الآن و قد تعرفنا على الرحم التي احتضنت بذرة "التنظيم الشيعي" بلبنان، و تابعنا تطورات المخاض العسير الذي رافق نمو هذه البذرة و رأينا الدور الكبير الذي لعبته المولدة أو "القابلة" في استقبال الوليد، وصلنا إلى لحظة الميلاد الرسمي للمولود الذي سيطلق عليه منذ ذلك اليوم إسم "حزب لله". ففي السادس عشر من شهر فبراير 1985، و انطلاقا من حُسينية الشياح بالضاحية الجنوبية لبيروت، في الذكرى الأولى لاستشهاد راغب حرب و هو أحد قادة الحركة، قام إبراهيم أمين بتلاوة بيان أو إعلان سياسي تحت عنوان " رسالة مفتوحة إلى المستضعفين في لبنان والعالم". وقد افتتحت هذه الرسالة/ البيان بالآية الكريمة: " و من يتول لله و رسوله و الذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون" (المائدة: 56) . ومن ثمة شاعت كلمة حزب لله التي أصبح التنظيم الجديد المعلن عنه حاملا لها. و قد جاء في مقدمة الرسالة و تحت فصل "من نحن و ما هي هويتنا؟" التعريف التالي : "إننا أبناء أمة حزب لله التي نصر الله طليعتها في إيران، وأسست من جديد نواة دولة الإسلام المركزية في العالم.. نلتزم بأوامر قيادة واحدة حكيمة وعادلة تتمثل بالولي الفقيه الجامع للشرائط، وتتجسد حاضراً بالإمام المسدد آية لله العظمى روح الله الموسوي الخميني دام ظله.. مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة. وعلى هذا الأساس فنحن في لبنان لسنا حزباَ تنظيمياً مغلقاً، ولسنا إطاراً سياسياً ضيقاً.. بل نحن أمة ترتبط مع المسلمين في كافة أنحاء العالم برباط عقائدي وسياسي متين هو الإسلام الذي أكمل الله رسالته على يد خاتم أنبيائه محمد صلى الله عليه وسلم...". و هكذا يكشف الوليد الجديد، منذ البداية انتماءه العقائدي "للولي الفقيه" و بالتالي خضوعه لتعليمات الإمام الخميني (و من يليه) و لسياسات الجمهورية الإسلامية الإيرانية. واضعا انتماءه اللبناني و العربي في الصف التالي، مُقدما عليه انتسابه لأمة المسلمين في كافة أنحاء العالم. كما استعمل البيان كلمة "المستضعفين" ومشتقاتها مقابل كلمة أخرى هي "قوى الاستكبار" و "أئمة الكفر"، و ضرورة مواجهة عدوانها معترفا بأن العمليات التي تمت ضد المارينز الأمريكيين و المظليين الفرنسيين هي من فعل "حزب لله" معتبرا ذلك "أول عقوبة لهم". و توجهت الرسالة إلى "كافة الشعوب العربية و الإسلامية" لتعلن لهم أن "تجربة المسلمين في إيران لم تُبق عذرا لأحد حين أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك أن الصدور العارية المدفوعة بإرادة الإيمان قادرة بعون الله الكبير أن تحطم كل حديد الأنظمة الطاغوتية وجبروتها". داعية إلى "تشكيل جبهة عالمية للمستضعفين"، مما يجعل منها "أممية" جديدة ذات مضمون إسلامي جهادي شيعي على خُطى المذهب الحاكم في إيران. و منذ ذلك الحين عاش "حزب لله" معارك و صراعات داخلية ، بين من يعتبر الحزب حركة مُقاومة وطنية لبنانية تستفيد من دعم حلفائها الذين يحترمون استقلالية قرارها، و بين من يعتبر الحزب كُويكبا يدور في فلك المجرو الكبرى التي توجد طهران في مركزها، و في قلب هذا المركز يوجد الولي الفقيه. أو بعبارة أخرى كان الصراع يضطرم بين تيار شيعي عروبي مُنتم لمحيطه العربي اللبناني أولا و بين تيار شيعي يضع مرجعيته للولي الفقيه و تبعيته للجمهورية الإسلامية أولا، و هو التيار الذي انتصر بالنهاية و ذلك باستبعاد المرجع حسين فضل لله و الأمين العام السابق صبحي الطفيلي. فقد كان الشيخ حسين فضل لله العراقي الأصل، الذي قدم من النجف بالعراق إلى لبنان سنة 1966 تلبية لطلب الناس رفيقا داعما للإمام موسى الصدر في حركته، و عرف بمناصرته للثورة الإسلامية بإيران و بمساندته القوية لحزب لله حتى صار يوصف ب"المرشد الروحي" للحزب. إلا أن تصديه للمرجعية سنة 1997 و رفضه مبايعة حزب الله لولاية خامنئي ، و دعوته إلى الاستقلال عن المرجعية القُمية (نسبة إلى قُم في مواجهة للنجف) و تقديمه لتفسيراته و نظرياته الخاصة (على غرار إنكاره كسر ضلع فاطمة الزهراء التي يعتبرها الشيعة من المسلمات التاريخية، و إنكاره الولاية التكوينية التي تجعل الأئمة في مصاف الأنبياء و رفض لعن أبا بكر و عمر و عائشة و استهجان طقوس اللطم في عاشوراء و تحريمها) و هو ما جر عليه انتقادات و اتهامات كثيرة من رجال الدين الشيعة. بيد أن ما دفع حزب لله إلى التخلي عن "مُرشده الروحي" السابق ليس هو اجتهاداته التاريخية و الفقهية، بل تداعياتها و انعكاسها على مواقفه السياسية الكبرى، و منها موقفه من السياسات الإيرانية في لبنان و مساندته للشيخ صبحي الطفيلي و محافظته على هامش واسع من الاستقلالية. فإيران التي ساهمت بشكل كبير في ميلاد حزب لله و التي "اختطفته" تقريبا من بيئته اللبنانية، لا تريد أي تشويش على سياساتها في بلد الأرز و لا تسمح بأي صوت يعلو فوق صوتها، خاصة من طرف رجل دين يحظى بالاحترام و التقدير و الشعبية الكبيرة، و له مواقفه المستقلة التي قد لا تخدم الأجندة الإيرانية. لذلك صدر من طهران قرار التخلي عن آية لله محمد حسين فضل لله باستبعاده عن دائرة المشورة و الفتوى، و كان هذا أقصى ما تستطيعه الجمهورية الإسلامية الإيرانية حُياله، فتخلى عنه قادة حزب الله و طفق فقهاء قُم يكيلون له التهم. أما الشخص الآخر الذي شكل حصاة في حذاء الاستراتيجية الإيرانية في لبنان، فهو صبحي الطفيلي أول أمين عام لحزب لله (1989- 1991) الذي أبان عن استقلالية نسبية في مواقفه سواء حين كان أمينا عاما للحزب أو أثناء عضويته في مجلس الشورى، إذ كان يولي الأسبقية للمصلحة الوطنية لبلاده و لحزبه و يرفض المواقف التي تخدم مصلحة إيران بشكل سافر على حساب مصلحة لبنان و مصلحة الحزب، و هو ما خلق له خلافات مع معظم أعضاء مجلس الشورى المدعومين من طهران. و أمام ازدياد خلافاته مع التوجهات الإيرانية داخل "حزب لله" و التي كان حسن نصر لله خير منفذ لها، اضطر سنة 1996 إلى الاعتكاف في بلدته برضاي قرب بعلبك في البقاع اللبناني، التي قاد انطلاقا منها حركة عصيان مدني ضد الحكومة سُميت ب"ثورة الجياع" احتجاجا على تردي الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية للشيعة ، و هي الحركة التي رفضها حزب لله و حارب الطفيلي بسببها. و لم يكن الطفيلي (الذي لا زال يرفع خلف مكتبه صورة كبيرة للخميني) يُخفي انتقاداته للسياسة الإيرانية سواء تلك المتعلقة ببلده لبنان أو سياسة طهران الإقليمية حيث ورد عنه قوله منتقدا الازدواجية الإيرانية في التعامل مع واشنطن : "أن أتحالف مع الأمريكيين في العراق و أتحارب معهم في لبنان بقيادة واحدة فهذا أمر لا يقبله عاقل". و بحسم هذا الصراع في نهاية القرن العشرين لصالح الخُمينيين داخل "حزب الله" ازدادت تبعية الحزب و ولاؤه لإيران، و أصبح الذراع المطيع لطهران، تُحركه متى شاءت و توقفه متى أرادت. و بذلك أصبح حزب الله وسيلة من وسائل الضغط على أمريكا في كل الملفات الإيرانية الملتهبة (سياستها العراقية أو الملف النووي أو....) الحلقة المقبلة : إيران في لبنان و لبنان في إيران