هل كان علينا أن ننتظر إلى أن تصدر (روبير لافون) مجلداً بمؤلفات صلاح ستيتيه، من قديمه وحديثه، لنعرف أن لا مناص من قراءته أو تصفحه من دون أن نخاف. لا أعرف لماذا ترددت غالبا في أن أقرأ صلاح ستيتيه، لماذا أوقعت نفسي في مشكل معه بدون ان أقرأه. أي خفة تدفعنا أحيانا وبلا سبب على هذا الحرج الذي لن نعرف إلا بعد وقت انه كذلك. أي حاجة إلى ان نخلق سوء تفاهم من لا شيء. مجلد لافون (1145 صفحة مع ملحقاته) أمامي ولا يمكن إلا بقلة نزاهة، لم أعد مستعدا لها، أن اتجاوزه وربما أعلق عليه، بدون ان أقرأه. انه مجلد شعر ونقد ودراسات وقراءات وذكريات أيضاً. افهم أولا لماذا انتظرت طويلاً حتى أقرأ ستيتيه. انه محكم، لا أجد سوى هذه الكلمة، متمكن إلى درجة يستطيع معها ان يسوق أكثر المتنافرات الى نظام موسيقي ولغوي قادر. أتكلم هنا عن شعره، انه يبدو لأول وهلة متماسكا مقطعا متداخلا على نحو موزون وشبه محسوب، لكن قراءة ثانية وربما أولى، نخرج بها قليلاً من اللحن والتوقيع، لنجد أنفسنا امام هذيان مفلت وبري ايضاً. تقع الأشياء على بعضها من حيث لا تحتسب، وتتزوج بدون استعداد أولي، وتتشكل بدون مقابل ذهني او مادي، الا انه هياج مرصود، الا انها فورة شبه مكتومة. ثمة لحن ونحت يمتصان كل ذلك ويحيلانه إلى ما يشبه النقش. هكذا تتقلب قوة وعنف في حبس كريستالي. هكذا تتبلور غرابة حقه وتتنغم. كان صلاح ستيتيه تكلم غير مرة في مجلده هذا، في «حملة النار». وفي مطارح أخرى عن مبدأ العمود الشعري/ العربي. عن قوة اللحن والشكل على منح التقليد حياة ثانية والمعاني المتواترة نبضا جديداً. هل كان هذا في باله او في لا وعيه وهو يجعل اللحن والشكل يرقيان «من الرقية» الجنون التصويري ويسبغان عليه هدوءاً وسلاما. يكفان صخبه وهياجه، ويجعلانه على حافة الصمت، فثمة هنا ما يشبه حربا بلا صوت، ما يشبه تصدعا في كرة بلورية. لكن أين تقع الغريزة والمادية والحسية وهي أمور تكلم عنها الشاعر وهو يقابل بينه وبين بيار جوف. بين شعره وشعر ذاك. أين يقع كل ذلك، أهو في المادة الأولى، مادة تراب وعصف ولكن أيضاً سماء وجنة وأساطير وآثار. في المادة التي لا تتقابل متنافراتها ولا تندمج أو تتداخل الا بدرجة من العنف الملموس، بدرجة من العشوائية والعسف. لكن كل ذلك سرعان ما يشتجر كما يحدث في الزخرفة العربية والخط العربي. سرعان ما يتحول صراعه وتشابكه إلى إيقاع او نسق موقع. سرعان ما يدخل في الشكل واللحن اللذين يمتصان الصراع ويحيلانه متبلرا خافتا بدون أذى وبدون دم. هل يمكن هنا ان نتكلم عن انفتاح على الشعر العربي والفنون الإسلامية. طالما قارن ستيتيه وهو ناقد تشكيلي نفاذ ما بين العمود الشعري العربي والزخرفة الإسلامية من تطابق في الأداء والرؤية. ترى أيسعنا أن نجد في شعره صدى لهذه القراءة، على فرق ما بين شعره وبين الشعر العربي. وفرنسيته واللغة العربية. أيمكن ان تكون مالارمية ستيتيه هي المقابل الخاص والفرنسي لاستلهام، بعيد وبعيد جداً، عربي. انه تصفح فحسب. لن اجرؤ على ترجمة ستيتيه فأنا اتعثر في ترجمة عناوينه إلى العربية، ستيتيه لاعب لا يجاري بملكات لغته. ان جزءا من قيمته في هذا اللعب. لكن هذا ما يشق نقله إلى العربية وما لا يمكن الاكتفاء بحرفه أو معانيه. ثمة اللحن وهو يحتاج إلى لحن مقابل، أحد عناوينه متطفلو اللامحتمل) يقل كثيراً عنه في أصله الفرنسي. «حيث الاشتعال» قد يكون هو عنوان المجلد لكنه أيضا دون الأصل. «توقيعات» مقابل مقترح لما يدعى Aphorismes بالفرنسية. يسميها ستيتيه مفكرة. في هذه التوقيعات نجد وجها آخر من وجوه ستيتيه، لكنه ليس غريبا عن الشاعر فيه، بل لا نتعب حتى نسمي هذه التوقيعات شعرا. الاحكام هو نفسه بل هو هنا أجلى، واللعبة في قوتها وإن بمعادلة أخرى. يمكننا الآن ان نوازي بين الذكاء الذي في سبيله إلى ان يتلطى البداهة. انها لعبة جدل غالبا ما ينغلق على شكل. بل هي لعبة مفارقة خصبة، تخترع وتشكل وأحيانا من لا شيء، في النهاية نجد أنفسنا ثانية امام ما يشبه النقش. «نتقدم عبر الثقوب، الفضاء عبارة عن ثقوب متصلة»، «البيت يغمض عينيه بذاكرة شجرة» «الفعل يصنع اللاشيء، الفكر يفكر اللاشيء. الشعر يسمي اللاشيء». دراسات «ستيتيه» ليست دراسات فحسب، انها ايضاً ستيتيه شاعراً وقارئا وحاضرا. لعل «حملة النار» بين أكمل الدراسات عن التجديد الشعري العربي الحديث، مع ذلك فإنني أعجب من تضمينها المجلد. انها ممتازة لكن في وقتها، لقد اعتراها الزمن. لا أقول انها شاخت لكنها بيان الحداثة الشعرية العربية بلسان أحد أبنائها. «حملة النار» يرينا كم ان الشاعر بالفرنسية كان في قلب الحركة. كان في قلبها وخضمها ولم يسمح له ذلك الا بأن يكون أحد ألسنتها لا دارسيها. «حملة النار» لذلك قد يكون المرافعة المتقنة للحركة، لكنه المرافعة بل البيان بكل ما يحمله ذلك من دفاع ووعود غير محسوبة وربما ادعاءات. لقد بدا للشعر يومها، وهذا ليس بعيدا عن التراث، بأنه باب المستقبل والبديل عن الفكر وربما التاريخ والفن بطبيعة الحال. وضعه هذا امام مشروع فوق ثقافي وفوق شعري وفوق تاريخي. هذا البيان غدا الآن من تراث الحداثة والأرجح ان الماضي اعتراه. «طفيليو اللا محتمل» إذا قنعنا بهذه الترجمة الحرفية كتاب من جديد ستيتيه. كم جديده وهو في هذه السن نضر. ليس نضرا فحسب بل مفعم بالحب. انه في جانب منه دراسات عن كبار، لكنهم كبار أصدقاء وأحدهم بونور يذكر غالباً مصحوبا باسم «المعلم». كبار في أعمالهم لكنهم أيضاً كبار في حياة ستيتيه. انها طريقة مواربة لسيرة ذاتية مفتوحة ومتقاطعة مع الآخرين. جميل بل فاتن أحياناً ما نقرأه عن بيار جان جوف الذي احمل شخصياً الأثر الحارق لرائعته «عرق الدمع». ما تقرأه عن بونور المعلم، مانديارغ وسيوران. سيضاف إلى ما كتبه ستيتيه عن آخرين عرفهم ولم يعرفهم (بودلير، مالارمه، شحاذة) لنجد أنفسنا أمام سيرة ولو بوسائل أخرى. قد أفهم الآن لماذا تجنب ستيتيه. انه محكم، لاعب متفنن وباهر، الذكاء والخيال ولكنه أيضاً التملك والحكم والقوة. أي كل ما لا يحتاج لي. أعرف الآن لماذا أقرأ ستيتيه، لأن خبرة كبيرة وطاقة كبيرة موجودة لخدمتي وينبغي ان لا أخاف منهما.