنسبة لي «ها أنا ذا» بل إذا أمكن لي أن أعبر عن ذلك بفرنسية لاشك مستحيلة: être- le- la. والهنا هي بالضبط انكشاف ولا اختفاء (أليتيا) أي انفتاح...» (ص150). بما أنه لا يمكننا أن نقول عن الوجود موجودا وعن الزمان موجودا، فإنه بإمكاننا أن نقول عنهما «هناك الوجود» و»هناك الزمان». فبدل أن نقول إنه موجود نقول «هو هناك». الصيغة تسمح أولا بالإشارة إلى الوجود، دون تجسيده كموجود، وتسمح ثانيا بتأكيد هويته في الضمير «هو». وتسمح ? لكن في اللغة الألمانية- بالإشارة إلى الكرم أو العطاء الذي تحمله مفردة geben. الهناك تعيين إشاري (إشهاري) للوجود في حضوره وانفتاحه وانتشاره وفي تحرره من كل حجاب واختفاء. إنه التفكير في الوجود خالصا لا يصلنا منه إلا صداه «هناك». فالعطاء الذي لا نعثر عليه في «الهناك» يأخذ صفة الانعطاء (donation) ويدعوه هايدجر بالمصير. «فإذا ما فكرنا في العطاء على هذا النحو، فإن الوجود الذي يوجد هناك سيكون عندئذ هو القدر والمصير» (ص103). في اللغة العربية نعين الوجود كهناك في إشارة مبهمة ولا نمنحه أي عطاء ولا كرم ولا وجود. لكن، ربما الإشارة إليه، كافية لانفتاحه وحضوره ومثوله وكونه حدثا. يتضح لنا جليا بأن ليفيناس يعمل على قلب فلسفة هايدجر التي تركز على الوجود وأهميته مقابل الموجود وتبعيته. (الاختلاف الأنطولوجي)، ويولي الأهمية للموجود (existant) مقابل الوجود (existence) المدرك هناك. بعبارة أخرى «هناك انتقال من الأنطولوجيا إلى الإيتيقا. لقد سبق لهايدجر أن انتبه إلى العلاقة الوشيجة بين الأنطولوجيا والإيتوس متسائلا «ألا يجب أن تكتمل الأنطولوجيا بالأخلاق؟» وكان جوابه عن السؤال «متى تكتبون في الأخلاق؟» جوابا يجمع بين حقيقة الوجود وبين البحث عن القواعد التي تسمح للإنسان أن يعيش انسجاما مع قدره. لقد ظهرت الإيتيقا مع ظهور «المنطق» و»الفيزياء» في مدرسة أفلاطون لكن الفكر الإيتيقي كان قبل العلم وقبل المنطق. «فالإيتوس» في مسرحيات صوفوكليس أو شذرات هيراقليطس هي أكثر من دروس أرسطو في الأخلاق. وحين نعود إلى الكلمة في حد ذاتها نجدها: الإيتوس تعني الإقامة والسكن. أي المنطقة المنفتحة حيث يقيم الإنسان. بهذه العودة تلتقي الإيتوس بالأنطولوجيا. مثلما يلتقي وينسجم فكر هيراقليطس بحياته اليومية. (انظر قصة هيراقليطس مع التدفئة)(5) لكن هذه اللقيا تجعل من الإيتوس والأنطوس يعودان إلى البدء إلى أول مرة التقى فيها الفكر باللغة. هنا يمكن إدراك معنى «الانوجاد». وإذن هناك تحول عارم للكلمات «هنا» و»هناك» و»هنالك» من الوظيفة اللغوية إلى الوظيفة المفهومية، في الإشارة للمكان والظرفية إلى إثارة مكان الوجود ?هناك- في العالم بهمه وقلقه وضجره لا من حيث الصفة الوجودية ولكن من حيث الأنطولوجيا الأساسية التي تلف كل أخلاق وانسجام مع القدر في الوجود ?هنا كانفتاح يشع بنوره ليلتقط إنسانية الإنسان الأنطولوجية. هوامش 1 - مجاني الطلاب. دار المجاني. 2001 ص.1042. 2- Emmanuel Levinas. Ethique et infini. Livre de poche. Fayard.1982. 3 - Martin Heidegger. Etre et temps. Tr. François Vezin. Gallimard. 7ème éd. 1953. 4 - م. هايدجر. رسالة في النزعة الإنسانية، ترجمة عبد الهادي مفتاح، مجلة فكر ونقد. ع.11. 1998. - م.م. رسالة في النزعة الإنسانية. ص:143/144. 4 - م. هايدجر. رسالة في النزعة الإنسانية، ترجمة عبد الهادي مفتاح، مجلة فكر ونقد. ع.11. 1998.