تشهد سيرة المصطفى الأكرم صلى الله عليه وسلم بأن عمله طيلة عصر المبعث كان محكوما بمنطق الجماعة بوصفها أمضى سلاح لمواجهة التحديات العقدية والفكرية والمعنوية والمادية. وأول جماعة قامت على عبادة الله الواحد الأحد هي جماعة دار الأرقم بمكة قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، تفرعت عنها مجموعات نشيطة في الدعوة والتبليغ، كانت تجتمع في بعض البيوت المؤمنة التي تكتم إيمانها، مثل بيت سعيد بن زيد زوج فاطمة بنت الخطاب أخت عمر، الذي كانت مجموعة خَبَّاب، سببا في إسلامه، وعلى الرغم من فتوة هذه الجماعة، وصعوبة الظروف التي تعيش فيها، قامت بنشاط إنمائي إحساني لفائدة بعض المستضعفين، دعما لصمودهم في وجه شراسة الشرك وبطشه. ولما لم تفلح محاولة رموز الشرك في إقناع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقبول عروضهم المغرية، بما فيها توليه سلطة الحكم بمكة، مقابل التخلي عن الدعوة إلى ما يدعو إليه، انعكست آثار هذا الرفض على حياة المستضعفين من أتباعه بتشديد الحصار عليهم، والبطش بهم، والانتقام منهم، مما اضطر معه بعضهم للهجرة إلى الحبشة بتوجيه نبوي، حيث أسسوا لهم هناك جماعة تتولى تمثيلهم لدى سلطة البلد والتحدث باسمهم، والدفاع عنهم، وقد قامت جماعة المهاجرين إلى الحبشة بإبطال مناورة قريش التحريضية، وكشف باطلها، بالرغم من الهدايا السخية والرشاوي التي قدمتها قريش للنافذين في دولة الحبشة. العمل الجمعوي بيثرب وبيعة العقبة الكبرى بعد حدث الطائف المؤسف الذي كاد اليأس فيه أن يفعل فعله في النفوس، جاء مدد الله وغوثه، وتلك سنة الله في الحياة إذا اشتدت الأزمات، أعقبها فرج وانفراج. وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها فرج قريب نور بدأ خافتا في أفق يثرب، ثم ما لبث أن تألق فأضاء أرجاءها، فما من بيت من بيوتات الأوس والخزرج إلا وفيه ذكر للإسلام، وتلاوة للقرآن. إذ في ظرف عام واحد بعد بيعة العقبة الأولى والثانية أصبحت يثرب تمثل طليعة المد الإسلامي، بل باتت قلبه النابض بالنشاط والحركة، حين صار للإسلام بها حواريون وأنصار، وهيأة تخطط وتفكر، وتقترح وتبادر، يشرف على نشاطها سيد من سادات الخزرج هو أسعد بن زرارة، ويؤطر نشاطه التبليغي الفقيه الشاب مصعب بن عمير مبعوث النبي إليها للتعليم والتنوير. ولعل أعظم ما حققته الجماعة اليثْريبيَّة قبل هجرة الرسول الكريم، السبق إلى إقامة شعيرة صلاة الجمعة، وهي أكبر تجمع أسبوعي للمسلمين. كانت حركة التاريخ تسير بوتيرة متسارعة في اتجاه الحدث الكبير الذي تحددت على أساسه معالم الطريق لإقامة وجود إسلامي حقيقي. إنها بيعة العقبة الكبرى التي اتفقت فيها الرعية والراعي على وضع العقد الاجتماعي الذي يحدد العلاقة بين الحاكمين والمحكومين، وحقوق كل طرف وواجباته، وباركت السماء هذه العملية الدستورية القرآنية الجليلة بما نزل في شأنها من قرآن يتلى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها:﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، يد الله فوق أيديهم، فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسنوتيه أجرا عظيما﴾. دولة الحقوق والحريات قبل الحديث عن مجتمع المدينة، يحسن التمهيد له بنبذة عن طبيعة الحكم في الإسلام مقارنا بأنظمة الحكم المعاصرة، لارتباط المجتمع المدني بالدولة في الإسلام ارتباط المسبب بسببه، فالدولة الإسلامية هي من صَنع المجتمع من أول يوم أسست فيه، فما هو شكل هذه الحكومة؟ وبيانه أن الحكومة إذا كانت تسير في تشريعاتها دون مراعاة لعقيدة أساسية فهي الحكومة الدستورية المطلقة، أما إذا كانت تخضع في توجهها لعقيدة ولدين فهي الحكومة الدستورية المقيدة. وبسبب ظهور خلافات حادة بين حركة الإصلاح في أوروبا الغربية وبين المؤسسات الدينية المعاصرة لها، قامت حركة تدعو إلى لادينية الدولة وحيادها بالنسبة لجميع المعتقدات الموجودة في بلادها مع ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية للجميع، وقد تزعمت فرنسا هذه السياسة ولم يتابعها أحد من الدول الديموقراطية التي قررت اعتبار إحدى الديانات دينا رسميا للدولة. وغني عن البيان أن الإسلام بعيد كل البعد عن كل سلطة كهنوتية، ومن ثم، فإنه من الخطإ الجسيم طرح سؤال حول تدين الدولة أو عدم تدينها، فوضع القضية في العالم الإسلامي على النحو الذي توضع عليه في أوروبا يعد خطأ في المبدإ، وإنما يجب وضعها كما قال الأستاذ علال الفاسي، رحمه الله، على أساس الواقع الشعبي، فإن الأمة إما أن تكون متمسكة بعقيدة ما، فإن نوابها سيراعونها لا محالة لأنهم اختيروا على أساسها، وإما أن تكون غير متمسكة بعقيدة ما، وحينئذ فإن النواب سيكونون مطلقي الحق في تفكيرهم التشريعي. فما هي طبيعة الحكم الإسلامي في سياق الأنظمة المتعددة؟ ولإعطاء جواب واضح، ينبغي التمييز بين العهد الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم حيا، وبين عهد الخلفاء من بعده، فعهد الرسول عليه السلام كان فيه معتبرا في نظر المسلمين وغيرهم، رئيس الأمة الإسلامية والمدبر لشؤونها، والقاضي والمشرع فيما يعرض لها من الأمور، كما كان يعتبر في نفس الوقت الرسول الذي يبلغ عن الله ما أمره بتبليغه من عقيدة وشريعة ومنهاج للحياة لا يختلف في ذلك أحد. ومع أنه عليه السلام، رسول من عند الله، وبحكم مرحلة التأسيس التي قام فيها امتثالا لأمر الله بتبليغ الدين الإسلامي وتأسيس الدولة الإسلامية، فقد كانت حكومته عليه السلام طيلة حياته حكومة مقيدة، لأنه -عليه السلام- كان يستشير أمته في سائر أمور الدنيا، وحتى في أمور الدين التي لم ينزل فيها تشريع من السماء، اتباعا لأمر الله النازل عليه في قوله تعالى: ﴿وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله﴾. وقد وصف القرآن الكريم المجتمع الإسلامي كما رباه عليه الإسلام بقوله:﴿وأمرهم شورى بينهم﴾. وقد استشار عليه السلام أصحابه في فداء الأسرى في غزوة بدر، وفي قضية الأذان، ورجع إلى رأي أصحابه في غراسة النخل وتأبيره، كما هو معروف في كتب الحديث والسيرة. وتتجلى بوضوح كبير شورية الحكم الإسلامي على عهده عليه السلام في الميثاق النبوي الذي رتب فيه العلاقة بين المهاجرين والأنصار، وسكان المدينة وقبائلها على اختلاف أصولهم ودياناتهم، فهذا الميثاق يبين الأسس التي قامت عليها الأمة المحمدية وحكومتها. لقد كان انتقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، إيذانا ليس فقط بالتحول من بلد إلى بلد آخر، بل كان إعلانا عن تحول جذري في الأفكار والمفاهيم والتصورات، وفي نمط الحياة، أساسه الاستقرار والانخراط في الحياة المشتركة، الناظم للحياة فيها الالتزام بقبول الآخر والتعايش معه على أساس قيم إنسانية مشتركة قوامها التعاون على حفظ الأمن والاستقرار. وتعبيرا عن معنى هذا الانتقال العميق بصيغة أكثر وضوحا، وما يتضمنه من التزامات جديدة أطلق صلى الله عليه وسلم، على الوطن الجديد اسم "المدينة"، وكان اسمه "يثرب" قبل ذلك، ونهى عن استعمال الاسم القديم منذ ذلك اليوم. ومن هنا، يصح أن يسمي المجتمع الجديد الذي بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة "المجتمع المدني"، وقلما توقف الدارسون على تغيير اسم "يثرب" باسم "المدينة"، سيما إذا عرفنا أن هذه التسمية المدنية تقابل في الترجمة التسمية التي سمى بها الإغريق المجتمع السياسي والمدني في تصورهم الديموقراطي، وسماها الفلاسفة المسلمون الذين ترجموا تراث الإغريق ب"المدينة الفاضلة، واسمها عند الإغريق Polisأو Politeiaومعناها المدينة أو الدستور أو كلمة Politiqueأو السياسة. والرسول الأكرم عليه أفضل الصلاة والسلام أسس هذا المجتمع المدني على أساس المبدأ العام لكل مجتمع مدني وهو الاهتمام بالشأن العام والانخراط فيه، أسسه صلى الله عليه وسلم بما لا حصر له من الأحكام والتوجيهات وأجمله بقوله: "من لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم"، وقوله: "من غشنا فليس منا". ولو رُمْنا رسم صورة لهذا المجتمع، لما وجدنا أوضح وأوفى وصف له من الذي نجده في هذه الآية الكريمة: ﴿يا أيها الناس، إنا خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، إن الله عليم خبير﴾، إنه إعلان للأخوة البشرية في الحقوق والواجبات، وفي موجبات الكرامة، وإنك مهما تصفحت من إعلانات حقوق الإنسان الخاصة والعامة، فلن تجد مضمونا أشمل وأعم مما تضمنته هذه الآية التي تعتبر أول دستور للأخوة الإنسانية. وإذا كان هذا الإعلان القرآني هو الأول من نوعه، فإن خير تطبيق له هو الدستور المدني الذي سوَّى في الحقوق والواجبات بين المومنين وبين غيرهم في حكومة يرأسها محمد النبي الكريم، وفي مواطنة مفتوحة لكل من رضي بالرسول، وبما أعلنه من دين ومن تشريع. ثم كتب رسول الله كتاب معاهدة بين المهاجرين والأنصار، بين فيه دعائم الأخوة التي تقوم بينهم في مجتمعهم الجديد، وأقر فيه اليهود على دينهم وأموالهم، وعاهدهم على الحماية والدفاع عنهم ما لم يتآمرا ضد الدولة الجديدة والنظام الجديد. دستور المدينة وأشير هنا إلى أهم المبادئ التي تضمنتها هذه المعاهدة التي أثبت نصها كاملا، عبد الملك بن هشام في "سيرته" تبعا لابن إسحاق إمام أهل السيرة، ومن الأهمية القصوى لهذه المعاهدة التي يطلق عليها الدارسون "دستور المدينة" أنها تضع الأسس التي أتيحت للمجتمع المدني أو المجتمع السياسي في مدينة الرسول، لكي ينشط في كل توجهات الخير التي ينشط فيها المجتمع المدني الحديث: البند الأول: وحدة الأمة المسلمة من غير تفرقة بينها؛ البند الثاني: المساواة بين أبناء الأمة جميعا في الحقوق والكرامة؛ البند الثالث: الوقوف ضد الظلم، والإثم، والعدوان، والفساد؛ البند الرابع: اشتراك الأمة في تقرير العلاقات مع أعدائها؛ البند الخامس: تأسيس المجتمع على أحسن النظم، وأهداها وأقومها؛ البند السادس: مكافحة الخارجين على الدولة؛ البند السابع: حماية من أراد العيش مع المسلمين؛ البند الثامن: لغير المسلمين دينهم، وأموالهم لا يجبرون على دين المسلمين؛ البند التاسع: على غير المسلمين أن يساهموا في نفقات الدولة كما يساهم المسلمون؛ البند العاشر: على غير المسلمين في الدولة الإسلامية أن يتعاونوا مع المسلمين لدرء كل عدوان؛ البند الحادي عشر: وعليهم أن يتعاونوا معهم في نفقات؛ البند الثاني عشر: على الدولة أن تنصر من يظلم منهم؛ البند الثالث عشر: على المسلمين وغيرهم أن يمتنعوا عن حماية أعداء الدولة؛ البند الرابع عشر: إذا كانت مصلحة الأمة في الصلح، وجب على الجميع أن يقبلوا بالصلح؛ البند الخامس عشر: لا يؤاخذ إنسان بذنب غيره؛ البند السادس عشر: حرية الإنسان مصونة بحماية الدولة؛ البند السابع عشر: لا حماية لظالم ولا لآثم؛ البند الثامن عشر: المجتمع يقوم على أساس التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان؛ البند التاسع عشر: هذه المبادئ، تحميها قوتان: قوة معنوية وهي إيمان الشعب بالله، ومراقبته له، ورعاية الله لمن بر ووفى. وقوة مادية هي رئاسة الدولة التي يمثلها محمد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. ثم أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تنزيل بنود هذه المعاهدة وتفعيلها في حياة المجتمع الجديد، فوثق صلاته بيهود المدينة، وآخى بين المهاجرين والأنصار على نحو لم يشهد له التاريخ مثيلا. كان ذلك منذ خمسة عشر قرنا دون أن تكون هناك في البيئة العربية التي ظهر فيها الإسلام عوامل اقتصادية اضطرت الإسلام إلى إعلان هذا النظام، ودون أن يصدر ذلك عن حقد من فئة نحو فئة، أو رغبة في انتزاع المال والسيطرة عليه انتقاما من الأغنياء والأثرياء، لكنها نزعة إنسانية عميقة وعدالة ربانية نازلة ممن خلق الأرض والسماء. صورة مجتمع مدينة الرسول الكريم لقد بدأ المجتمع الإسلامي في عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كما وصفه القرآن الكريم:﴿للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾. مجتمع كان فيه الفقر والغنى، ولكن لم تكن فيه المهانة والاستغلال، وكان فيه الحاكم والمحكوم، ولكنه لم يكن فيه الظالم والمظلوم. وصفه الله تعالى بقوله:﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا﴾. مجتمع كان فيه أغنياء لا يخافون حقد الفقراء لأنهم أدوا إليهم حق الله في أموالهم، وفقراء لا يخافون شح الأغنياء لأنهم ما برحوا في فيض غامر من برهم وسخائهم، ولكن كانوا يتنافسون فيما بينهم ويتسابقون إلى فعل الخير والحث عليه. جاء الفقراء يوما إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: فقالوا: (يا رسول الله، ذهب أهل الدثور (الأغنياء) بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؟ إن لكم بكل تسبيحة صدقة، وبكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة). إنها مظاهرة للفقراء من أغرب ما عرفه التاريخ لم يحتشدوا فيها للاحتجاج على قسوة الأغنياء، فذلك ما لم يقع في ذلك المجتمع قط، ولم يحتشدوا فيها للمطالبة بحق مأخوذ، وكرامة مسلوبة، فذلك ما لم يحصل أبدا. ولكن احتشدوا ليعربوا عن آلامهم في تخلفهم عن الأغنياء في ميادين الخير، والإحسان، فكيف يفعلون؟ لقد ظنوا أن سبيله هو المال فحسب، وهم لا يملكون ما ينفقون، فكان جواب الرسول الكريم أروع ما يمكن أن يوجه إليه أمثال هؤلاء ليكونوا بنائين في المجتمع غير هدامين، إيجابيين لا سلبيين، عاملين لا عاطلين، إن سبيل الخير ليس وقفا على وجود المال، بل لها سبل كثيرة يجدها كل إنسان ولو كان غير غني، فلا يحرم منها مواطن ولا يقصى عنها فقير، إنه كف اللسان عن الثرثرة، بذكر الله تعالى وتسبيحه، والقيام بالإصلاح الاجتماعي عن طريق الموعظة الحسنة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإماطة الأذى عن طريق الناس، والتقريب بين المتباعدين، وإصلاح ذات البين بين المتخاصمين، وإمداد المجتمع بالنسل الطيب والذرية الصالحة، بمثل هذا ينبغي أن يكون التوجيه الاجتماعي البناء، والتربية على حب العمل في ظل مجتمع تسود فيه روح الأخوة والتعاون، والحرص على تحقيق أمن الجماعة، واستقرارها. لا يستثنى من المشاركة أحد من أفراده، كل واحد بما هو مهيأ له وقادر عليه. وهكذا علَّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جيلا صنع الله منه خير أمة أخرجت للناس. نخلص من ذلك إلى أن القيم التي قام المجتمع المدني على أساسها، متجذرة في الملة الإسلامية لا تنفك عنها تأصيلا، وتمثلا، وتنزيلا، وتفعيلا، لا يجادل في ذلك من عرف تشريعاتها التي شملت جوانب حياة الإنسان بكل تمظهراتها، ثم اتخذت طريقها إلى التطبيق العملي تحت نظر النبي الكريم ذي الخلق العظيم، وبإشرافه وتوجيهه. وخلاصة القول، إن المجتمع المدني، له عمقه في الإسلام وتاريخه، مجتمع مدني، في دولة مدنية ليس فقط في شقها التدبيري للشأن الدنيوي، بل وحتى فيما هو منها تعبدي، حيث يبرز فيه البعد الاجتماعي بروزا ظاهرا. وإذا كانت التربية على البذل والعطاء ونكران الأنانية هي من مقومات العمل في إطار المجتمع المدني فإن للإسلام في مبادئه وبنائه التشريعي والأخلاقي ما لا سبيل إلى إنكاره وجحوده وله على الخصوص تميزه بأن غايته هي وجه الله تعالى تعبدا وطاعة، وأمام هذه الحقائق تتهافت وتتهاوى دعاوى كل المدعين باسم فهم خاص للسياسة والحرية بأن الإسلام غير متلائم مع المجتمع المدني كما هو غير متلائم مع الديموقراطية، فالبرغم من المظاهر العقلانية لمثل هذه المواقف الفكرية فإنها لم تصمد أمام التحليل الموضوعي الصارم، ومن أمثلة ذلك الانتقادات التي وجهها عدد من الباحثين إلىأطروحات إِرْنِسْت گيلْنير (Ernest Gellner)، على أن المهم من ذلك، ألا تكون لدينا عقدة نفسية نابعة من أجل الدين حتى لا ننزلق في تصور التعارض بين الدين والمجتمع المدني، بل الذي ينبغي أن يكون، هو العكس من ذلك تماما.(...)