يستحيل أن نصف «مذكّرات رحّالة» بأنّه كتاب يقوم على «رتابة متتالية، وفواصل مملّة».. وهو سيرة بولز، وعنوانه الأصلي: «بدون توقف»، إحالة على الرحلة وكثرة التنقل. وقد قال صديق بولز، وليام بورووز، «وجب أن يسمى الكتاب» بدون حكي«أو بوح» ملاحظا أن القارئ، حين ينتهي من قراءته، يشعر بأن الكاتب لم يقل شيئا عن نفسه. وبالفعل فهو يتحدث عن أسفاره والمناطق التي زارها وحياة سكانها، والكتاب الذين التقى بهم، ولا شيء عن نفسه.. ويؤكد ذلك، أن بعض ما نشرناه عن بولز (خمسة كتب)، وما لم ننشره بعد لم يُذكر منه شيء في سيرته تلك. فهو القائل: «حياة الكاتب لا تهم، عمله هو المهم» لعل لصاحب الكتابات التي تثير الجدل أجران، وواحد للتي تستهلك وكفى. ومن بين الأولى ما يكتبه الأستاذ محمد محمد الخطابي. وقد أوحى لي مقاله بملاحظات دونت بعضها بكل محبة.. للحقيقة. من المعلوم أن بولز زار المغرب وطنجة، للمرة الأولى سنة (1931)، وظل يتردد عليه مرتين أو أكثر إلى منتصف العقد ذاته، لما سنت أمريكا، قانونا يمنع مواطنيها من مغادرة البلاد للدفاع عنها لما لاحت تباشير حرب أوروبا الرأسمالية الثانية. وواضح أن كارليس خيلي ليس من التقاة ليروى عنه، ولنبدأ من فكرة أن شكري يروي بتلقائية عن بولز بينما يحكم العلاقة بينهما ما قاله شكري وروته المستعربة والمترجمة كلود كرول: «صعد شكري فوق كونتوار حانة فندق بطنجة وظل يؤكد بصوت مرتفع: «أنا ثاني كاتب عالمي بعد بول بولز». والحقيقة فكثير من الأعمال الأدبية التي اتخذت من طنجة فضاء لها تسكنها العنصرية، ولكن أغلبها لكتاب من البلدين الذين احتلا المغرب: فرنسا وإسبانيا. ألا تسكن عواطف العسكر روح كثير من الكتاب؟ أما روايات بعض الألمان والأمريكيين وغيرهم.. فهي تتفاوت في موضوعيتها. وقد ظل المقيم الفرنسي ليوتي يستدعي كتابا من فرنساوأمريكا ليكتبوا عن المقيم الذي «أنقذ المغرب من الفوضى وحافظ على المملكة التاريخية وأعلن الفجر الجديد»، الاستعماري الحداثي! والحقيقة أنه لم يبدأ «الخلاف، والشنآن، والتباعد، والتنابذ بينهما» بل لما انتهى الطرفان من ترجمة سيرة «الخبز» انقطعت الصلات لأن العلاقة بينهما حكمتها ترجمة السيرة. وتعرضت لشروخ بسبب إدمان شكري على الويسكي، وتوفر زجاجات منه ببيت بولز، (الذي لم يكن يشرب الخمر). وترجمة «الخبز» ذاتها، جاءت بطلب من الناشر الإنكليزي، بيتر أوين، بعد أن ترجم بولز نصا لشكري ونشره في مجلته «أنتيوس».. وقد كان المترجم والكاتب المتعدد المواهب إدوار روديتي قدم شكري لبولز وطلب منه العناية به لموهبته.. وعاد لترجمة نصيه القصيرين عن تنيسي وليامز وجان جينيه. ولم يكن بولز يتناول الحشيش، كما يؤكد ذلك المقربون منه (صديقه محمد المرابط، والكاتب الأمريكي جون هوبكنز، وسائقه الأول التمسماني، وسائقه الثاني عبد الواحد بولعيش...) فهو تناوله مرات محدودة، منها مرة ليستطيع وصف موت شخصية، بورت موريسبي في روايته «السماء الواقية»، («شاي في الصحراء»، في الترجمة الفرنسية، وعنوان الفيلم المقتبس عنها من إخراج برتولوتشي. وقد عبر بولز عن عدم احترامه لبرتولوتشي، لأنه أغرق الفيلم في لقطات جنسية في العراء، ثم أخرى بين مسلمين ليست من الرواية اعتمدت ممارسات لا علاقة لها بأفريقيا بل هي انحرافات غربية أو أمريكية... لا تحترم أنثربولوجيا المكان). وما عدا ذلك، فقد كان يدخن الكيف ككل المغاربة المحيطين به من المرابط، وقبله الفنان أحمد اليعقوبي، والعربي العياشي (أحمد بن حامد الشرادي، صاحب أول سيرة ذاتية من ترجمة بولز (نقلت إلى 12 لغة بعد سنتين من نشرها) ورشحت لجائزة أدبية أوروبية، وحصلت على عدد الأصوات ذاتها، خلال الدور الأول، في مواجهة رواية جورج سمبرون الأديب المقاوم «السفر الطويل». ولم يكن بولز «نخبويا»، فلعل الإشارة إلى قائمة أصدقائه من المرابط إلى العياشي، فاليعقوبي، فالتمسماني، الذي يقول في حوار معنا ما نقتبسه من سيرة موضوعية غير منشورة: «يوم بدأت أقود سيارته سجلني بولز في المعهد الأمريكي لدراسة اللغة الإنكليزية، وقال لي ستحتاج الحديث بها مع كل أصدقائي»، ثم شرع يأخذني معه إلى المطاعم لأتعلم الأكل بالشوكة والسكين قائلا: سنلتقي أصدقاء، وسنتناول الطعام في مطاعم.. ويجب ألا تشعر بحرج أمام أحد...«وعبد الواحد بولعيش» سائقه الثاني قرابة الثلاثة عقود، والزين رئيس فرقة «جهجوكة» التي عمد بولز إلى نقلها لجزء من العالم عبر التأكيد على رئيس مهرجان «وود ستوك» في طبعته الثانية أن يستدعي الفرقة وقدمت عرضها خلال عشرين دقيقة. (وكانت الأولى 1969 قد قدمت كلا من جيمي هاندريكس، وسانتانا، والبيتنلز، والرولينغ ستونز)... وهي المجموعة التي عَوْلَمَهَا بولز لما نقل إلى قرية جهجوكة، مقام فنانيها، صديقه الفنان والروائي براين غيزن، والفنان براين هاريس، ودفع بمجموعة الرولينغ ستونز إلى العزف الجماعي مع الفرقة المغربية وتسجيل تلك الموسيقى وإذاعتها.. ولا كان «عنصريا»، فالبينة على المدعي. فهل من كانت شرائح شعبية تشكل معظم أصدقائه، يمكن أن يقال كان عنصريا... ومن يعود لما كتبه بولز، لا ما قيل عنه، من ذلك نصوصه الرحلية التي كتبها عن المغرب، وعن بعض مدنه خلال الخمسينيات، ولم تكن لا النخبة (ولا السلطة) المغربية تعرف بوجوده لتغير رأيه. وروايته «بيت العنكبوت» التي نبذها الاستعمار الفرنسي، وترجمها الإسبان بعد نشرها بسنة (1956) نكاية بفرنسا لأنها تدين الاستعمار الفرنسي، نفي التهمة.. وقد طردت السلطات الفرنسية بولز من مدينة فاس، وكان حل بها ليبدأ كتابة روايته، وقد نفت ملك المغرب الراحل محمد الخامس، وكانت على وشك مهاجمة جامعة القرويين للتنكيل بعلمائها الذين رفضوا الاستعمار.. طُرد بولز كي لا يشهد أحد على ما سيقوم به الاستعمار الفرنسي من أعمال وحشية مع حلول الذكرى الأولى (1954) لنفي ملك المغرب.. ولعل الرواية تفيض حبا للمغاربة والمغرب، وتندد بالاستعمار الفرنسي، و«بحزب الاستقلال» الذي كان يفاوض فرنسا من أجل توزير أعضائه.. ومضاعفة سرعة سيارة تغيير مسخ البلد ليصبح «مثل فرنسا»، التي تقلد أمريكا. ويستخلص بولز، «نيويورك مزبلة، وباريس تقلدها لتصبح مزبلة، فما يفيد المغرب من تقليد فرنسا وبحوزته قرون من الحضارة والمجد؟». ويستحيل أن نصف «مذكّرات رحّالة» بأنّه كتاب يقوم على «رتابة متتالية، وفواصل مملّة».. وهو سيرة بولز، وعنوانه الأصلي: «بدون توقف»، إحالة على الرحلة وكثرة التنقل. وقد قال صديق بولز، وليام بورووز، «وجب أن يسمى الكتاب» بدون حكي«أو بوح» ملاحظا أن القارئ، حين ينتهي من قراءته، يشعر بأن الكاتب لم يقل شيئا عن نفسه. وبالفعل فهو يتحدث عن أسفاره والمناطق التي زارها وحياة سكانها، والكتاب الذين التقى بهم، ولا شيء عن نفسه.. ويؤكد ذلك، أن بعض ما نشرناه عن بولز (خمسة كتب)، وما لم ننشره بعد لم يُذكر منه شيء في سيرته تلك. فهو القائل: «حياة الكاتب لا تهم، عمله هو المهم». وإذ أورد الأستاذ محمد محمد الخطابي في مقالته: «ويشير شكري إلى أنّ هذا العمل الأدبي قد شاخ كثيراً مع مرض جين ممّا دفع بباولز إلى القيام بترجمات متعدّدة لكتّاب عرب»، نتساءل عن هذه الترجمات المتعددة وعن هؤلاء الكتاب العرب؟ فقد ترجم بولز أعمالا أدبية سجلها أصحابها، أحمد اليعقوبي، ومحمد المرابط، والعربي العياشي، على شرائط، ثم نقلها بولز بمساعدتهم إلى اللغة الإنكليزية. وقد ترجمنا بعضها إلى العربية منها «رواية المرآة الكبيرة» للمرابط، عن دار الجمل...). سجلها أصحابها لأنهم لا يعرفون الكتابة ولا القراءة.. ولعل «ترجمات متعددة لكتاب عرب» يُقصد بها نصوص محمد شكري وحده. ويعني قول كارليس خيلي «إن كتاب شكري أثار حفيظة بول باولز»، أن ما قذف به شكري في وجه بولز من شتائم جعلت الناشر الألماني يرفض نشر الكتاب بحسب تأكيد وكيل شكري، روبرتو دي هولاندا، الذي كان طلب من الراحل أن يحذف بعض ما اعتبره الناشر المذكور شتائم لا تمس الأدب، بل تمس الشخص. وتشبث بها الراحل شكري، ولم ينشر الكتاب. فهل يبين ذلك أن الأقوال «حقائق وأسرار»؟ وقد خصصنا كتابا جمع بين السيرة والحوار والذكريات.. («بول بولز/محمد شكري: الحوار الأخير»، منشورات «جداول»)، يوضح معظم القضايا التي طرحها شكري في كتابه عن بولز. يصعب على من عرف بولز، واقترب كثيرا من نصوصه أن يصدر هذا الحكم، فالمرابط، وعبد الواحد بولعيش، وجون هوبكنز، ورودريغو راي روصا، وكافن لامبرت وغير هؤلاء ممن عاشوا العقد والعقدين والثلاثة إلى جانب بولز يؤكدون عدم صحة معظم، بل كل ما ورد في كتاب شكري عن بولز. فهل يمكن أن يجتمع كل هؤلاء على ضلال؟ بل إن الطاهر بن جلون نفسه، تحدث عن قتل الأب حين اطلع على مضمون الكتاب، وأضاف أن في ذلك العمل اعتداء على شيخوخة بولز، في وقت كان مريضا، ويضيف بولز «كان شكري يعتقد أنني مرشح للموت».. وقد كان شكري ثالث ثلاثة قبل بولز ذاكراتهم فولدت سيرا احتفى بها بعض العالم لبعض جوانبها الاستثنائية: «حياة مليئة بالثقوب» للعياشي، و«انظر وامض»، و«الزواج بلأوراق».. للمرابط ثم «من أجل الخبز وحده» في عنوانها الانكليزي، و«الخبز الحافي» استلهاما لعنوان رواية بورووز «العشاء العاري».. وحتى لا يوحي ظاهر هذه السطور بغير باطنها، نشير إلى أنه ما تزال ترقد بين أدراج مكتبتنا سيرة لمحمد شكري، أنجزت بمعيته وبرغبة منه (1994-1995). وتتميز بصراحة مثيرة. سألته: «كنت مرشدا سياحيا...»، فقاطعني قائلا: «بل كنت قوادا يا عبد العزيز، سم الأشياء بأسمائها، كنت أقود البحارة الأمريكان والأجانب نحو مواخير المومسات...» ويبقى أن المرحوم شكري، كان محظوظا، (فلم ينعم بالصدى ذاته أكبر كتاب المغرب محمد زفزاف)، فهو قد حرك السواكن، أثار الكتاب، وأثار فيهم نوازع الاقتراب فراسخ من «العالمية». فهل صدق هوبكنز حين قال: «يشبه الخصام الأدبي السر العائلي في خصوصيته وحميميته ومرارته وطوله»، ويحتاج من يضيء دياجيره؟ عن القدس العربي