هذا يعني أن الأمور سيئة بالنسبة لي، وهو ما أقره عمر كذلك. فإذا كان هؤلاء المجهولين سمعوا عني، فمن المحتمل جداً أن المخابرات السورية على علم بذلك. وبجواز سفري الفرنسي سيكون من السهل اكتشافي عند مغادرة البلاد. كنت أرغب البقاء بضعة أيام أخرى في سوريا لكي أذهب إلى جنوب البلاد. لكن رئيس تحريري في باريس الذي شرحت له الوضع هاتفياً، طلب مني العودة إلى فرنسا في الغد، لأنني صورت ما يكفي. لا مجال للمجازفة. بدأت التحضير للعودة إلى دمشق مع سائق الطاكسي الذي أعادني من حمص. كان لابد أن نمر عبر نقطة تفتيش للجيش لا مجال لتفاديها عند مدخل العاصمة. بعدما ودعت عمر، لبست عباءة، اللباس التقليدي الذي تلبسه النساء في الشرق الأوسط، »عند نقطة التفتيش،سأقول لهم بأنك ابنة عمي. لن تكوني مجبرة للحديث إليهم. لم يسبق لهم أن فتشوا سيارتي،المهم ألا يطلبوا مراقبة أوراق هويتك«. في الطريق، قررت ألا ألتحق مباشرة بفندقي لأن غيابي الطويل ربما لوحظ وأخبرت به الجهات الأمنية. فالمفروض أنني سائحة تعود كل ليلة إلى غرفتها الآمنة وليس الاختفاء لعدة ليالي متوالية حسب فرص التصوير، والنوم في بلدات متمردة، إضافة إلى أنه إذا صح ما قال لي النشطاء من قبل في حمص، فإن المخابرات ربما عثرت على أثر وجودي في الفندق ويمكن أن يكونوا في انتظاري هناك. اتصلت بالسفارة الفرنسية للحديث مع الشخص الذي أخبر بوجودي في سوريا. كنا نتواصل بالألغاز. كان عقد لقاء ضرورياً قبل العودة إلى الفندق. أفضل عدم الالتحاق بالدبلوماسي المعني في مبنى السفارة لتفادي إثارة الانتباه، لأن مبنى السفارة مراقب من طرف مصالح المخابرات. لا مشكلة، ولكنهم يعلمون بالأمر. كيف ذلك؟ لقد اتصلت بي هاتفياً، وهذا يكفيهم. بالتأكيد، هاتفته تحت المراقبة. اتفقنا على موعد في فندق »فورسيزنس« (الفصول الأربعة)، وإذا كانت مصالح السفارة تحت المراقبة وتخضع للتنصت، فإن المخابرات تعرف مكان اللقاء. عند قدماي تحت العباية، نسخت جميع تسجيلات ما صورته، مستعدة لإخفاء معداتي في ثنايا معطفي عند أي حاجز طارىء للجيش. النسخة التي أنوي تسليمها للدبلوماسي كانت جاهزة دقائق فقط قبل حاجز تفتيش الجيش. ألقى جندي نظرة سريعة داخل السيارة، بينما كان زميله يراقب وثائق السائق الذي سمح له بالمرور. بعد ربع ساعة، وصلت إلى فندق »فورسيزنس« الرجل الذي لم يسبق أن التقيته، كان ينتظرني في قاعة الشاي وأمامه على الطاولة جريدة فرنسية. لخصت له مغامرتي وأطلعته على مخاوفي. تم تحديد سفري بالطائرة في صباح اليوم الموالي. كان لابد أن أسلمه نسخة من كل ما صورت وجزءاً من معدات عملي التي لم أعد بحاجة لها. رتبت كل شيء لأسلمه له في علبة هدايا وجدتها في حقيبة الطاكسي. وافق على إخراج العلبة المشبوهة عبر الحقيبة الدبلوماسية وطلب مني أن أسلمه صورة شمسية لصفحة جواز سفري التي تثبت بأنني فعلا دخلت التراب السوري قبل 10 أيام، واقترح أن يتواجد رجل من السفارة بشكل سري في محيط المطار ساعتين قبل رحلتي، هذا الأخير لن يقترب مني ولن يكون مخولا للتدخل، ولكن علي أن أخبره على الفور في حال وقوع مشكل أو طمأنته، إذا تم المرور بدون مشاكل. عند مغادرة الفندق، رفض الرجل أخذ العلبة التي توجد بها أفلامي، كان عملاء سوريون مكلفون بمراقبة تحركات الدبلوماسيين متواجدين بباب الفندق، وسيلاحظون أن الرجل دخل لا يحمل شيئاً وسيخرج منه وهو يحمل علبة. رغم مفاجأتي، لم أسأل ما يمكن أن يترتب عن ذلك من عواقب، واقتصرت فقط على متابعته وأنا أحمل العلبة في يدي كما طلب مني. بمجرد الخروج من الفندق، التحق بالدبلوماسي مباشرة حارس خاص فرنسي. توجهنا نحو سيارته، ركبناها وبعد إغلاق أبواب السيارة، بإمكاني أن أتخلص من علبتي المزعجة، وحتى يبدو الأمر عادياً ولأجل سلامتي، كان لابد أن نرحل معاً وأن يقود السائق السيارة لفترة قبل أن أنزل منها في مكان ما. اقترحت على مرافقي أن يوصلوني إلى سوق الحامدية الواقع في دمشق القديمة غير بعيد عن الفندق الذي أقيم فيه. هذا السوق الكبير هو الموقع المثالي للظهور كسائحة، والتخفي عن أي متابعة أو مراقبة محتملة. ودعت مرافقاي أمام تمثال صلاح الدين الذي يبدو كأنه يقف حارساً للمدينة العتيقة، ودخلت ظلمة أقواس واحد من أجمل أسواق الشرق. كنت أمشي بمفردي لفترة طويلة مشية سائحة متجولة أتوقف أمام محلات التوابل أو محلات الصناعات التقليدية، أظهر إعجابي أمام بذلة مطروزة أو هدية شرقية، أشتري بعض الهدايا الصغيرة وأحرك الكاميرا مثل آلة تصوير. كنت أستغل كل وقفة وكل مساومة للتبضع لأتحقق خفية بأن لا أحد يتبعني. بعد حوالي ساعة من الجولان السياحي الاضطراري، وصلت إلى فندقي ثم إلى غرفتي. لم يزرها أحد. بدأت أسرع التحضير للسفر، لم يبق لي سوى بضع ساعات لترتيب أغراضي و »تنظيف« الكاميرا، والتأكد من أن حجز رحلتي مؤكد، والاتصال بالعميل الفرنسي، وبالأخص محاولة تشفير صوري أو في أسوأ الحالات تدميرها. رحلتي مقررة في الثامنة صباحاً في اتجاه بيروت مع توقف في عمان على متن طائرة للخطوط الملكية الأردنية. كانت الرحلة الوحيدة التي تمكنت شركة الإنتاج التي أشتغل بها من حجزها لمغادرة البلاد. سألتحق بباريس في اليوم الموالي. إذا كنت قد وصلت عبر البر، فقد قررت العودة بالطائرة معتقدة بسداجة، أنه بما أنه اكتشف أمري كصحافية سرية، فإن احتمال اعتقالي لن يمر دون إثارة انتباه في مطار دولي، مثلما لو تم ذلك في معبر حدودي عادي بين دولتين مثل لبنانوسوريا. كنت مخطئة. في بلاد الأسد، جميع لوائح المسافرين جواً الذين تم تأكيد سفرها في اتجاه أو انطلاقاً من دمشق، يتم إرسالها إلى المصالح الأمنية، فهمت ذلك في اليوم الموالي. حوالي التاسعة مساء، بعث لي الدبلوماسي عبر رسالة قصيرة اسم ورقم هاتف العميل الفرنسي الذي سيكون بمحيط المطار منذ الساعة السادسة صباحاً. احتفظت بها على هاتفي النقال السوري باسم »عمي«. حتى اللحظة لم أتمكن من تشفير صوري ولم أقرر بعد محوها، كما ألح علي بذلك رئيس تحريري.