في فاتح فبراير 1979، حينما كان شيخ وقور ناهز الخامسة و السبعين من العمر يهبط سلم الطائرة في مطار مهرأباد بطهران، كانت مرحلة من تاريخ إيران قد شرعت في التبدد و الاندثار فيما طفقت حقبة جديدة في تاريخ البلاد و في تاريخ العالم الإسلامي و العالم أجمع، تخُط أولى صفحاتها. فلأول مرة ? منذ الدولة الصفوية في القرن السادس عشر? سيعلن عن قيام دولة شيعية إمامية مبنية على المذهب الإثناعشري. و ابتداء من ذلك التاريخ تغيرت المعطيات الجيوسياسية بالمنطقة، و شرعت الدولة الجديدة في استخدام و تصدير سلاحها المذهبي، عبر العالم، في البداية إلى المناطق القريبة التي تحتضن شيعة إثناعشرية و بعدها إلى المناطق الشيعية حيثما وُجدت ثم إلى العالم الإسلامي كاملا و أخيرا إلى العالم أجمع و أينما وجد المسلمون. في هذه السلسلة من المقالات، نتابع الكيفية التي تقوم بها إيران بنشر التشيع، و المذهب الإثنا عشري تحديدا، عبر العالم خدمة لمصالحها السياسية كدولة صاعدة ترنو إلى الهيمنة على محيطها القريب و السيطرة على دُوله، و ذلك من خلال التمكن من عقول مُواطني هذه الدول. و من أجل فهم أفضل، لا بد من وضع الشيعة و أصولها الفكرية و فرقها المختلفة في سياقها التاريخي القديم و الحديث، و هو الأمر الذي من شأنه أن يسهل فهم توزيعها الجغرافي الراهن و بالتالي استيعاب مخطط الجمهورية الإسلامية الإيرانية و وضعه في سياق الصراع الدولي الجاري. شكلت الحرب العراقيةالإيرانية فرصة لإيران كي تستخدم الحركات و المرجعيات الشيعية العراقية مطية لها، فيما قدم سقوط نظام صدام حسين سنة 2003 هدية للتشيع الإيراني من أجل استكمال بسط نفوذه على أفئدة و عقول الناس من خلال السيطرة على مراجعهم و أحزابهم، و لعل حزب الدعوة الإسلامية يشكل نموذجا. فحزب الدعوة الإسلامية ، الذي شكل العمود الفقري "للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية" يُعد أقدم التنظيمات الشيعية بالعراق ،إذ تأسس ?حسب أدبياته- سنة 1957 من طرف ثلة من النخبة الشيعية، كان السيد محمد باقر الصدر هو الفقيه و المنظر و الزعيم الروحي لها (أعدم في 9 أبريل 1980 من طرف النظام العراقي عقب محاكمته بتهمة التخابر مع دولة أجنبية). و قد جاء تأسيس "حزب الدعوة" في تلك الفترة المبكرة من طرف أصحابه في سياق الصحوة الدينية التي شملت العالم العربي بأكمله، و التي تمثلت في السلفية الوهابية القادمة من السعودية و في التيار الإخواني الذي يتخذ من مصر مركزا له، و ذلك في مواجهة باقي التيارات و العقائد غير الدينية مثل الاشتراكية و الشيوعية التي كانت في أوجها آنئذ. و ظل حزب الدعوة وفيا لعمله الدعوي حتى بداية السبعينات حين دخل مرحلة الصدام مع النظام ، نتيجة لتدهور العلاقات بين العراق و إيران إثر إلغاء هذه الأخيرة لمعاهدة 1937 كما رأينا سابقا. فاستقرت قيادته بطهران، بدءا من سنة 1979 . و بذلك دخل "حزب الدعوة" العراقي ،الذي يرنو للعالمية، تحت عباءة الولي الفقيه الإيراني (بعد أن كان يدعو إلى ولاية الفقهاء أو الولاية الشوروية) و تخلى عن استقلالية قراره و أصبح بيدقا في يد طهران ستتمكن من خلاله من مد نفوذها العقدي و السياسي على بلاد الرافدين ، خصوصا بعد انهيار نظام صدام حسين سنة 2003 و دخول العراق في سرداب الصراعات و الحروب الأهلية. و قد تنامى النفوذ الإيراني و تغلغل داخل حزب الدعوة بالتدريج إلى أن تجلى في حمل العديد من قادته للجنسية الإيرانية مثل مرتضى العسكري و محمد مهدي الآصفي و السيد كاظم الحائري و هم من كبار قادة حزب الدعوة، أما الباقون فيعلنون بشكل جلي خضوعهم ل"الولي الفقيه" و بالتالي للدولة الإيرانية. و بالرغم من أن بعض الدارسين يقولون أن "حزب الدعوة" بعد رجوعه إلى العراق قد حقق بعض الاستقلال عن إيران، و دليلهم في ذلك الانشقاقات التي حصلت داخله و إصرار قادته الحاليين على "خط الدعوة" البعيد عن "ولاية الفقيه" و هو أمر صحيح بالفعل، إلا أن هذا لا ينفي إصرار إيران على تنفيذ مشروعها للعراق و للمنطقة ككل. فقد شكل سقوط صدام حسين و انهيار نظامه، هدية من دول التحالف، لإيران التي لم تتردد في استغلال هذا الوضع كي تُسَرع من وتيرة تنفيذ مشروعها الكبير للسيطرة على المنطقة، حتى باتت الآن تتحكم في خيوط المشهد الشيعي بالعراق و ترنو بمطامعها إلى ما وراءه من بلاد أخرى. فقد أصبح شيعة العراق ورقة تستخدمها كيف و متى شاءت لإدارة مصالحها بالعراق، و ذلك من خلال احتواء رموزهم و قادتهم بالموازاة مع تسلل حثيث لأذرع المخابرات الإيرانية داخل مفاصل المجتمع العراقي، و الشيعي منه خاصة، مع تدفق شلال الأموال غير الخاضعة لرقابة الحكومة العراقية و تسخير للإعلام بشكل ذكي و غزير خدمة للمشروع الإيراني للهيمنة على المنطقة. ففي سياستها لاحتواء القيادات الشيعية، تعمد طهران إلى التعامل بشكل مختلف مع كل واحد من التيارات أو المرجعيات الشيعية العراقية. ففي الوقت الذي تتعامل فيه مع مرجعية علي السيستاني (المرجع الحالي الذي خلف مرجع التقليد الراحل أبو القاسم الخوئي في حوزة النجف) أو تيار مقتدى الصدر أو حزب الدعوة بفروعه المختلفة، تعاملا يحفظ لهذه الأطراف استقلالية صورية مزعومة، تقوم و بعيدا عن أي ضجيج إعلامي، بتقديم دعم استثنائي و لا محدود لتيار المرجع آية الله المدرسي الذي يقود "منظمة العمل الإسلامي" (سيأتي ذكرها لاحقا) و الذي تخطط له إيران لقيادة المرجعية في كل من العراق و البلدان الخليجية (السعودية و البحرين و الكويت و اليمن...) و من أجل تحقيق هذه الغاية، تعتمد إيران على أداة رئيسية تسللت إلى العراق، و هي المخابرات بأجهزتها المختلفة، حتى أصبحت واسعة النفوذ داخل هذا البلد. كما يشمل المخطط الإيراني شراء ولاء رجال دين من السنة و من الشيعة على السواء و ذلك للترويج لصورة إيران الطيبة و الدفاع عنها. و قد خصصت لهذه الغاية وحدها خمسة ملايين دولار سنويا. و يتجسد التسلل الإيراني أيضا في حجم المساعدات النقدية المدفوعة لجميع الأحزاب و التيارات الشيعية، و لعل أبرز مثال على ذلك هو تيار مقتدى الصدر الذي تلقى خلال سنة واحدة أكثر من 80 مليون دولار، إلى جانب تدريب رجاله في جيش المهدي و تلقي معونات غذائية و صحية . و يتمثل هذا التمدد الإيراني كذلك في الشق الإعلامي حيث تمول إيران حوالي 35 قناة فضائية شيعية عراقية، و كثير من الإذاعات و الصحف المحلية، حتى أصبح لكل حزب و لكل ميليشيا شيعية قناة تلفزيونية تروج لها و لبرامجها، و من خلال ذلك للمشروع الشيعي الذي تسعى إيران لتصديره إلى الخليج عبر العراق. و إيران في كل هذا تعمل على بناء امبراطورية شيعية واسعة بالمنطقة، تتخذ من طهران عاصمتها السياسية و من حوزة قُم عاصمتها الدينية و مرجعيتها المذهبية.