ربما كان الثعلب الأميركي القديم هنري كيسنجر مصيبا حين قال: (إنه على أعداء أمريكا أن يخشوا أمريكا، لكن على أصدقائها أن يخشوها أكثر). تحدثت وسائل الإعلان عن الاتفاق النووي بين إيران من جهة ودول 5+1 من جهة أخرى، وفي الحقيقة انه اتفاق إيراني أميركي ثنائي بامتياز ليس الا. ولا بد لكل اتفاق ومعاهدة من بنود واهداف ونتائج علنية وأخرى سرية او ضمنية او خفية (سموها ما شئتم) وملحقات تفصيلية، وهي ما لم تتحدث عنه وسائل الاعلام العربية تحديدا في هذه الاتفاقية، وأصبحت المنطقة العربية نهبا مقسما لثلاث دول هي الولاياتالمتحدة الأميركية وإيران وإسرائيل، وتحاول تركيا ان يكون لها نصيب من حمص المولد والكعكة، ولا يوجد للعرب حضور في المعادلة ولا نصيب لهم سوى الخيبة وأداء المهمات التي تخدم هذه المعادلة الثلاثية. ومن خلال الاطلاع على نص المقابلة المطولة التي اجراها الصحافي الامريكي توماس فريدمان مع الرئيس الأميركي باراك اوباما في البيت الابيض، نخرج باستنتاجات من ابرزها ان إدارة أوباما قررت الطلاق البائن بينونة كبرى لحلفائها من الأنظمة في العالم العربي , بل ونفضت يديها منهم ومن مهمة حمايتهم ولم تعد تأبه لتقاريرهم ولا بأهميتهم , ولا بالوشاية التي يمارسها كل منهم ضد الاخرين , فلم تعد هذه الأنظمة المتعددة المتبددة وامنها واستمرارها يشكل أولوية عند الامريكان , واستبدلتهم بحليف استراتيجي واحد وهو ايران , حليف قوي وغني ومنظم ومسيس وموثوق للأمريكان والصهاينة . ولديه وضوح رؤيا وبرنامج واضح. جاء في مقابلة الرئيس الأميركي أمور خطيرة منها اسقاطه الهوية الجامعة للعرب وهي القومية العربية، واستبدالها بهوية طائفية متشرذمة بين السنية والشيعية، وأيضا تكريس التقسيم والصراع المذهبي السني الشيعي في المنطقة، وبذلك ثبت ان احتلال العراق عام 2003 كان مقدمة لتفكيك الشرق العربي ليصبح الشرق الاوسط الجديد المكون من كيانات سياسية واجتماعية ضعيفة غير قادرة على حماية نفسها، بل وتنخرط في حروب بينية طاحنة تأكل الأخضر واليابس. كرر أوباما (عشر مرات) استخدام تعبير سياسي جديد عند اشارته لحلفائه من الأنظمة في العالم العربي، وهو ?السنة العرب?، بينما لم يشر مطلقا الى إيران كدولة شيعية، ولم يستخدم كلمة ?شيعة? في المقابلة نفسها الا مرة واحدة فقط، وذلك يعني انه يقول: أن إيران دولة عظمى قوية ومنظمة، اما العرب فهم ?طائفة? مذهبية ضعيفة ومشرذمة. وامتدح الرئيس اوباما إيران كدولة حضارية تملك تاريخا عريقا، وقاعدة علمية وتعليمية صلبة، وشعبا راقيا، بينما تجاهل حضارة العرب التي صنعت أوروبا وامريكا والعالم، بل كان انتقاديا بشكل لافت ل ?حلفائه? من حكام العرب السنة، حيث اتهمهم بالديكتاتورية والفساد، والتخلف، وانتهاك حقوق الانسان، تلميحا وتصريحا، وانهم معزولون عن شعوبهم ومطالب شعوبهم العادلة. وبذلك انضم الرئيس باراك الينا والى سائر المفكرين العرب المتنورين حيث قلنا هذا الكلام وكررناه منذ سنوات بعيدة ولا زلنا نقوله ونشعر بنشوة النصر ان الرئاسة الأميركية صدقتنا وامنت بكلامنا ولو متأخرة، ولكن ان تأتي متأخرا خير من الا تأتي ابدا. كما ابدى الرئيس تفهمه للقلق الاسرائيلي من البرنامج النووي الايراني، ومن القدرات العسكرية الايرانية، وتعهد بتزويد اسرائيل بأسلحة حديثة متطورة، والتصدي لأي ?عدوان? ايراني عليها، ولكنه لم يتفهم قلق حلفائه العرب ,وانما كان كلامه عن قلقهم استخفافا بهم ، مؤكدا ان هؤلاء الحلفاء ، يواجهون خطرين اساسيين، الاول خارجي وهو ايران، والثاني داخلي يتمثل في الاقصاء والعزل والتهميش والتطنيش الذي يمارسونه على مواطنيهم , وعزلهم المؤهلين من الشعب عن دائرة الحكم، فضلا عما يعانيه الشباب العربي السني العاطلين عن العمل من الاحباط، وانسداد كل الافاق في وجوههم من قبل هذه الانظمة . ولمزيد من الاستخفاف بالحكام العرب امام انحنائه الذليل لإيران، قال الرئيس حرفيا، (كيف يريدوننا (أي الأنظمة العربية) ان نبني قدراتهم الدفاعية في مواجهة تهديد خارجي، وكيف يريدوننا ان نقوي الجسم السياسي في هذه البلدان العربية، قبل ان نقنع ?الشباب السني? بأن هناك بدائل اخرى امامه غير ?الدولة الاسلامية?؟) فأمريكا والغرب والشرق لا يفهم الا منطق القوة وهذا ما فعلته إيران ونجحت به ايما نجاح. ووصلت سخريته بالأنظمة الى اعلى درجاتها بقوله ?أستطيع حمايتهم من الايرانيين لكن لا أستطيع حمايتهم من الخطر الداخلي (أي من شعوبهم)، ولذلك عليهم اجراء التغييرات التي تتجاوب مع مطالب شعوبهم?، وعرض ان يتوسط بين ?العرب السنة? والايرانيين لحل المشاكل الامنية والسياسية والطائفية، وفتح حوار بين الجانبين. ولكن ما يمكن استخلاصه من المقابلة في هذا الإطار هو تعاطيه مع القادة ?العرب السنة?، حسب توصيفه، كما لو انهم تلاميذ مستجدون في ?مدرسة? هو مديرها. وهو بذلك يبين مدى ضعف هذه الأنظمة العاجزة عن حماية نفسها من شعوبها. اذن نحن امام إيران جديدة، وامريكا جديدة، وعرب على حالهم، يعيشون الماضي، ويبحثون عن الحماية من الثور الامريكي الذي طعنهم في ظهورهم وصدورهم بخنجر مسموم، وابتزهم، وحلبهم حتى القطرة الاخيرة في ضروعهم، كورقة مساومة للوصول الى عقول الايرانيين وقلوبهم وقوتهم. حتى فرانسوا هولاند الرئيس الفرنسي الذي استقبل بالسجاد الأحمر في دول عربية مهمة، موحيا انه سيعرقل اي اتفاق مع إيران، وحصل لقاء ذلك على صفقات اسلحة ومفاعلات نووية بأكثر من عشرين مليار دولار، مقابل هذا ?الوهم?، ها هو يهرول الى طهران عبر وزير خارجيته لوران فابيوس كأول مسؤول اوروبي يزورها مهنئا وباحثا عن صفحات وصفقات جديدة، ولا ننسى الطابور الطويل من ميركل الى اوباما الى رئيس وزراء بريطانيا والحبل على الجرار، الذين سيحجون الى طهران لأخذ البركات. اما الامير بندر بن سلطان فقد تنبأ بأن يؤدي هذا الاتفاق الى حالة من الفوضى في المنطقة، أي ان تعم الفوضى الدول التي لم يصلها الربيع العربي الى الان ومنها دول التعاون الخليجي ومن جاورها. اما ايران فهي مرشحة لاستكمال دائرتها التوسعية التي بدأتها في اعرابستان السنية ( خوزستان / الاحواز ) التي هي الخزان الرئيس لإنتاج النفط في ايران والتي مارست عليها ايران تطهيرا عرقيا ودينيا ( سنيا ) منذ 1925 , وادار العرب ظهورهم لأبناء جلدتهم هناك , ثم ان ايران ابتلعت العراق بعد الإطاحة بصدام , ثم ابتلعت سوريا واليمن ولبنان , وها هي تتشوف الى البحرين وشرق السعودية ودول الشمال العربي الافريقي ، بحيث تصل الى الدول العربية الأخرى لفرض الفوضى والقتل والدموية على طريقتها الشعبية الشيعية , لكنهم يسمونها حزب الله تارة , والحشد الشعبي تارة أخرى , وانصار الله طورا والتنظيمات الجهادية والارهابية طورا اخر . اما حجتهم في ذلك فهي الادعاء بمقاومة الشيطان الأكبر ورفع شعار: الموت لأمريكا وإسرائيل ؟؟؟؟ لذا فليس غريبا ان أوباما في مقابلته أعلاه يعتبر ان الخطر الأكبر على حلفائه من الأنظمة في العالم العربي انما يأتي من الداخل من جهة، ومن جهة أخرى ان المنطقة مقبلة على صراع دموي طائفي وتطهير عرقي للعرب السنة ضمن حروب مذهبية سنية/ سنية، وسنية شيعية، وبين مدارس تدعو للوسطية والاعتدال وأخرى تدعو للقتل والعنف والإرهاب، والخاسر هو العرب السنة لأنهم ضحية، والخاسر أيضا هذه الأنظمة التي كان همها ان تحكم وتتحكم لا ان تبقى وتستمر، فلا استمرت ولا أبقت ضرعا ولا زرعا. الرابح الوحيد هي إيران الفارسية، والخاسر الوحيد هم العرب السنة أنظمة ودولا وشعوبا واوطانا وقوى عسكرية، فإيران لم تفاوض الا بعد ان وصلت الى قمة برنامجها النووي، وكانت تعرف ما تريد، واشغلت العالم بالتفاوض وهي تبتلع اليمن وسورياوالعراق، وتعمل على التطهير العرقي للعرب السنة، بحجة انهم ارهابيون، وبذلك قلبت مفهوم الإرهاب والصقته بالعرب السنة وصارت إيران الفارسية رمزا للاعتدال والديموقراطية، وصار السنة العرب رمزا للعنف والإرهاب ؟؟؟ منطق مقلوب تماما. وبذلك اعطى الاتفاق النووي شرعية للعنف والإرهاب الشيعي، والطمطمة على كل شيء من هذا القبيل، واعتبر ان الإرهاب عربي سني فقط، بينما الإرهاب الفارسي معتدل وديموقراطي ؟؟؟ , وأصبحت إيران هي المرجعية العليا الوحيدة للشيعة في العالم وليس النجف او العراق او العرب، وبالتالي فان أمريكا تتحالف مع مرجعية واحدة للشيعة، بينما تتعدد المرجعيات السنية بل وتنعدم تماما، وان وجدت فهي متناحرة متنافرة، الى درجة يتعذر فهمها او احصاؤها، وبالتالي تتبعثر القوة السنية وتصبح عبارة عن شراذم تأكل بعضها بعضا، وان المشرذم لا يغلب المنظم.