قررت الكتابة ضد النسيان والكذب والخسارة والتواطؤ، قررت الكتابة لأن الأسوأ ربما لازال قادماً ليس فقط في سوريا ... هذا الكتاب ربما يلخص معركة شعب عازم على إنهاء دكتاتورية عمرت 40 سنة . شعب يتطلع للحرية، لكنه يغرق يوماً بعد آخر في الجحيم أمام أنظار مجتمع دولي غير مبال ... هذا الكتاب هو حكاية ربيع سوري بدأ كميلاد للحرية لينتهي في خراب جهادي له أبعاد وتداعيات إقليمية ودولية ... دخلنا الى مسجد قلانية الصغير في قلب حماة القديمة، وبعيدا عن حر الجو بالخارج، كان بعض الرجال ينامون أرضا في قاعة الصلاة المكيفة، اقترب مني رجل في الخمسين من عمره بابتسامة خافتة على وجهه, انه الإمام, قدمت له نفسي. رحب بي وطلب مني الجلوس وعاد ببطء يحمل صينية عليها كأس عصير فواكه قدمه لي. وبحكم معرفتي بالتقاليد الشرقية، اسرعت من مكاني نحوه لآخذ منه الصينية كتعبير عن الاحراج من ان يخدمني رجل شيخ وفي عز شهر رمضان وداخل مسجد. لكن الإمام أصر ان أعود الى الجلوس وجلس أمامي. الرجل طيار سابق في الجيش السوري. تلقى تكوينه في الاتحاد السوفياتي وكان ينتظره مستقبل مشرق .عندما اندلعت انتفاضة حماة سنة 1982 كان عمره 25 سنة. لكن بما أنه ينحدر من حماة، المدينة الملعونة من النظام والمعاقبة بشكل جماعي، اجبر على التقاعد بدون راتب، ومنذ ذلك الحين ظل يعيش بامتهان حرف صغيرة ويحلم بالنياشين، والنجمات والانتصارات العسكرية على الاعداء. كان آنذاك يحتقر الديكتاتورية، لكن ميولاته كانت علمانية. بعد المجزرة. وحتى لو سمح له بالاستمرار، فإن مواصلة مساره في جيش متهم بارتكاب جرائم حرب سيكون بالنسبة له كخيانة تجاه مواطني حماة. لكن لم يكن واردا في ذهنه دعم الاسلاميين, خاب أمله في جيش لفضه ومعارض لتطرف ديني مآله الفشل, انتهى المطاف بالرجل الى الهامش، كشاهد لا حاجة به على ماضي لم يترك أمامه أي خيار رابح. بحسرة متهكمة. يتحدث بامتعاض عن الدعاية الكاذبة التي يحركها نظام الرئيس الاسد، الذي لا يتوقف عن تكرار ان النظام السوري يواجه منذ عشرات السنين وحتى يومنا هنا الاخوان المسلمين، ملمحا بأن الثورة الحالية تقف وراءها نفس الجماعة الإسلامية ويرفع فزاعة الاسلام السياسي كبديل وحيد سيأتي مكان حكمه العلماني. لكن النظام يعرف جيدا ان أطر الجماعة ابيدوا جميعا أو أجبروا على المنفى سنة 1982 واذا كانت حماة قد بقيت مدينة متدينة, فإنها لم تبق لها روابط بيعية مع الجماعة. حماة المدينة التي انتفضت سلميا للمطالبة برحيل بشار الأسد في مارس 2011، تساورها شكوك تجاه الإخوان بسبب لجوئهم الى العنف, وهي استراتيجية غير مسبوقة من جانب هذه الحركة التي لم يسبق لها أن تراجعت عن مبدأ المشاركة السلمية في الحياة السياسية. »وبسبب تشدد جناح الاسد، اعتبروا ان الخيار الوحيد الممكن ضد النظام هو حمل السلاح. تحالفوا مع فصائل راديكالية ويتم ابعاد المعتدلين داخل الجماعة. وتغيرت الامور من ذلك الوقت، تخلى الاخوان صراحة وعلانية عن العنف في سنوات 2000 ,بل اعترفوا بنصيبهم في مسؤولية احداث حماة، وجددوا تشبثهم بالتعددية السياسية واحترام جميع الاقليات الدينية في البلاد« ودون الرغبة في تبرير اخطاء الجماعة، يذكر الإمام كيف كان رد حافظ الاسد مبالغا فيه. »عشرات الآلاف من السكان زج بهم في السجن وعذبوا وتم قتلهم، حماة كانت تغرق في الدم«. لقائي المطول مع الامام قارب على النهاية، جرى بالكامل في القاعة المركزية للمسجد. اختيار اقترحته حتي ألاحظ الحركة داخل المسجد. لا سلاح ولا أي سلفي، ولا أي تصرف عنيف, فقط مواطنون منهكون بالحر يأتون ويستلقون على السجاد، ويصلون بورع، وباعتدال ومما لاحظت، لا تبدو حماة بأيدي »عصابات إرهابية مسلحة« التي يفترض ان تواجدها يبرر الهجوم الشرس، الذي تعرضت له المدينة منذ 10 أيام. هجوم يستهدف حسب القناة السورية الرسمية، »عزل هؤلاء المرتزقة الذين يزرعون الرعب والموت في صفوف المدنيين الابرياء,« لكن هذا لم يكن سوى لقاء أول مع حماه. 10 غشت2011 نمت في بيت فيصل مع زوجته سارة، وطفليه، وبينما كنت ارتب الفراش الذي نمنا عليه، كانت سارة تعد لي قهوة تركية, وخرج فيصل يستقي اخر الأخبار من الجيران. بعدها بدقائق عاد وأخبرنا بقلق ان الجيش خفف حصاره على المدينة. -»الدبابات بدأت تنسحب من المدينة - قلت، شيء رائع - قال، سيعودون, انهم يعودون دائما استعادت الحياة حقوقها في مدينة تستفيق تدريجيا من كابوسها, بدأ السكان الذين فروا الى القرى المجاورة يعودون الى منازلهم, يسارع التجار الى محلاتهم لتفقد حجم الاضرار التي لحقت بهم. الاطفال الذين توقف الزمن حولهم، اجتاحوا ازقة الحي التي استعادت حيويتها عبر شغبهم الطفولي وعبر الشعارات الثورية التي يرددونها مقلدين الكبار. العائلات المكلومة. بامكانها اخيرا ان تفرج عن ألمها. ألم ممزوج بالغضب لأن القتلى في حماة لم يكن من حقهم الحصول على قبور لائقة. لقد تم دفنهم بسرعة في الحدائق العامة. لتفادي نيران قناصة النظام المتواجدين حول المقابر حيث تتحول المواكب الجنائزية دائما الى مظاهرات ضد النظام. خلال جنازة احد الضحايا الذي سقط في بداية الهجوم، اقدم الجيش على قصف المقبرة مما خلف 13 قتيلا. »ولا يترددون في استعمال الوسائل الثقيلة. يوضح فيصل، انهم يستعملون الرشاشات المضادة للطائرات التي تطلقها دبابات mt من عيار 14,5 وهي عيارات يمكن ان تسقط طائرة. وهم يستعملونها ضدنا، ضد آدميين«.