قررت الكتابة ضد النسيان والكذب والخسارة والتواطؤ، قررت الكتابة لأن الأسوأ ربما لازال قادماً ليس فقط في سوريا ... هذا الكتاب ربما يلخص معركة شعب عازم على إنهاء دكتاتورية عمرت 40 سنة . شعب يتطلع للحرية، لكنه يغرق يوماً بعد آخر في الجحيم أمام أنظار مجتمع دولي غير مبال ... هذا الكتاب هو حكاية ربيع سوري بدأ كميلاد للحرية لينتهي في خراب جهادي له أبعاد وتداعيات إقليمية ودولية ... التخلي عن سيارته ليرافقنا مشيا على الأقدام عبر الحقول إلى "»بابا عمرو« "التي تبعد 7 كلمترات" »ولكن ذلك سيعني أن أنسى أمر سيارتي، وسأكون من جديد مبحوثا عنه من طرف السلطات التي ستتعرف على هويتي من خلال لوحة ترقيم السيارة«" رفضت بطبيعة الحال أن يضع نفسه في مثل هذا الموقف. وعلى مضض، كما لو أنه كان يصر على أن يكون جزءا من هذه المغامرة، أوصلنا إلى مخبأ جديد حدده مرشدنا ودعاه إلى العودة فورا. بعد ساعات من الانتظار، جاء مهربون آخرون ليأخذونا إلى مكان يقربنا من حمص، على مشارف المدينة توقفنا وانتظرنا عدة مرات. وقبيل حلول الظلام تم نقلنا أخيرا إلى نقطة المرور المؤدية إلى بابا عمرو، التي يسميها سكان المنطقة تهكما "معبررفح"لأنه من أجل الوصول إلى الحي المتمرد,مدخل حمص,لابد من عبورطريق سيار، يتحكم فيه في هذه النقطة بالذات، الجنود السوريون المتمركزون على جسرين مقابلين لبعضهما وهكذا يصبح الوصول إلى بابا عمرو محاصرا. حمص محاصرة منذ عدة أسابيع بدبابات الجيش والخنادق التي حفرها حول المدينة في محاولة لعزل هذا المركز الثوري و خاصة "بابا عمرو" القطاع الوحيد في حمص الذي يوجد تحت السيطرة الكاملة للجيش السوري الحر. بمجرد ما عبرنا بسرعة الطريق السيار ارتمينا في فندق وقطعنا ثلة تراب كان ينتظرنا وراءها متمردون, لا يبدو أن زخات الرصاص المكثفة حولنا لا تزعجهم. نحن في بابا عمرو، قلب المقاومة المسلحة السورية. كان لابد من 24 ساعة لقطع 33 كلم التي كانت تفصلنا عن الحي. دخلنا الحي المحاصر بنقط تفتيش تابعة للجيش السوري الحر الذي يفترض أنه يحمي المنطقة من أي تسلل للقوات النظامية وخاصة من طرف الشبيحة المسؤولين عن العديد من الجولات الإجرامية في بابا عمرو، قيل لنا "»هناالنظام سقط« "داخل الحي الذي يمتد على عدة كلمترات مربعة و يضم حوالي 30 ألف نسمة من المدنيين والمتمردين يتجولون بكل حرية مع تحاشي الأزقة والممرات المكشوفة والمعرضة، بابا عمرو حي محاصر يتعرض للقصف بشكل متقطع ويراقبه عن بعد القناصة المترصدون من المباني المطلة على هذا القطاع. ورغم ذلك استطاعت المقاومة تنظيم صفوفها. مكتب إعلام بابا عمرو يضم حوالي 10 نشطاء مكلفين بتصوير وبث صور الثورة إلى العالم الخارجي: المظاهرات السلمية المتواصلة رغم عسكرة الثورة، وضحايا القمع، والوضعية الإنسانية الصعبة، إنه المكان الوحيد في بابا عمرو الذي يظل على تواصل دائم بالأنترنيت عبر الأقمار الإصطناعية, الحواسيب الشخصية للمواطنين/ المراسلين من الحي تجاور بنادق الكلاشينكوف لأعضاء الجيش السوري الحر. الناطق باسم »مكتب إعلام«" بابا عمرو" اسمه "»جد"، لقب أطلقه عليه سكان الحي، لكون بائع الخضر المتجول هذاالذي لا يتعدى عمره 35 سنة، دائما حنون، يوزع على كل الأطفال والنساء والشيوخ الذين يلتقيهم في طريقه كلمة" «ياصغيري«"، سيكون مرافقتنا خلال أغلب تنقلاتنا. في المستشفى الميداني بابا عمرو، الوضع أكثر توترا. الصحفيون غير مرحب بهم "»من سمح لكم؟ أعطني آلتك، صاح أحد الأطباء وهو يلاحظ أن كارولين بدأت في التقاط الصور. أحد الزملاء قتل لأنه كانوا يداوي المتظاهرين المصابين في حمص!«" تدخل جراح آخر لتهدئة التوتر »"انتظرا خمس دقائق حتى يهدأ، ويمكنكما التصوير، ولكن لا تظهروا وجوهنا، سوريا هي البلد الوحيد في العالم تتم فيه تصفية المرضى في المستشفيات العمومية، ويتم فيه قتل الأطباء الذين يتجرأون على تقديم المساعدة للجرحى" ويضيف ممرض مساعد"الأطباءأصبحوا للأسف أغلى وأثمن بالنسبة لنا من المتظاهرين أو حتى الجنود الأحرار ,عندما يقتل أحد أطبائنا يستحيل تعويضه، ومع ذلك دورهم يقتصر في الغالب على تخفيف آلام الضحايا، وبالوسائل البسيطة التي نتوفر عليها لا نستطيع معالجة سوى الجروح على الأطراف. والجرحى المصابون في الرأس أو الصدر نادرا ما ينجون. ولكن على الأقل يموتون بكرامة محاطين بذويهم بدل الموت تحت التعذيب«". المستوصف السري لبابا عمرو, مع ذلك هو الأفضل تجهيزا، لكونه محميا من غارات الجيش النظامي الذي تصده قوات المعارضة، لكن في الحي المتمرد حتى الهيئة الطبية تتخوف من هجوم حكومي يجبر الجيش الحر على الانسحاب ويفرق الاحتجاجات في المنطقة في بحر من الدم. كتيبة الجيش السوري الحر المتمركزة في "بابا عمرو" هي كتيبة الفاروق الناشطة في محافظة حمص، رجالها دخلوا الحي كفاتحين يوم 5 نونبر بمبادرة من جندي سابق يدعى مهند العمر، رجل في الأربعين من العمر، استقبلنا فور وصولنا إلى "بابا عمرو" لنقيم في شقته التي كانت لاتزال تأوي عائلته ورفقته سنذهب للقاء رجال كيتبة الفاروق. في مقر القيادة,الغارق في الظلام بسبب انقطاع التيار الكهربائي، اكتشفت بارتياح واضح زعيم الكتيبة الذي أصبح مشهورا في كل البلاد: النقيب عبد الرزاق طلاس، الضابط الحر الذي التقيته قبل أشهر في الرستن، الضابط الشاب البالغ من العمر 25 سنة، ابن أخ وزير الدفاع السابق, كان النظام يريد رأسه بأي ثمن، فإنه بالنسبة للمتمردين أصبح يمثل إيقونة بتحركه المضبوط وابتسامته السهلة حتى في الجبهة, حيث قبل مرافقتنا، هذا القائد السوري لا يستطيع السير خطوة في أزقة بابا عمرو رفقة رجاله دون أن يعانقه المارة وتحاصره مجموعات من الأطفال الذين ينشدون الأغاني والشعارات التي تمجد الجيش الحر. وفي جولة بالحي يؤكد طلاس أن كتيبته ليست هنا إلا من أجل صد هجمات الجيش النظامي وحماية المظاهرات التي ما تزال سلمية والهدف النهائي يبقى بطبيعة الحال إسقاط "»نظام الجلاد"«. "»سلميا"« يؤكد طلاس، لأنه بالنسبة له هذا الهدف يبقى ممكنا تحقيقه دون تعريض البلد لحمام دم, ويؤكد أن آلاف الجنود لا ينتظرون سوى شيء واحد للانشقاق: إحداث منطقة عازلة بين سوريا وتركيا مثلا, حيث يمكن للجنود المنشقين وضع عائلاتهم في مأمن من انتقام النظام وفرض منطقة حظر جوي تمنع الطيران الحربي السوري من استهداف وحدات المتمردين »"وحدات بأكملها مستعدة لمغادرة الجيش النظامي بدباباتهم يؤكد طلاس، ولكن بدون فرض منطقة حظر جوي, سيقوم الطيران السوري بشل تحركها فورا، نحن على تواصل مع هؤلاء الرجال هم يدعموننا من الداخل من خلال مدنا بمعلومات ثمينة وحالما يستطيعون الانشقاق سينهار النظام«. في انتظار ذلك يقوم الجيش الحر بتنظيم صفوفه وإلى جانب البنادق الهجومية التي يأخذها المنشقون معهم كثيرا ما يحدث أن تنتزع من جنود الأسد الأسلحة والقنابل والدخيرة، خلال كمائن أو معارك دفاعية بالأساس ضد القوات النظامية والجيش السوري الحر الذي كان عدد أفراده حوالي 10 آلاف في كل سوريا (حسب كتيبة الفاروق,فتح كذلك أبوابه للمدنيين القادرين على حمل السلاح "إنهم يعملون تحت اشرافنا الكامل ومهمتهم الأساسية تتمثل في مساندة الجنود المتمردين في الأحياء والقرى التي يختبئون بها ,والتي يجهلون في بعض الأحيان جغرافيتها "يوضح أحد مساعدي طلاس. وفي منطقة حي "بابا عمرو" وحدها, التحق مئات المتطوعين بصفوف الجيش الحر. وبينما كنت أنا وكارولين نصور بشكل حذر "»طريق القناصة"« كما يسمونه, لأن خط الفصل هذا في الغالب يكون هدفا لنيران العدو، تلقى طلاس مكالمة عاجلة، شحنة أسلحة ودخيرة على وشك الوصول إليهم بالقرب من حي بابا عمرو، إنها موجهة لدعم وتموين قناصة جيش النظام المتمركزين بشكل دائم ومستمر فوق سطح مبنى يطل على الحي المتمرد، حيث يزرع القناصة المحترفون الموت عن بعد بين السكان. رجال طلاس يتسارعون إلى المكان نتبعهم بنفس السرعة، عليهم أن يستولوا على شحنة الأسلحة أو على الأقل منع وصولها بين أيدي الجنود النظاميين. وانطلاقا من مبنى مهجور اطلقوا النار على شاحنة نقل الدخيرة المتوقفة على بعد حوالي 50 مترا أمام المبنى الذي يتواجد به القناصة غير بعيد عن مدخل الحي من أجل تفريق وفرار الجنود الذين تجمعوا حول الشاحنة وسرقة محتوياتها. المهمة تبدو صعبة ,لذلك قرروا إضرام النار في السيارة .كان المتمردون يطلقون النار من فجوة, الواحد تلو الآخر وهم يستهدفون خزان بنزين السيارة ,لم يتمكنوا من إضرام النار. التحق بالثوار مقاتل له ملامح رامبو يحمل رشاشا من عيار ماغ 58,رقيب في الجيش السوري, انشق مؤخرا, وخلال 5 دقائق من القصف المتواصل اشتعلت النار في الشاحنة مما خلق موجة فرح شبه طفولية عارمة بين رجال طلاس.