لقد قادتني بنات أفكاري إلى تناول هذا الموضوع بالبحث والدراسة, لأنني لم أجد حسب علمي موضوعا سابقا في هذا الشأن, يمكن الاستنارة به ومعرفة المشاكل والأسباب, والاستفادة من المقترحات المستخلصة من خاتمته, وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الأمر لم يؤخذ محمل جد, ولا يشكل حسب المختصين أي عائق في مدى نجاح تسيير المؤسسات, وكأن مسار القضاء لم يعرف حوادث وحالات, أبانت عن انعدام الاستقلالية وضعف الأداء وقلة الكفاءة, علما أن واقع الحال عكس هذا تماما, لأن كل فعاليات المجتمع المدني والمؤسسات الدستورية, تلقي باللوم على القضاء وتحمله مسؤولية تردي العدالة بالبلاد, وهروب المستثمر وتأخر التقدم وانعدام الضمانات للفاعلين الاقتصاديين, وارتفاع الجريمة وغياب الأمن والإفلات من العقاب بالنسبة للمجرمين. - فهل يا ترى للمسؤول القضائي يد في هذا الوضع الراهن؟ - وهل هو وحده المسؤول عن كل هذه المترديات؟ - وهل كان لتكوينه منذ التحاقه بهذه الوظيفة دور في هذا؟ - وهل أريد بالقضاء أن يكون شماعة تعلق عليها أخطاء القوم؟ - وهل غياب منبر تحدث القاضي جعل التعتيم سيد الموقف؟ أما على صعيد المحاكم، فإن نجاح الإصلاح يظل رهينا بانتهاج عدم التمركز، وبتوافر الكفاءات اللازمة. ولهذه الغاية، ندعو المجلس الأعلى للقضاء، لعقد دورة خاصة، لاقتراح المسؤولين القضائيين بالمحاكم، المؤهلين للنهوض الميداني بهذا الإصلاح الحاسم. مقتطف من الخطاب الملكي السامي. معايير اختيار المسؤول القضائي من بين باقي القضاة : 1- احترام رغبة القاضي في تولي المسؤولية من عدمها, لأن انعدام الرغبة معناه انعدام الإرادة, وانعدام الإرادة هو طريق للفشل. 2- اعتماد قاعدة الأقدمية لأنها عنوان للتجربة والحنكة, لأن القضاء صناعة, وإتقان الصناعة يكتسب مع الوقت لامع الشواهد. 3- اعتماد مسألة التخصص, لأن القضاء متشعب كباقي المجالات, فمن يتقن مادة قانونية قد لا يفقه شيئا في أخرى. 4- الاستماع إلى المرشح قبل اختياره, لبسط تصوراته وأهدافه التي يرجو تحقيقها والعمل عليها, إن هو تم تعيينه, 5- ضرورة توفر المسؤول القضائي على لوحة قيادة, تكون له بمثابة خارطة طريق في مساره كرئيس مؤسسة قضائية. 6- وجوب عرضه على مختص في الطب النفسي, للكشف عن عقده وطريقة تفكيره ورؤيته للعالم الخارجي المحيط به, 7- ملامسة مدى قدرته على تأطير واحتواء كل العاملين معه, لتوجيه طاقاتهم نحو هدف معين, ألا وهو المصلحة العامة. 8- ضرورة توفر المرشح على تجربة عمل بجميع درجات التقاضي, من محكمة ابتدائية واستئناف ومحكمة النقض. 9- تكليف القاضي بالمسؤولية وهو في كامل قوته البدنية والعقلية, وفي سن كهولته لا في شيخوخته, حتى يكون في أوج عطائه. 10- ضرورة إتقانه لأكثر من لغة, لأنه مفروض فيه استقبال أشخاص من جنسيات مختلفة, لسماع شكاويهم دون حضور أي طرف آخر. 11- إعطاء الأسبقية للقضاة الذين تم ترشيحهم من طرف الجمعيات العمومية للمحاكم, وذلك لإشراك القضاة في تسيير أمورهم بنفسهم. 12- إجماع الأغلبية المطلقة لأعضاء اللجنة على مرشح معين, مما يؤكد استحقاقه بتفوق للمنصب موضوع الاختيار. 13- ضرورة توفر المرشح على شخصية قوية, غير خجولة أو لا مبالية أو محتشمة أو ضعيفة أو مماطلة أو انزوائية أو متهورة أو حقودة. وقد تظهر هذه المعايير مبالغا فيها أو تعجيزية, ولكن بالنظر لمهمة القضاء فلا بد من اختيار أشخاص متفردين في أخلاقهم وقدراتهم وكفاءاتهم, قادرين على تحمل المسؤولية والإجابة عن كل الأسئلة, - فالمسؤول لا تعني رئيس بل تعني مستجوب موضوع مساءلة - لأن رقاب وحريات وأعراض أناس ستوضع بين أيديهم, قال صلى لله عليه وسلم : " من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب لله له النار، وحرم عليه الجنة"، فقال رجل : وإن كان شيئاً يسيراً يا رسول لله ؟ قال:" وإن كان قضيباً من أراك " أخرجه مسلم, لهذا كان من الأجدى أن يضيق عنق الزجاجة في اختيار المسؤول, والأمل في أن تتوفر فيه كل هذه الخصائص, فمنها ما هو فطري ومنها ما يكتسب عبر الزمن, وقد تجتمع في أي رجل بسيط يعرف شرع الخالق فيطبقه, فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا, ويعرف حق المخلوق فلا ينتهكه ولا يغصبه لنزوة, ويبعد نفسه عن الشبهات فيسلم, ويأخذ العصا من وسطها فيغنم, فالله يقول في كتابه : " وَلَيَنصُرَنَّ للَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ للَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ « سورة الحج»، وعن النبي صلى لله عليه وسلم قال : " إن المقسطين عند لله تعالى على منابر من نور، على يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا ", أخرجه مسلم, و قال صلى لله عليه وسلم : " إن لله مع القاضي، ما لم يجُر، فإن جار، تخلى لله عنه، ولزمه الشيطان " أخرجه الترمذي, فالبحث عن كل هذه الميزات مرده الخوف من تقليد المسؤولية لشخص يسيئ التعامل معها ويسيئ لسمعة سلطة بكاملها, بشطط أو استبداد أو جور على العباد, فيعظم نفسه ويرفض أن يكون موضع انتقاد أو لوم, فيصبح كالمهلب بن أبي صفرة الذي صاح في وجه أحد الأعراب قائلا: من أنا؟ وكان ينتظر منه أن يجيب: أنت سيدي القائد الجبار, الذي قهرت العدا في البراري والقفار, لكن جواب الأعرابي كان خلافا لما ينتظر, حيث قال له: أنت إنسان خلقت من نطفة مذرة, وحين تموت تصير جيفة قذرة, وظللت منذ خلقك إلى مماتك تحمل في بطنك العذرة, وكلمة المذرة والقذرة والعذرة دلالة على التصغير والتحقير والنتانة, أراد الأعرابي من خلالها أن يجعل المهلب يعرف قدره, فيتوب من كبره وتحقيره للآخرين, فكم من أناس لا تظهر عليهم أي أعراض مرضية, ولكنهم يعانون من أمراض نفسية عصابية أو دهانية تؤثر سلبا في شخصيتهم وفي تعاملهم مع الآخر, كالخواف والوسواس القهري والانفصام والفوبيا وغيرها, وقد تنبه المشرع المغربي لهذه المسألة في إطار قانون المحاكم المالية رقم 99/62, إذ نص في المادة 203 منه على ما يلي: (تمنح رخص المرض الطويلة الأمد التي لا يزيد مجموع مدتها على خمس سنوات لفائدة القضاة المصابين بأحد الأمراض التالية: - الإصابات السرطانية « الجذام » داء فقدان المناعة المكتسبة « شلل الأطراف الأربعة » زرع عضو حيوي « الدهان المزمن » الاضطرابات الخطيرة في الشخصية ? الجنون, ويحتفظ القاضي خلال الثلاث سنوات الأولى من رخصة المرض بمجموع أجرته, ونصف هذه الأجرة طوال السنتين التاليتين), ونظرا لأن هذا القانون لم يصدر إلا مؤخرا في سنة 2002, خلافا للنظام الأساسي لرجال القضاء الصادر سنة 1974, فإن المشرع اعتبر هذه الاضطرابات النفسية من الأمراض الخطيرة, نظرا لتقدم الطب وثبوت التجربة أن هذه الحالات المرضية, تشكل اختلالا خطيرا في شخصية الإنسان وتؤثر على سلوكه. لهذا يجب التريث في اختيار من سيتولى هذه المهمة الشاقة العظيمة, خصوصا إذا علمنا أن رسول لله صلى لله عليه وسلم قال:" من ولي القضاء، أو جعل قاضياً، فقد ذُبح بغير سكين", أخرجه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني, ومعنى " ذبح بغير سكين "، قال ابن الصلاح: المراد ذبح من حيث المعنى، لأنه بين عذاب الدنيا إن رشد، وعذاب الآخرة إن فسد. وإذا كانت هذه بعض المعايير أو المواصفات, الواجب توافرها أو اللازم وجودها أو المقترح إضفاؤها, على شخص المرشح للمسؤولية أو للمنصب القضائي, ليستطيع القيام بمهامه وينجح في وظيفته, وهذا لأنه سيتحمل في إطار هذه المسؤولية المسندة إليه عدة أعباء, نجمل بعضها في: - عبأ تمثيل القضاء وإعطاء صورة وسمعة عنه من خلال قراراته. - عبأ الفصل بين الناس وإعطاء كل ذي حق حقه في غير ملامة. - عبأ تسيير مرفق عمومي بما فيه من أطر وموظفين وأعوان وتوجيه عملهم إلى الإنتاج والتصريف بدلا من التراكم والتسويف. - عبأ تمثيل دولة بأكملها أمام المنتظم الدولي, وأمام كل أجنبي قد يكون طرفا في قضية معينة, - عبأ رفع راية الحق والعدل وتنكيص بيرق الظلم والجور. - عبأ تنفيذ سياسة جنائية هادفة لمكافحة الجريمة, هذا إذا كان في مؤسسة النيابة العامة, -عبأ الرعاية, انطلاقا من قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ للّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } سورة الأنفال, وحديث نبينا المصطفى المختار: كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته. وبالرجوع إلى مدونة أخلاقيات القاضي, الصادرة عن المجلس الأعلى للقضاء في دورته المنعقدة سنة 2006, نجدها قد تطرقت لهذه النقط بكل تفصيل, إذ اعتبرت أن من التزامات القاضي ما يلي: - الحفاظ على العهد الذي قطعه على نفسه أثناء تأديته اليمين. التحلي بمبدئ الحياد والتجرد. - أداء واجباته القضائية بكل نجاعة وإتقان وفي الآجال المعقولة. تحقيق العدل طبقا للقانون. - الحفاظ على السر المهني وأن لا يعبر عن قناعته أثناء سير الدعوى وقبل التصرف أو الفصل فيها. - تسبيب أحكامه في الآجال المطلوبة وبصفة شخصية. - العمل على أن يكون منطوق حكمه واضحا وقابلا للتنفيذ, - أن يكون منضبطا في مواعيد عمله ومتمكنا من ملفاته. - أن لا يقبل من أي جهة كانت أي تدخل من شأنه التأثير على عمله القضائي. - عدم ممارسة أي ضغط على أطراف القضية. - الرفع من مستواه العلمي وكفاءته المهنية. وبقراءة تحليلية لهذه الالتزامات الملقاة على عاتق القاضي, نفهم من خلالها أنها تخاطب فيه ضميره الحي, وتعتمد على خلقه ومبادئه في الحياة, ومدى تزانه وكفاءته ونبله, إذ لا رقابة على القاضي في عمله اليومي, رغم ما تطلبه منه من كفاءة في العمل وسرعة في البث وحياد في القضاء وقمع لكل متدخل وانضباط في الوقت, فهل الظروف التي يشتغل فيها القاضي كفيلة بأن توفر له جوا يضمن له هذه الحماية ويحصنه من كل تأثير خارجي. قضاء المسؤول أو عمل المسؤول القضائي أي نجاعة؟ يلعب المسؤول القضائي دورا مهما, في السير بالمؤسسة القضائية إلى الأمام, والرقي بعمل القضاء سواء الجالس أو النيابة العامة, إلى المستوى المطلوب, ولعب دور رائد في تصريف الأشغال, وتوحيد الاجتهاد, ورسم خارطة طريق لما يجب الانكباب عليه, فرغم استقلال القضاء الجالس في أحكامه, إلا أن رقابة المسؤول وقراراته قد تؤثر سلبا أو إيجابا في هذا القاضي أو ذاك, بالنظر لطريقة تدخل المسؤول, فإبعاد قاض من مادة يتقنها أو عنده ميول لها, سيؤثر لا محالة على مردوديته, كما أن تعيين آخر في غرفة لم يسبق له أن مارس مادتها, لن يؤدي إلا لنتائج لا تليق ومستوى الأحكام المطلوبة, خصوصا وأن هذا المسؤول يستمد هذه الاختصاصات من القانون, ومن السلطة الأدبية القائمة بينه وبين باقي القضاة, ومن دعمه ومصداقيته المستمدين من الوزارة الوصية, ومن نشرة التنقيط التي تبقى بمثابة مقصلة على رقبة القاضي, ومن حقه في عدم السماح لقاض بالسكن خارج الدائرة القضائية طبقا للنظام الأساسي لرجال القضاء, كما أن التنظيم القضائي يعطيه في إطار الجمعية العمومية, الحق في تعيين القضاة في الأقسام والغرف, وإن كان ظاهر النص يوحي بأن القرار هو مشترك بين الجميع, وأن كل قاض يعبر عن رغبته في العمل بقسم أو غرفة معينة خلال انعقاد الجمعية، إلا أن واقع الحال هو خلاف ذلك, إذ تفتتح الجمعية العمومية بهمس خفيف وعابر لمجهودات القضاة خلال السنة المنصرمة, دون تشجيع لهم, تم يتلى برنامج الجلسات وكلمة مختزلة لكلا المسؤولين، فينفض الجمع قبل حتى أن ينعقد، وبالرجوع لقانون99/62 الخاص بالمحاكم المالية، نجده قد أعطى اختصاصات لا محدودة للرئيس الأول بالمجلس الأعلى للحسابات تمتد حسب الفصل الثامن إلى مراقبة أعمال وأنشطة قضاة المحاكم الإدارية وتسيير شؤونهم الإدارية, ومن خلال هذه المقتضيات والتصرفات, تبدأ الثقة في الفقدان ما بين المسؤول القضائي وباقي القضاة, فتتشنج العلاقة وتسود الانزوائية, ويحل التفرق عوض التجمع, مما يؤثر سلبا على العمل, وإن كانت السنة التي جاءت بعد التعديل الدستوري, قد عرفت تراجعا نسبيا في بعض المحاكم, لهذا الاحتكار الذي دام لأكثر من خمسين سنة, وكان له الأثر الكبير في تراجع مستوى العطاء لدى القضاة. وفي شق النيابة العامة فإنه بالرجوع للمادة 39 من قانون المسطرة الجنائية نجدها تنص على أن وكيل الملك يمارس سلطته على نوابه, والمادة 49 نصت على نفس الأمر بالنسبة للوكيل العام للملك في علاقته مع نواب الوكيل العام للملك, وهذه عبارة توحي بانعدام الاستقلال ووجود نوع من التسلط, لا يخدم مصلحة القضاء بمفهومه الواسع, بل فيه حتى ظلم واضح لنواب وكيل الملك ونواب الوكيل العام للملك, علما أن القاعدة القانونية تقول نائبه كهو, وقد يكون النائب في نفس درجة المسؤول وأقدميته, فكان بالأحرى أن تستعمل عبارة أكثر لباقة, ليستفاد منها أن المسؤولية هي مسؤولية تأطير لا مسؤولية تحكم، علما أنه لم تستعمل هذه العبارة في علاقة وكيل الملك مع الضابطة القضائية, والتي هي أقل رتبة في التدرج من نواب وكيل الملك, إذ نصت المادة 16 من قانون المسطرة الجنائية, يمارس وكيل الملك أعمال الشرطة القضائية بدائرة نفوذه, ولم تأت هنا عبارة, يمارس سلطته على الضابطة القضائية، بالرغم من أنه الرئيس القضائي المباشر لها. وبالرجوع للمادة 46 من نفس القانون نجدها تتحدث عن مسألة تعيض وخلافة وكيل الملك حالة تغيبه, والتي جاء فيها : إذا حدث لوكيل الملك مانع فيخلفه نائبه, وإذا تعدد النواب فيخلفه النائب المعين من قبله...... علما أن نفس المادة من قانون المسطرة الجنائية القديم, كانت تنص على أن يخلف وكيل الملك, النائب الأقدم من بين النواب, وفي هذا احترام للأقدمية, ولشعور النائب الأقدم, ولحسن سير المرفق, فمن أسباب نجاح النظام العسكري, هو احترام الجندي لمن هو أقدم منه رتبة أو مدة, وقد يقول البعض أنه يمكن أن يكون النائب الأحدث عهدا أكثر كفاءة ممن هو اقدم منه, ولكن هذا استثناء والاستثناء لا يقاس عليه, لأن القضاء صناعة تكتسب عبر الزمن والتجربة, فمن سبقك بيوم سبقك بتجربة. وإذا كان وزير العدل هو رئيس النيابة العامة, بمقتضى القانون فإنه مع ذلك, وفي إطار تطبيق السياسة الجنائية, التي عليه إيصالها لكل أعضاء النيابة العامة, في إطار سلطته الرئاسية, جاءت المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية بعبارة, تنم عن دمقراطية واستقلال نسبي للقضاء, إذ نصت على ما يلي: يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية, ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها,...... , فرغم أن الخطاب موجه من رئيس أعلى فلا وجود لعبارات ممارسة السلطة على أي مرؤوس, كما نجد المادة 49 من نفس القانون, تنص على ما يلي: يتولى الوكيل العام للملك السهر على تطبيق القانون الجنائي في مجموع دائرة نفوذ محكمة الاستئناف، يمارس سلطته على جميع قضاة النيابة العامة التابعين لدائرة نفوذه, وكذا على ضباط وأعوان الشرطة القضائية وعلى الموظفين القائمين بمهام الشرطة القضائية استنادا إلى المادة 17 أعلاه........, فإذا أوكل إليه المشرع السهر على تطبيق القانون, فسيطبقه بطبيعة الحال في قالب السياسة الجنائية التي بلغت إليه من طرف وزير العدل, حيث سيمزج في عمله هنا بين تعليمات رئاسية ? وزير العدل - وتعليمات قانونية ? القانون الجنائي والمسطرة الجنائية -, بين مكافحة الجريمة طبقا للقانون ومكافحة الجريمة طبقا للتوجه الحكومي. وهنا سأفتح قوسين حول السياسة الجنائية ومعناها, فإذا كانت السياسة هي اقتراح طريقة عمل لمعالجة ظاهرة معينة, فهي بالتالي مشروع لكل استراتيجية, والاستراتيجية هي في حد ذاتها تشريع متسلسل, فالسياسة إذن هي مجموع أفكار لشخص أو عدة أشخاص أو هيئة أو حزب, يراد تطبيقها في إطار استراتيجية محددة مسبقا في زمانها ومكانها للوصول إلى هدف أو أهداف معينة, ورغم اختلاف الفقهاء ورجال القانون حول مفهوم السياسة الجنائية, وذلك لإعطاء كل واحد منهم مفهوما لها من خلال موقعه أو منصبه أو تصوره للمسألة, إلا أن تعريفها الشمولي والجامع يبقى هو التالي: السياسة الجنائية حقل علمي ومعرفي تدرس وتراقب فيه الآليات المعتمدة في مجتمع من المجتمعات لمواجهة الظاهرة الإجرامية بمكونيها الجريمة والانحراف. وبالرجوع للتشريع المغربي لا نجد للسياسة الجنائية مفهوما في سياقه التاريخي, اللهم ما نصت عليه المادة 51 من قانون المسطرة الجنائية التي جاء فيها : يشرف وزير العدل على تنفيذ السياسة الجنائية, ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تنفيذها,......... فهي بهذا من صميم العمل الحكومي الواجب إعداده مسبقا لتنفيذه في إطار مخطط, إذ تلتقي السياسات الجنائية لكل الدول حول هدف واحد، وهو مكافحة الجريمة وتقويم الانحراف, فإذا كانت السلط الثلاث للدولة ? التشريعية التنفيذية والقضائية - تنكب على الحد من الجريمة والوقاية منها وزجر مرتكبيها، فإن تقويم الانحراف يدخل ضمن مهام المجتمع المدني، الذي عليه الانكباب على دراسة الظاهرة ومحاولة وجود حلول لها مستمدة من ثوابته وأخلاقياته وأعرافه, مادام أن هذا الانحراف لم يصل لدرجة التجريم, فالمقاربة هنا إذن تلتقي في الغاية وتختلف في الوسيلة وطرق العلاج, فكل الأنظمة تسعى لإقرار العدل والمساواة بين كل مكونات المجتمع، وتنزيل قوانين ومبادئ لخلق روح تعايش وانصهار بين المواطنين, ساعية في ذات الوقت إلى نبد التنافر والاختلاف الهدام الذي يكرس التطرف في طرق التفكير والتصرف، ومن خلال هذا المفهوم, فإن السياسة الجنائية يجب أن تؤخذ وتستقى من الأسفل, وترفع للأعلى إلى السلطات الوصية على تسيير الشأن العام, لأن السياسة الجنائية هي تصور لوجود حلول لظاهرة الإجرام في بلد معين, فكل فعل يحدث اضطرابا اجتماعيا لابد أن يكون موضوع تجريم، ولا يمكن أن يكون موضوع اضطراب, إلا إذا كان يمس في ظاهره تقاليد وعادات وثوابت مجتمع معين, فهذا الاضطراب يبدأ أولا على أرض الواقع, في الأحياء والأزقة والتجمعات السكنية, إذ يستشعر في أرضية الهرم لا في قمته, فكان بالأحرى أن يرفعه وكيل الملك أو الوكيل العام للملك, من خلال المحاضر اليومية التي يستقبلها إلى الجهات العليا, ناصحا إياها بما يجب اعتماده للقضاء على الجريمة, وهذا ما اعتمده وزير العدل في كتابه الصادر بتاريخ 1يونيو2010 والموجه للوكلاء العامين للملك ولوكلاء الملك, طالبا منهم توحيد الرؤى في شأن بعض المتابعات لضمان وحدة الاجتهاد تفعيلا لسياسة جنائية متناسقة وفعالة. وهذه المبادرة الاستباقية الصادرة عن مسؤولي النيابة العامة تجاه الجهة المختصة, هي أحسن وأكثر نجاعة من انتظار توجه وسياسة تبلغ إليهم من طرف وزير العدل, الذي ينقلها بدوره مباشرة عن الحكومة, فتكون لها رائحة ولون سياسيين يخدمان بشكل أو آخر توجه الحزب الحاكم ومبادئه التي يقوم عليها, قبل أن يخدم مكافحة الجريمة والقضاء عليها, فلغة الأرقام بما فيها الرقم الأسود هي مجال اشتغال النيابة العامة, فهي ميزان حرارة الجريمة وصمام أمان محاربتها, ففي كل دائرة قضائية يمكن لكل مسؤول قضائي مقتدر, أن يحيط في شكل تقرير مفصل أو مداخلة موجزة, بكل جوانب الجريمة وأنواعها وأسباب ارتكابها في دائرة نفوذه, مبديا في نفس الوقت مقترحات فعالة, للقضاء على هذه الظاهرة الإجرامية أو هذا الانحراف الذي لم يرق بعد لدرجة التجريم, ولكن هل كل المسؤولين القضائيين بالكفاءة والامتهانية المقتدرة, لإعطاء هذا التصور وهذه الحلول الناجعة, ليرتقي القضاء من مهمة المعالجة إلى مهمة الوقاية الاستباقية؟ هل القضاء يتمتع بالاستقلالية الكاملة والحقيقية؟ ليتمكن من التحرك والمبادرة والعمل الناجع بشكل يجعل رقيبه الوحيد هو, ضميره المهني وأخلاقياته المتشبعة من روح عقيدته, ووطنيته المستقاة من أرض بلده, ووظيفته الممتدة من تفويض ملكه, وسلطته التي هي عنوان الدمقراطية, لكن الواقع وللأسف يبدي معالم تبعية ضاربة في العمق, يستشعرها القاضي منذ انخراطه بالسلك القضائي, فبالرجوع للنظام الأساسي لرجال القضاء الصادر بتاريخ 11/ 11/1974 نجده ينص في الفصل السادس على أن الملحقين القضائيين يعينون بقرار لوزير العدل, ويعفون بقرار لوزير العدل وتصدر في حقهم عقوبات من طرف لجنة يرأسها وزير العدل طبقا للفصل السابع والعاشر, وينص الفصل الخامس عشر, على أن القاضي لا يمكن له أن يذكر صفته القضائية في أي مؤلف أدبي أو علمي أو فني إلا بإذن لوزير العدل, ويحدد بنص تنظيمي صادر عن الوزير الأول الحد الأدنى للأموال الواجب التصريح بها طبقا للفصل السادس عشر, والذي لم يصدر إلا بتاريخ 11/2/2010, وتفتحص لجنة يرأسها وزير العدل تطور التصريح بالممتلكات, كما يكلف وزير العدل بتتبع ثروة القضاة وترفع إليه تقارير المفتشين بهذا الشأن طبقا للفصل السابع عشر, وطبقا للفصل الواحد والعشرون يرخص وزير العدل استثناء للقاضي بالإقامة خارج الدائرة القضائية, وطبقا للفصل 23 فهو من يهيئ ويحصر لائحة الأهلية, كما يرقى القضاة العاملين بوزارة العدل باقتراح منه طبقا للفصل 26, وطبقا للفصل 30 يحق لوزير العدل وحده الحق في تجزيئ الرخصة الإدارية للقاضي من عدمها, وإذا استفاد القاضي من رخصة مرضية يحق لوزير العدل إجراء كل مراقبة ضرورية طبقا للفصل 32, وطبقا للفصل 43 ترفع نشرات القضاة الملحقين لوزير العدل, وطبقا للفصل 56 يوضع قضاة النيابة العامة تحث سلطة وزير العدل ومراقبة وتسيير رؤسائهم الأعليين, يتم نقلهم بظهير باقتراح من وزير العدل, وطبقا للفصل 57 يمكن له أن ينتدب بقرار عند الحاجة قضاة لملء فراغ في قضاء الحكم التحقيق أو النيابة العامة, وطبقا للفصل 60 تصدر العقوبات من الدرجة الأولى بقرار لوزير العدل بعد استشارة المجلس الأعلى, وطبقا للفصل 61 ينهي وزير العدل للمجلس الأعلى الأفعال المنسوبة للقاضي ويعين له مقررا, وطبقا للفصل 62 يوقف القاضي عن مزاولة مهامه بقرار لوزير العدل إذا توبع جنائيا أو ارتكب خطأ كبيرا, وطبقا للفصل 70 يمارس مهام كتابة المجلس قاض يعين بظهير باقتراح من وزير العدل, وإذا عاقه مانع ناب عنه قاض من الوزارة باقتراح من وزير العدل كذلك. فمن هنا يبدأ هذا القاضي مساره المهني وهو يرى في وزير العدل الجهة المتحكمة في مستقبله, من بداية مشواره المهني إلى حين تقاعده أو عزله أو وفاته, علما أنه قاض وكان من الأجدر أن يكون مصيره مرتبط بالسلطة القضائية لا بالسلطة التنفيذية. فأي استقلال نريد للقضاء اليوم؟ هل الاستقلال المادي - أم المعنوي - أم الوظيفي ? أم الاستقلال التام الذي يرقى به لما هو أحدث لأجله؟