كنت كثير الإنشغال بنفسي ، حيث عزمت على التوغل داخل المغرب حتى يمكنني الإستفادة من خبرتي الطبية في خدمة الدولة هناك. كان أكثر الحديث أثناء ذلك الوقت ، في إسبانيا أو في الجزائر يدور حول إعادة تنظيم الجيش المغربي ، بمعنى، أعرب السلطان بعد معاهدة الهدنة مع إسبانيا، عن القيام بإجراءات إصلاحية. و لهذا قامت الصحف بنشر نداء ، الى كل أوروبي يمكن الإستفادة من علمه و كفاءته هناك ، بالتوجه إلى المغرب. لقد استأثر كل هذا باهتمامي ، فبدأت بوضع أفضل الخطط للمضي في غايتي . ونتيجة لتأقلمي عبر سنوات طويلة من الإقامة في الجزائر ، كنت أعتقد ، انه يجب علي أولا، حتى يمكنني التقدم بسرعة داخل المغرب ، الاحتكاك بسلوكات الأهالي والتعرف على عادات و أسلوب حياة هذا الشعب ، أكثر من محاولتي الإقتراب من السكان العرب في الجزائر. يمكن للإنسان أن يتصور، كيف أن فرجي المدعى عليه عبر هذا الأسلوب لعب بيسرعلى وتر الإستغاثة بسماحة السلطان و في الواقع فقد عانقه سيدي محمد ، و أعيد فرجي من جديد إلى منصب القايد بكرامة ، و تركت له كل ممتلكاته. حين نقل السلطان مقره من فاس إلى مكناس ، قمت بزيارة فرجي عدة مرات ، كان دائما لطيفا ، مجاملا ، يقضي كل الصباح جالسا على زربية ، أمام دار المخزن ( فهذا هو التعبير الرسمي لقصرالسلطان، و هو يعني في نفس الوقت كل الحكومة) . كان فرجي شيخا أسودا ضخم الجثة بملامح ذكية ولحية بيضاء جميلة ، حتى وإن كانت زهيدة. فقد كان عمره ، حسب رأيه ، سنة 1863 تسعون سنة ، و هذا بلا ريب أقل بكثير مما يجب أن يكون عليه ، حيث أنه كان قائدا في عهد السلطان سليمان، أي في الفترة ، التي زار فيها علي باي المغرب. ?سي? محمد بن الطالب، باشا فاس القديم ، الذي كنت ضيفه أثناء كل فترة إقامتي في فاس ، عرف بلا ريب قدرا مغايرا. كان رجلا ذو تفكير عادل و من غير أحكام مسبقة تماما، ما يعني الكثير في المغرب ، حتى أنني وجدت في يومياتي هذه الإشارة : ? بن الطالب كان حقا الأنسان الجدي و بلا ريب المنصف الوحيد ، الذي عرفته في المغرب .? ولد في ?عين ضيفة ?، مكان يوجد على بعد مسيرة يوم تقريبا جنوب شرق مراكش ، كان هناك حاكما شبه مستقل لقبيلة بربرية ، التي تشتمل حسب قوله الشخصي على سبعة فروع رئيسية . قوي وغني ( يبيع سنويا من اللوز حوالي 000،200 فرنك إلى الصويرة ) كان من المؤكد يفضل البقاء في منصبه كزعيم بربري ، حيث كان عموما سعيدا و منبسطا ، بدل أن يزوره أفراد عشيرته ، برابرة موطنه في فاس و يتحدث معهم الشلحة أو الأمازيغية . فقد حملت الوقائع ، كما يحدث كثيرا في المغرب ، عشيرته البربرية سنة 1846 على المواجهة مع حكومة السلطان ، غير أن بن الطالب نفسه لم يشارك في هذه المواجهة ، بل وقف و كل عائلته إلى جانب السلطان . المقاومة إنتهت كما هي العادة ، بهزيمة المتمردين ، لكن السلطان عبد الرحمان ، من أجل ربط هذه القبيلة القوية إلى قصره على الدوام ، عين شيخها بن الطالب باشا حاكما على فاس ، هذه الوظيفة ، التي تعتبر بعد ?الوزارة ? الوظيفة الأولى في كل المملكة. بمثل هذا التعيين المجامل ، الذي أُسند إلى رئيسها ، تم ضم القبيلة كلية إلى صف السلطان ، و ايضا بن الطالب ، الذي يبدو أنه أحق بهذه الوظيفة أكثر من أي أحد غيره ، و كذلك هو ، لم يقبلها أولا عن غير رضى . ثم كان بن الطالب يكرر في حياة مولاي عبد الرحمان ، التماس إستقالته ، لأنه عرف من خلال التجربة ، أن حاكم فاس القديمة ، أثرى مدينة في البلاد ، لا يموت أبدا موتة طبيعية . في الواقع للموظفين في المغرب وضعية مغايرة تماما عنها عندنا . إنهم لا يتقاضون مرتباتهم من الدولة أو من الحاكم ، حيث الدولة و السلطان هناك هم واحد . بل عليهم على العكس دفع الأموال للحكومة ، أو إلى خزينة السلطان . لأجل ذلك بإمكانهم طبعا إبتزاز رعاياهم قدر ما يشاءون . هكذا يعمل كل موظف إستنادا إلى ذلك ، على ملإ كيسه ، لكن غير ذلك تقديم حصص كبيرة للسلطان ، من هنا يمكن للإنسان أن يتصور ، كيف هي سيئة إدارة الشعب ، و كثيرا ما تكون المبالغة في الضرائب ، الإبتزاز المتعسف ، سببا للثورات الدائمة. فهذا النظام من ناحية هو ايضا سبب لسوء زراعة الارض ، بغض النظرعن ، أنه لا البرابرة و لا الساميون أنتجوا شيئا في حقل الزراعة ، فلا أحد يبدل جهدا، من أجل إصلاح الأرض لتصبح مثمرة قدر الإمكان ، لأنه يعلم ، أن المنتوجات ستستأثر بها الدولة. أيضا التجارة فهي مشلولة بسبب ذلك ، بالمقابل فالتاجرالغني من فاس يرى يومه ينقضي بخوف ، حيث الدولة تستولي على مدخراته ، لهذا لا يوجد ايضا أحد في أية مدينة ، و لا في أية منطقة ، ليست له ثروته السرية ، التي عادة هي مدفونة . في السنة التي دخلت فيها إلى فاس ، كان الباشا بن الطالب يحكم منذ ثلاثة عشرة سنة . و بما أنه لم يستطع الحصول على إستقالته من سيدي محمد ، فقد كان يؤاسي نفسه بتأملات ، في الخدمات الهامة التي أداها عند دخوله الحكومة ، و يتوقع الإعتراف له بذلك . مثلما هو عند كل تغيير ملكي ، كانت قد إندلعت أثناء موت مولاي عبد الرحمان أيضا قلاقل و نزاعات كبيرة حول الخلافة. كان قبل الكل الإبن الأكبر للسلطان سليمان ، إسمه عبد الرحمان بن سليمان ، الذي يأمل ، بدعم من الفرنسيين ، في إعادة إكتساب عرش أبيه ، لكن رغم إرساله إبنه لطلب المعونة من الجنرال الفرنسي مرتمبري ، الذي كان مشغولا لتوه بإخضاع بني زناسن ، لم يستطع الحصول عليها . إلى جانب ذلك كان قد تم تنحية الإبن الأول للسلطان المتوفى و أيضا الأخ الأكبر للحاكم الحالي عن حقل المنافسة ، و تم نفيه مثل المذكورالأول إلى تافلالت . فالسلطان الحاكم الحالي سيدي محمد يدين بسرعة توليه العرش بالدرجة الأولى إلى حدث ، أن سيدي الحاج عبد السلام كبير شرفاء وزان ، قد أعلن لصالحه ، أنه سبق و كان خليفة في فترة حياة أبيه ، و معناه. ممثلا للسلطان و قد جمع ثروة هائلة ، و أن بن الطالب حاكم فاس، قد إنظم فورا إلى شيعته . بيد أن مراوغة باشا فاس القديم لم تكن سهلة ، ذلك أنه إذا ما قام فرجي ، حاكم فاسالجديدة ، هو الأخر بمهاجمة لواء السلطان الحالي ، هكذا ستواجه بن الطالب و قواته القليلة كثير من الصعاب من أجل حماية فاس الجديد و قصر السلطان من الهجوم و النهب. لكن بن الطالب زيادة على عشرات من المخازنية (الخيالة) كان رهن إشارته ربما خمسون برابرة من عشيرته المسلحين بالبنادق الطويلة فقط والسلطان الحالي كان لا يزال بعيدا بقواته عن العاصمة.