لماذا مولاي العربي الشابي الشتوكي؟. ولماذا النبش في قصة حياته؟. وأية غاية لنا في ذلك؟. إن الجواب، هو أن سيرة الرجل تستحق أن تروى، عنوانا عن معنى مغربي، لجيل فتح عينيه على الإستعمار، وسكنته تلك الرغبة الجامحة في أن ينحث له مكانا تحت الشمس، مختلف عن تجربة من سبقه من أجيال مغربية. بصيغة أكثر دقة، إن في الكشف عن قصة حياة هذا الرجل البطل (وهو بطل فعلا في الحياة وفي المواقف الوطنية)، بعض من ملامح معنى التحول الهائل الذي عاشه المغاربة كإنسية، بعد صدمة الإستعمار. فهي تجربة حياة، من الغنى والكثافة والتميز والإثارة، ما يجعل حياة فرد (مثل حياة مولاي العربي) عنوانا على قصة المقاومة التي قاوم من أجلها أولئك المغاربة، الذي عاشوا ما بين 1912 و نهاية القرن 20. أي أننا من خلال تجربة حياة فرد، نلج إلى معنى ثقافي سلوكي لمجتمع جديد، صهرته قوة ذلك التحول وتلك المقاومة من أجل شكل حياة مختلف. مختلف، بدفتر تحملاته القيمية، التي تعلي من فكرة النهوض. النهوض الذي عنوانه الأكبر عندهم، هو استحقاق التقدم وشروط المدنية والحداثة. وهنا يكمن السر في معنى التحول التاريخي الذي يعيشه المغاربة، منذ أكثر من قرن من الزمان، لأنه انتقال هائل من معنى حياة إلى معنى حياة. وتجربة رجل إسمه مولاي العربي الشتوكي، الذي تقاطعت عنده مسارات تجارب متعددة: حياتية، نقابية، سياسية، مقاومة، تقدم لنا بعضا من المثال الخصب على ذلك. إن مما يؤكد عليه، المؤرخ الفرنسي شارل أندري جوليان، في كتابه المرجعي الهام "المغرب في مواجهة الإمبرياليات (1415 - 1956)"، أن حركة المقاومة المغربية المدينية المسلحة، خاصة بين سنوات 1950 و 1956، تميزت عمليا بأمرين: أنها نوعية، وأنها لم تخلف خسائر بشرية كبيرة مقارنة بالذي حدث في ليبيا أو الجزائر أو تونس. والسبب راجع، إلى كونها كانت مشروعا مجتمعيا مغربيا (في الدولة وفي المجتمع) ضد قوة أجنبية خارجية. بدليل أنها مقاومة مسلحة عنيفة، تصاعدت في ما بين 1953 و 1955، بعد قرار باريس عزل الملك الوطني محمد الخامس عن العرش ونفيه خارج المغرب. بدليل أن الشعار السياسي الشعبي الذي رفع أصبح هو: "بن يوسف إلى عرشه". لقد تصاعدت المقاومة ابتداء من يوم 20 غشت 1953، الذي تم فيه تنفيذ قرار استعماري تصعيدي، هو عزل الملك الوطني محمد الخامس. وأن روح ذلك القرار، قد كانت كامنة فيه غاية الإساءة، ليس للسلطان فقط، بل للإحساس العام للمغاربة. كونه قرارا اختير تنفيذه يوم احتفالهم بأكبر الأعياد في الديانة الإسلامية، أي عيد الأضحى. مما كانت نتيجته، ترسيخ قرار المواجهة العنيفة شعبيا بالمغرب. وأصبحت البلاد، بدون أية مبالغة، مرجلا يغلي. خلاصته، هي أن المجموعة البشرية المغربية، في بنيتيها القروية الفلاحية والمدينية الحرفية والعمالية، قد أصبحت الحاضنة الكبرى لأي مقاومة مسلحة عنيفة. لقد ولد مغاربة جدد، تماما مثلما كان قد ولد فرنسيون وفرنسا جديدة لمواجهة النازية. بدليل أن السلطان الجديد، محمد بن عرفة، الذي نصبته باريس عمليا يوم 14 غشت، لم يستطع الخروج في مواكب عمومية سوى مرتين، واحدة في الرباط، والثانية في مراكش، وفي كلا المرتين تعرض لاعتداءات عنيفة ودموية. في الأولى يوم 11 شتنبر 1953 (21 يوما فقط بعد نفي محمد الخامس)، حين خرج للصلاة بمسجد أهل فاس قرب القصر الملكي بالرباط، حين خرج من بين الجموع بسيارة من نوع "فورد" رمادية اللون، الفدائي البطل علال بنعبد الله، الحرفي البسيط، إبن حي العكاري بالرباط، شاهرا سكينا لطعن بن عرفة، الذي سقط من على حصانه، قبل أن توجه 8 رصاصات قاتلة صوب علال بنعبد الله، الذي كان أول فدائي مغربي، من نوعه، بعد 20 غشت 1953. ومهم هنا، التسطير، على أن عمليته تلك، كانت عملية فردية، عنوانا ودليلا، على أنها ترجمان لمدى الإساءة التي لحقت المغاربة بسبب نفي ملكهم الشرعي يوم عيد الأضحى. بينما كانت العملية الثانية، شهرا بعد ذلك بمراكش، حين استهدفت قنبلة سلطان الإستعمار الفرنسي، بن عرفة، بمسجد بريمة، من قبل مجموعة الشهيد حمان الفطواكي، أدت إلى إصابته بجروح بليغة في وجهه وعينه اليمنى. مما جعله يقرر إلغاء أي خروج علني له، وبقي سجين أسوار القصور بالرباطوفاسومراكش. ولابد من التذكير هنا، بما سبق وقلناه، حول توجه مولاي العربي بسيارته رفقة 4 مقاومين إلى مراكش في بداية غشت 1953، لتصفية بن عرفة، إلى جانب مجموعة ثانية جاءت عبر القطار يتزعمها الشهيد الزرقطوني، بمسجد الكتبية، لكن تم إلغاء حضوره في آخر لحظة. مثلما أن ذلك قد تزامن مع أحداث وجدة وتافوغالت يومي15 و 16 غشت. مما يترجم قوة رد الفعل الشعبي مغربيا، ضد تصعيد الإستعمار الفرنسي لمواجهة مطلب الإستقلال. ضمن هذا السياق جاءت، إذن العمليات النوعية الكبرى لقيادة المقاومة المسلحة بزعامة الشهيد الزرقطوني، التي نفذت بالدارالبيضاء والرباط، التي كان مولاي العربي الشابي الشتوكي طرفا أساسيا فيها. لأنه قد تم التخطيط لبعضها، في محلاته التجارية، ومنها انطلقت عملية تنفيذها. أولها، عملية القطار الرابط بين الدارالبيضاء والجزائر العاصمة، يوم 7 نونبر 1953 (شهرين بعد نفي محمد الخامس)، التي نفذها كل من محمد منصور ومحمد السكوري، بعد أن نقلهما إلى محطة القطار الدارالبيضاء المسافرين سعيد بونعيلات بسيارة مولاي العربي (فيما تكفل بشراء تذكرتي ركوب القطار المقاوم حسن العرايشي)، تحت إشراف تنسيقي مباشر للزرقطوني. وتوجه بونعيلات، بعد ذلك، صوب محطة الرباط أكدال، قبل وصول القطار، وهناك انتظر منصور والسكوري ليعود بها إلى الدارالبيضاء. كانت القنبلتان قد وضعتا في مرحاض بالدرجة الأولى (وضعها منصور)، وفي مرحاض بالدرجة الثانية (وضعها السكوري)، وانفجرتا بعد تجاوز القطار نفق الولجة بعد محطة الرباطالمدينة، وكان أغلب القتلى من العسكريين الفرنسيين (7 قتلى). تلتها، بعد ذلك، العمليات الثلاث الكبرى، يوم الخميس 24 دجنبر 1953، التي شارك في تنفيذها مباشرة، مولاي العربي الشابي. وهي عملية المارشي سنطرال (السوق المركزي) وعملية البريد المركزي وعملية مركز الطرود البريدية، وهي مؤسسات عمومية تعرف حضورا كبيرا للفرنسيين أيام أعياد الميلاد. بل، إن اختيار تاريخ التنفيذ وأمكنتها، يؤشر على وعي في الإختيار غير اعتباطي. لأن الرسالة كانت، أنكم عزلتم السلطان يوم أكبر أعياد المغاربة والمسلمين (عيد الأضحى)، فردنا سيكون يوم أكبر أعيادكم الرمزية والدينية المسيحية (أعياد الميلاد). علما أن تلك البنايات الثلاث، متقاربة، وتقع جميعها في قلب الحي الأروبي بالمدينةالجديدة بالدارالبيضاء، بمسافة لا تتجاوز 800 متر عن بعضها البعض. توجهت المجموعة الأولى، المتكونة من محمد بنموسى والزناكي على متن سيارة من نوع "بيجو 201" صوب السوق المركزي، صبيحة الخميس ذاك، حيث نزل بنموسى في الساعة 11 صباحا، حاملا القنبلة التي أشعل فتيلها مباشرة قبل مغادرة السيارة، وهي مدسوسة في قفة خضار عادية من الدوم. ولج بنموسى من الباب الرئيسي للسوق الممتلئ بالزبناء الفرنسيين، بسبب الإستعداد لليلة أعياد الميلاد، وتوقف عند محل الجزارة رقم 36، لصاحبه "أنطوان"، وانتظر قليلا، قبل أن يضع بهدوء القفة على الأرض، ويدفعها برجله تحت مسطبة المحل، ويغادر دون أن يلتفت وراءه، عبر الباب المفضي إلى الزقاق الجانبي الصغير للسوق جنوبا. بعد 15 دقيقة، انفجرت القنبلة، وكان هو قد ابتعد عبر شارع المحطة (شارع محمد الخامس حاليا) في اتجاه محطة القطار. كانت الحصيلة ثقيلة جدا، مفزعة وغير مسبوقة: 19 قتيلا و 28 جريحا إصابتهم بليغة، أغلبهم فرنسيون، ضمنهم نساء وطفلة صغيرة. لكن أثرها السياسي ضخم، وأثرها على السلطات الإستعمارية، بالرباطوباريس كبير جدا. خاصة أنه قد انطلقت مظاهرات ضخمة للمعمرين الفرنسيين تطالب بالإنتقام، وهي المظاهرات التي تبعها توزيع منشور باللغة الفرنسية، من قبل مجموعة الشهيد الزرقطوني (كما أكد لي مرة المرحوم محمد منصور)، وزع بوسط المدينة الأروبية سريا بالدارالبيضاء، يقول إن الخطأ خطأ فرنسا التي نفت محمد الخامس وترفض منح المغاربة حقهم في الإستقلال، وأن مقاومة المغاربة العنيفة مثلها مثل مقاومة الشعب الفرنسي المسلحة للنازية. في ذات الصباح، توجهت المجموعة الثانية، المتكونة من مولاي العربي الشابي، محمد منصور، عبد القادر بن عسو وبوشعيب غندور، راكبين سيارة مولاي العربي الخاصة "الستروين تراكسيون" صوب بناية البريد المركزي ووراءها مباشرة بناية الطرود البريدية، بشارع باريس (قبالة بنك المغرب)، لوضع قنبلتين مماثلتين في ذات التوقيت، أي 11 صباحا من يوم الخميس 24 دجنبر 1953. لكن الدخان الذي كان متصاعدا من القفتين، قد جعل ساعي بريد مغربي ينتبه للأولى، فيما موظف بالطرود البريدية، فرنسي انتبه للثانية، فأخرجاهما في توقيت متقارب خارج البنايتين الملتصقتين، وتدخل شرطي فرنسي حيث أزال خيط القنبلتين المشتعل من رأس إنائي الزجاج الكبيرين حيث وضعت القنبلة المحشوة. كان قد تبقى من كل خيط متران فقط، بعد اشتعال ستة أمتار من مجموع 8 أمتار، هي طول خيط كل قنبلة من نوع "بيكفورد"، كما كتب تحقيق صحفي نشر يوم 25 دجنبر 1953 بجريدة "لافيجي". ولو نجحت العملية، لكانت الحصيلة أكبر من حصيلة السوق المركزي. كانت تلك العمليات النوعية، مزلزلة عميقا للإستعمار الفرنسي، لأنها غير مسبوقة، نوعية، بشكل تنفيذ جديد، واختيار للأمكنة دقيق وأيضا لتاريخ التنفيذ. بل إن صداها، قد بلغ كل عواصم العالم الغربي، التي نشرت مقالات خبرية تفصيلية عنها. لكن، الصدفة الماكرة، وحدها التي ستقود إلى اعتقال أغلب العناصر المخططة والمنفذة لهاته العمليات النوعية عشرة أيام بعد تنفيذها. بسبب إخبارية صغيرة بالرباط، انتهت إلى اكتشاف مخبأ ضيعة يكم بضواحي العاصمة، التي كان بها عدد من المقاومين المبحوث عنهم. وهي العملية التي قادت إلى اعتقال كل من محمد منصور ومولاي العربي الشابي في نفس اليوم (6 يناير 1954).