رسالة من أبي العلاء المعري إلى أحمد بوزفور من أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي، المشهور بأبي العلاء المعري إلى الأديب الألمعي أحمد بوزفور السلام عليك و رحمة الله، وبعد بلغني - كبتَ الله عدوَّك - أنك تنوي، إنْ أنتَ لقيتَني يوماً، أن تسألني عن أشياء وأشياء، فكأني بك قد نسيتَ ما قلتُه في « رسالة الملائكة « : «وحقَّ لمثلي ألّا يُسأل، فإذا سُئل تَعَينَ عليه ألّا يجيب، فإنْ أجاب فَفَرْضٌ على السامع ألّا يَسْمعَ منه...» وهذا كلام دأبتُ عليه منذ أوصدتُ بابي، في معرة النعمان، بعد عودتي من بغداد. فلم أعد آذنُ للزائرين ولو كانوا من ذوي القربى. وقد علمتَ - حفظك الله - أنّي إنسيُّ الولادة وحشيُّ الغريزة وأني أفَضّلُ الصمتَ على الكلام، وفي ذلك أقول: وماذا يبتغي الجلساءُ عندي أرادوا منطقي و أردتُ صمتي؟ و علمتَ كذلك أني طالما حمدتُ الله على العمى كما يحمده غيري على البصر ، فقد صنعَ لي و أحسنَ بي إذْ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء . وهكذا بقيتُ زمناً كقافِ رُؤْبَة ، في أرجوزته التي ألزمَ رويَّها السكونَ. فذلك قولي في اللزوميات : مالي غدوتُ كقافِ رُؤبةَ قُيّدتْ في الدهر لمْ يُقْدرْ لها إجراؤُها؟ وقد امتنعتُ فترة طويلة عن مجالسة الناس، وكان لي إيراد يسيرٌ يأتيني من وقْف لي ، مقداره بضعة و عشرون دينارا في السنة ، أدفعُ نصفَه أجراً للخادم والوراق، وأقيم أوَدي بالنصف الباقي ، ولا أقبل عطاءً من أي مخلوق . غير أن إلحاح طلاب العلم انتهى بي - أنا المستطيع بغيري - إلى فتح الباب الموصد، فصرتُ أستقبل القادمين من الأقطار القصية، وأقضي وقتا طويلا في التدريس والإملاء، وإن كنتُ أضيق بالكلام وأضيق بالتدريس مثلما أضيق بالإملاء: أما ليَ فيما أرى راحةٌ يدَ الدهرِ منْ هَذَيان الأمالي؟ وعن ذلك أيضا أقول في اللزوميات : يزورني القومُ هذا أرضه يمَنٌ من البلاد و هذا دارُهُ الطّبسُ وصار طلابُ العلم يسألونني وصرتُ أحاول جهدي أنْ أجيب، مؤمنا في قرارة نفسي بأنه قد حقَّ لمثلي ألّا يُسأل : بيد أني - أطال الله بقاءك - أحب أن أَسْأل غيري وأن ألحّ في السؤال، كلما وجدتُ لذلك سبيلاً. وسأبقى على ما جُبلتُ عليه، إلى أن تحين ساعتي، ويحلّ موعدُ الظعن إلى الآخرة، فأمضي مرددا قولي في اللزوميات : قدمْنا والقوابلُ ضاحكاتٌ وسرنا و المدامعُ ينْبَجسْنَهْ وقد وصفتُ في « رسالة الملائكة» كيف أدافع عزرائيل ، عند دنو أجَلي ، وأسأله عن أصل كلمة ( ملَك)، ثم أحَدثه عما قاله عمر بن أبي ربيعة، وعما أنشده أبو عبيدة، فيقول لي مغتاظا من كلامي: - مَن ابن أبي ربيعة؟ ومن أبو عبيدة؟ وما هذه الأباطيل؟ إن كان لك عمل صالح فأنت السعيد، وإلا فاخسأ وراءك. فأقول له : - أمهلني ساعة حتى أخبرك بوزن عزرائيل، فأقيم الدليل على أن الهمزة زائدة فيه. فيكتفي بالقول : - هيهات، ليس الأمر إليّ ( إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.) ثم أصفُ بعد ذلك كيف أسأل منكرا ونكيرا: - أخبراني أيها الملكان ، كيف جاء اسماكما عربيين متصرفين، وأسماء الملائكة أكثرها من الأعجمية، مثل إسرافيل وجبريل وميكائيل؟ فيقولان: - هات حجتك وخلّ الزخرف عنك . فأقول متقربا إليهما: - كان ينبغي لكما أن تعرفا وزن ميكائيل وجبريل، على اختلاف اللغات فيهما، إذْ كانا أخويكما في عبادة الله. لكن كلامي لا يزيدهما إلا غلظة. وبعد حواري مع الملائكة من خزنة الجنة، أتجه إلى مالك، خازن النار، فأقول له: - رحمك الله، ما واحدُ الزبانية، فإن بني آدم في ذلك مختلفون؟ يقول بعضهم: الزبانية لا واحد لهم من لفظهم، وإنما يَجْرون مجرى السواسية، أي القوم المستوين في الشر ... فيعبس مالك ويكفهر، فأقول : - يا مال، رحمك الله، ما تَرى في نون غسلين؟ وما حقيقة هذا اللفظ؟ أهو مصدر، كما قال بعض الناس؟ وهل هو واحد أم جمع؟ ثم أخبرني عن النون في جهنم، هل هي زائدة ؟ وإنما أحكي لك هذه الأمور، أيها المغربي الأريب، لترى أني قد جُبلتُ على طرح الأسئلة، حتى في ساعة الشدة . وحتى « رسالة الغفران» أمليتُها لأَسْأَلَ لا لأجيب، أو لأسأل أكثر مما أجيب. على أنه قد بقيتْ هناك أسئلة كثيرة لم أثرها في هذا الكتاب، فلعلك يا صاحب َ « ديوان السندباد» تقوم بتأليف جزء ثان من ( الغفران)، تحاور فيه شعراء الدار الباقية ، سواء منهم أولئك الذين يُسْقَون في الجنة من رحيق مختوم، أو الذين يتلظون في الدرك الأسفل من نار السَّموم . و السلام عليك و رحمة الله.