قررت الكتابة ضد النسيان والكذب والخسارة والتواطؤ، قررت الكتابة لأن الأسوأ ربما لازال قادماً ليس فقط في سوريا ... هذا الكتاب ربما يلخص معركة شعب عازم على إنهاء دكتاتورية عمرت 40 سنة . شعب يتطلع للحرية، لكنه يغرق يوماً بعد آخر في الجحيم أمام أنظار مجتمع دولي غير مبال ... هذا الكتاب هو حكاية ربيع سوري بدأ كميلاد للحرية لينتهي في خراب جهادي له أبعاد وتداعيات إقليمية ودولية ... في اليوم الموالي، واصلنا زيارتنا لحي بابا عمرو رفقة جاد، المواطن/ المراسل ومهند مضيفنا. القصف المكثف الذي لم نستطع معه النوم فترة مهمة من الليل، سمحت لنا بمعرفة أفضل للعائلة التي تأوينا. عائلة ولدت بعد قصة حب فريدة نوعاً ما في سوريا المحافظة. منى مطلقة ولها طفلة، عندما تعرفت على مهند الذي يصغرها بعدة سنوات. ورغم رفض عائلته، تزوج الشاب مهند محبوبته ويقر بأن ذلك »أفضل شيء حدث لي في حياتي«. الزوجان سيرزقان طفلا سيكون أخاً غير شقيق لنوال ابنة منى. الطفل محمد البالغ من العمر 10 سنوات حالياً. هذا الصباح كان برد حمص جافاً. وأمام عمارات مدمرة، كان بعض السكان مكومين في ملابسهم الثقيلة يجلسون على كراسي بلاستيكية حول نار يتدفأون منها وهم يوقدون ما تبقى من أثاثهم، وغير بعيد عن »طريق القناصة«، في شقة متواضعة، استقبلتنا عائلة البنت فتحية البالغة من العمر أربع سنوات، طفلة جميلة بعينين زرقاوين، نجت من الموت بأعجوبة. كانت في ذلك الصباح خارجة رفقة والدتها، عندما اخترقت صدرها الصغير رصاصة أحد القناصة. الرصاصة اخترقت الصدر من اليمين إلى اليسار من جهة القلب، لكنها لم تصب الأعضاء الحيوية للطفلة التي يبدو أن الحظ كان إلى جانبها. فتحية تلقت العلاج في المستشفى الميداني بابا عمرو، ويخشى الوالدان من إدخالها إلى مستشفى عمومي. تمتمت الطفلة قائلة: »إنها زجاجة، زجاجة كبيرة ضربتني« ركزت عليها الكاميرا، بينما همست أمها في أذني لتشرح لي ما قالت: »طلقات القناص اخترقت زجاج نافذة الطاكسي الذي كنا على متنه وقت الحادث. قلنا لها بأنها جرحت بشظايا الزجاج، كيف يمكن أن نقولها وهي في هذه السن، أن رجلا أراد قتلها؟«. تركنا فتحية ووالديها وهم تحت الصدمة، وحاولنا تصوير القناصة، انطلاقاً من عمارة عالية. والنتيجة كانت مخيبة. من بعيد يشبهون آلات تتحرك ببطء وبشكل ميكانيكي معلقين على أسطح البنايات مثل لعبة »ليغو«، لكن جاد قادنا عبر أحد مداخل الحي الذي تحرسه عناصر كتيبة الفاروق. عبر أكياس الرمل المنصوبة كمتاريس، نكتشف على بعد 20 متراً، أقرب نقطة تمركز لقوات الجيش النظامي، والتي يبدو أنها مهجورة. تبعنا جاد إلى منزل مهجور، أحد جدران غرفة الاستقبال متقوب ويكشف عن دهاليز لا تنتهي، فتحها الجيش النظامي من خلال هدم الجدران بين البيوت على طول المباني في الزقاق، حتى آخر بناية في حي بابا عمرو قبل الحواجز الأولى لقوات الجيش »جنود بشار الأسد كسروا كل شيء في محاولة لدخول الحي وتفادي مواقع الجيش الحر، يوضح جاد، لقد مروا من منزل إلى منزل حتى لا يتقدموا مكشوفين، إنهم جرذان حقيقيون!«. ومنذ تلك المحاولة الفاشلة، يراقب رجال النقيب طلاس هذه المباني التي تمكنهم من الاقتراب من مواقع العدو ومراقبة تحركات جنود النظام دون أن يروهم. ونحن نصل إلى نهاية المتاهة، صدر الإنذار. لحق بنا أحد رجال المقاومة وطلب منا العودة فوراً إلى داخل الحي »أخرجوا، بسرعة، دبابات الجيش تتجه نحونا«. عدنا إلى المخبأ بعدما قطعنا آخر زقاق في بابا عمرو جرياً تحت تغطية أمنية لمقاتلي المعارضة، »جنود النظام يختبئون في أحد المنازل القريبة، يصيح أحد المقاتلين، جنود الأسد قادمون لقصف الحي!« دوت أولى الطلقات وقبل أن أحاول طلب توضيحات، صاح أحد المتمردين: »بسرعة، إنهم قادمون من حاكورة، بسرعة اركبوا السيارة!«. كان الرجل يقود السيارة بسرعة ويأمرنا بخفض الرؤوس كلما اقتربنا من مفترق طرق المعرض لطلقات القناصة، يبدو أن جنود النظام يحاولون التوغل عبر جهة حاكورة على الطرف الآخر للحي، هناك حيث تمكن رجال طلاس من إحراق الشاحنة التي جاءت لتزويد الجنود بالذخيرة. سائقنا توجه بنا نحو مقر قيادة الفاروق، حيث كان طلاس يستعد للذهاب للمعركة. في الطريق، كان الرجال يخرجون من كل مكان للالتحاق بقائدهم. وصلنا إلى مكان تجمع القائد ورجاله، طلبنا مرافقتهم، كان يلح على الخطورة المحتملة للعملية، لكنه سرعان ما قبل بتواجدنا. وحتى لا نترك له الفرصة للتراجع، صعدت أنا وكارولين في إحدى السيارات التي تحمل المقاتلين إلى حاكورة. طلاس كان يعطي آخر تعليماته والتحق بنا على متن السيارة رفقة أقرب مساعديه النقيب وليد العبد لله يلقب - أبو عرب وصلنا حاكورة بعد عشر دقائق، نزل المتمردون بسرعة من السيارات وبدأوا تقدمهم زقاقا بعد زقاق وسط وابل من الرصاص المتبادل بين الطرفين. قال لي طلاس: ابقي ورائي، ملتصقة بالجدار.« تمركز المتمردون على جانبي شارع يؤدي الى بابا عمرو ورفقة حوالي 10مقاتلين بقي طلاس في هذا الشارع حتى يمنع اي محاولة هجوم لجنود النظام في هذا الجزء من حاكورة وحماية ظهر النقيب وليد العبد الله الذي توجه رفقة باقي المقاتلين نحو الموقع الرئيسي الذي تصدر منه النيران. على بعد 900 متر في عمق شارع مواز للشارع الذي يمسكه طلاس ورجاله. طلاس المصاب في رجله وغير القادر على التحرك بسرعة يستطيع مجاراتنا. تقدمنا رفقة ابو عرب. وفجأة نادى على أحد رجاله. ولم يكن يتعدى 20 سنة، يحمل على ظهره حقيبة ظهر عريضة تحمل نصف دزينة من قذائف روكيت. اقترب متمرد يحمل هادفة روكيت من نوع اربي جي 7 من الحقيبة وتبعنا لبضع دقائق بل توقف واصبح في موقع متاريس بدائية مكونة من اكياس ضخمة وضع عبرها المتمردون قطع انابيب بلاستيكية حتى يتمكنوا من الرؤية دون ان يروا .رجال من كتيبة الفاروق متمركزون هنا دائما وباستمرار، يحاولون رصد تحركات الجنود النظاميين، »هل ترين ذلك المبنى الابيض المقابل لنا؟ سألني أبو عرب وهو يبقي رأسه منخفضا، هذه هي البناية التي تحميهم. انهم يختبئون وراءها! قصف جنود النظام اصبح مكثفا. أمرونا بمغادرة المتراس والاختباء. »هيا الامر خطير، لابد من الانسحاب! انهم يضربون بالقاذفات يؤكد وليد الذي ابعدنا بسرعة عن الموقع الذي كنا فيه بينما بدأ رجاله الذي جاؤوا لتعزيز ومساندة اصدقائهم، بدأوا في اطلاق النار على مواقع العدو. اثر احدى القذائف جعل الكاميرا في يدي ترتجف هذه قذائق مدفعية النظام، وانهم يستهدفون المدنيين الآن، يقول وليد العبدا لله. إنها قذائف مدفعية ضد المساكن. قصف عشوائي. القذائف المدفعية هي السبب في العديد من الخسائر في صفوف المتمردين وهي كذلك وسيلة ضغط على الجيش الحر الذي يجبر في بعض الاحيان الى القيام بتراجع تاكتيكي من أجل حماية المدنيين. وقوات النظام لا تتردد في قصف السكان المدنيين بالمدفعية من أجل اخراج المتمردين المقاتلين. وهو سلاح للحصار مفترض فيه ان يستخدم لمهاجمة قوات مدفعية واعداد الارضية أمام وحدات الهجوم. يقول ابو عبر بحسرة لقد تمركزنا في بابا عمرو من اجل حماية السكان لكنهم يقصفوننا ويقصفون السكان دون تمييز. نحن عازمون ومتأكدون من النصر ولكنا مجبرون على الانسحاب عندما تهاجم قوات الجيش المدنيين بالمدفعية. المدنيون هم نقطة ضعفنا. سقطت حوالي 10 قذائف مدفعية على حاكورة، لكن هجوم الجيش السوري لم يتم. الاشتباك دام حوالي ساعة ولم تسجل اية خسائر بشرية في صفوف المتمردين. التحقنا بالقائد طلاس بعدما أمر برفع حالة الانذار.