تابع الأستاذ خالد طحطح تعزيز سلسلة أعماله التفكيكية العميقة في مناهج البحث التاريخي، بإصدار كتاب " البيوغرافيا والتاريخ "، وذلك سنة 2014، في ما مجموعه 166 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. ويمكن القول إن هذا العمل الجديد يشكل استثمارا علميا أصيلا للاجتهادات السابقة التي كان قد بلورها ألأستاذ طحطح منذ فترة زمنية لا بأس بها، اهتم خلالها بتقديم توجهات وضع القواعد المؤسسة لتطوير مناهج البحث والتنقيب والتحليل والتركيب داخل "صنعة" كتابة التاريخ، وطنيا ودوليا. وقد استند ? في ذلك ? إلى عدة منهجية أصيلة وإلى عمق أكاديمي محترم، اختزل نتائجه العامة وخلاصاته التركيبية التي احتوتها إصداراته السابقة، ويتعلق الأمر بكتاب " في فلسفة التاريخ " (2009) ، وبكتاب " الكتابة التاريخية " ( 1012 ) وبكتاب " عودة الحدث التاريخي " ( 2014 )، وهي الكتابات التي جعلت صاحبها يكتسي الكثير من عناصر السبق داخل مجال تلقي المعرفة التاريخية وإواليات استثمار الطفرات المنهجية الهائلة التي تعرفها مناهج البحث التاريخي، بتطبيقاتها ? القائمة أو المفترضة ? داخل مجالات الاشتغال الوطني الراهن بحقول علم التاريخ. وبهذه الصفة، فالمؤكد أن الأستاذ خالد طحطح استطاع أن يساهم في سد الكثير من الثغرات ومظاهر انغلاق " الخطاب التاريخي " الوطني المعاصر الذي كثيرا ما ظل يركن إلى يقينياته وإلى مسلماته المرتبطة بطرق الاشتغال داخل حقل التاريخ. دليل ذلك، أن أعمال الأستاذ طحطح المشار إليها أعلاه، تشكل نقاط ضوء منعزلة داخل نسق كتابات التجديد المنهجي المتجاوزة لمنطق الاجترار الإسطوغرافي التقليدي والمجدد، بل إنها اكتست الكثير من عناصر الجرأة لاختراق الطابوهات والقناعات المطمئنة لمنجزاتها التقليدانية التي ظلت بعيدة ? في الغالب الأعم ? عن مواكبة مستجدات الطفرات المتواصلة التي تعرفها مناهج البحث التاريخي المعاصر على المستويات الدولية الواسعة، وخاصة بفرنسا وإنجلترا وألمانيا والولايات المتحدةالأمريكية. ولعل من عناصر الجدة التي حملتها الأعمال التفكيكية المجددة للأستاذ خالد طحطح، قدرتها على إعادة طرح الأسئلة النقدية حول " أصنام " العدة المنهجية التي كرستها مدرسة الحوليات الفرنسية لدى قطاعات واسعة من المؤرخين المغاربة المعاصرين. فكانت النتيجة، إعادة مساءلة رصيد هذه المدرسة، انطلاقا من أصولها النظرية والفلسفية التي بلورها الرواد المؤسسون بفرنسا، وعلى رأسهم فرنان بروديل ولوسيان فيفر، إلى جانب ترصد انزياحات التطبيقات العملية لخلاصة التأطير الحولياتي للبحث وللتنقيب وللتحليل ولإعادة التركيب. وبفضل هذا الجهد، استطاع العمل الجديد للأستاذ خالد طحطح أن يعيد تقييم تجربة مدرسة الحوليات في منابعها النظرية الأصلية لعقود النصف الثاني من القرن 20، ثم ليتجاوز ذلك للانفتاح على مدارس تاريخية مجددة تجاوزت الإطار الهلامي والاختزالي للتطورات التاريخية الطويلة المدى التي بشرت بها واشتغلت عليها مدرسة الحوليات الفرنسية. في هذا الإطار، اكتست عودة الأستاذ خالد طحطح صفة تركيبية ونقدية وتقييمية لتجارب " أخرى " أضحى لها صيت أكاديمي عالمي واسع، على الرغم من استمرار " غربتها " غير المفهومة ولا المبررة داخل حقول الكتابة التاريخية المغربية المعاصرة، وعلى رأسها تجربة "التاريخ من أسفل " بإنجلترا، وتجربة " الميكرو تاريخ " بإيطاليا، وتجربة "التاريخ اليومي " بألمانيا. هي تجارب تجاوزت الإطار الضيق الذي كرسته المدارس الفرنسية، بعد أن جعلت منه ملاذا لقطاعات واسعة من مؤرخي المغرب المعاصر، ببريق تخريجاته وبوثوقيته المفرطة، في وقت أضحت فيه الجرأة الفكرية والنزاهة العلمية، في سعي مستمر نحو الابتعاد عن تحنيط المناهج ونحو تحويلها إلى مرجعيات إجرائية موثوق في نجاعتها بشكل مطلق. فمصداقية أي منهج تاريخي لا تصمد إلا أمام قوة نتائجه المباشرة وأمام حسه النقدي المسترسل وأمام جرأته على إنتاج الأسئلة التفكيكية المسترسلة واللانهائية. وقبل ذلك، فالمصداقية الإجرائية في التنقيب والتحليل والاستخلاص تظل شديدة الارتباط بالبعد النسبي / العلمي في كل مراحل تجميع المادة المدروسة وتفكيكها واستثمارها، بشكل تصبح ? معه ? هذه المادة نفسها موضوعا متجددا بامتياز، لا يمكن قول الكلمة الأخيرة فيه بأي حال من الأحوال. ولعل هذه الخلاصة المركزية تشكل الإطار الناظم الذي يمكن توظيفه استنادا إلى القراءة الفاحصة لكتاب " البيوغرافيا والتاريخ ". وبخصوص السقف العام لهذه المحددات العلمية التأملية، فقد لخصها الأستاذ خالد طحطح بشكل عام في تقديم الكتاب، عندما قال : " لن نبالغ إذا قلنا إن التطورات التي شهدتها البيوغرافيا ارتبطت في العمق بأكبر التحولات المعرفية في اتجاه إعادة النظر في وضع الفرد من حيث هو إنسان في النسق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، وبهذا المعنى اندمجت في وعي الإنسان "بالذاتية " وسعيه لكتابتها لترسيخها عبر اكتشافها والاستمتاع بأسرارها. لقد تنوعت وتكاثرت اليوم الكتابات البيوغرافية بعد أن تم رفع الحظر عنها، ولم يتوقف بريقها عن التقدم، فهذه الكتابة استطاعت أن تفرض نفسها بمفاهيم رؤى جديدة، وحققت بذلك نجاحا باهرا، ويمكننا أن نتتبع تبلور العديد من أصناف كتابة السير المختلفة المداخل، في ظل بروز مسارات جديدة، فقد انتشرت نماذج وأشكال متعددة وخصبة، فرضت نفسها كحقل جديد لإحياء الذاكرة التاريخية، أهمها السير الجماعية، والسير المتوازية، والسير المتقاطعة، والسير الفكرية وسير الناس العاديين ... " ( ص ص. 7 ? 8 ). ونتيجة لهذه الطفرة المنهجية الهائلة، أصبح مجال البحث التاريخي منفتحا على عمق أرحب تقاطع مع مجالات واسعة ومجددة، مثل تاريخ الذهنيات والتاريخ الثقافي والأنتروبولوجيا والكتابات التخييلية الأدبية، وكان لابد أن يعود المؤرخ لمساءلة مكتسباته المتوارثة، بحثا عن " النموذج الأمثل " القادر على استيعاب المنجزات المنهجية والإبستيمولوجية التي راكمتها المدارس العالمية خلال القرون الماضية. لا شك أن هذه العودة لإعادة تقييم " الحدث التاريخي " وللتأمل في البيوغرافيات والسير الذاتية الخطية، المادية والرمزية، المتشابكة والمتفاعلة مع المحيط والموظفة إبداعيا وعلميا، تشكل حجر الزاوية في معالم الطفرة المنهجية الهائلة التي أضحت تعرفها " مهنة المؤرخ ". ولا شك أن معالم هذه الطفرة لا تعمل ? إطلاقا ? على إفقاد حقل الكتابة التاريخية لهويته العلمية الأصيلة، بقدر ما أنها تساهم في تجديد عناصر التميز والتطوير في مكونات هذه الهوية. ومع كل هذه القيم المنهجية العلمية المبادرة، سيظل مجال الاشتغال على السير، المادية والرمزية، مركزا لكل أشكال الريبة بالنسبة للمؤرخ المدقق في التفاصيل والصارم في تقييم عدته المصدرية وأدواته المنهجية. وقد عبر الأستاذ خالد طحطح عن هذا المنحى بشكل دقيق، عندما قال : " ستظل السيرة على الدوام، وأكثر من أي وقت مضى، بعيدة المنال، فنحن نطلب من البيوغرافي ما يتسم به العلم من تمحيص، والفن من سحر، والرواية من فن، والتاريخ من حقيقة، فهذا المزيج غير المستقر يجعل من السيرة الشكل الأصعب، فمهما اجتهد الكاتب في التحلي بالصرامة العلمية، ومهما أوتي فضلا عن ذلك من سعة خيال، فإن البواعث الحقيقية للشخصية موضوع الدراسة غالبا ما تفوته أو تفلت منه، لذلك من يلعب الرهان البيوغرافي يقامر دائما، لأن كسب الرهان أمر صعب إن لم نقل مستحيل، لأنه في نهاية المطاف قد يكون رهانا خاسرا " ( ص ص. 155 ? 156 ). ومع ذلك، فهو رهان البحث وأفقه المشرع على رحابة السؤال والنقد، أفق طورته المدارس المجددة الراهنة، وعلى رأسها " التاريخ الجديد "، واستوعبته جهود تفجير بؤر " الأصنام المنهجية " المؤسسة ليقينيات الخطاب، ولإعادة إنتاج نفس الرموز ونفس القيم ونفس الولاء للأموات، ولتأثيراتهم المستمرة في ممارسة سلطها المتداخلة على إنسان الزمن الراهن.