قبل سنوات، داهمتني مارغريت في منعرج بكلية بنمسيك. لم تكن مسنة؛ كانت في مقتبل الماء، شفافة وزرقاء وغامضة، لم تكن طويلة.. كانت دقيقة ومرتبة بعناية. وكان الهائل ابراهيم زرقاني يفسح لنا الكلام، ويقودنا سرا إلى أرخبيل "هيروشيما". وكعادتي، ظللت أمامها صامتا، هم يأكلونها بنظراتهم، وأنا أتساقط فيها، هم ينعتونها ب "الكاتبة المتفردة الفرنسية"، وأنا أخبئها في سراويل الحرب وأهمس لها: "البحر في عينيك احتمال"، هم يبعثرون شيخوختها و"يفتخون" لها "الحشيش" و"البانجو" وأنا أسحبها معي إلى ما يقرب تسعين عاما من الفواصل والمحن، والمرح أيضا? وفي غفلة عن الأصدقاء الذين كانوا، استطعت أن أضرب لها موعدا في أقرب حديقة عمومية، نسميها نحن "الفيوم"، ويسمونها "البساتين". وحين أتت، لم أهب واقفا، بل أرخيت اللجام لثمانين كتابا كانوا ينامون تحت معطفي، وعقدت العزم على أن أجعلها تقترب من "المتنبي" و"أبي محجن الثقفي" وفيافي الصعاليك، وأن أبرهن لها على أنني استطعت الإمساك بملايين الخطاطيف التي عبرت طفولتي، وأنني أتهيأ للإمساك بها. ابتسمت في وجهي، ودعتني للجلوس بالقرب منها، ثم شرعت في قضم أظافرها وفك ضفائرها.. وبينما كانت منهمكة في إقناع نفسها بما قال لها العاشق الصيني ذات تنقيب عن شقيقها الذي أضاعته في قبعتها، كنت ألهث متفقدا أعضائي وحزامي وسلالتي. كانت مارغريت تتحول في خيالي إلى امرأة تضمر تحت ردائها مجاعة، وسريرا وخيالات عارية، وكان ابراهيم يضحك ويضحك ويُعلِّمني كيف ينبغي للسينما أن تكون، ولم نكن معا في السينما، كنا في الحديقة نتجاذب أطراف الفضيحة. قال لي إنها كانت تحمل في جسدها أنوثة شاهقة، وأنها كانت تدعو عشاقها الفاحشين إلى لعقها إن هم أرادوا أن يتخلدوا في فخذيها? قلت لنفسي: "لا يليق بك أن تنطلي عليك اللعبة? لا تجعلها تنجح في تبديد مقاومتك? ما هم أن تُشهر أمامك أعضاءها.. ما همَّ أن تُحوِّلك في إحدى رواياتها إلى عنين أو إلى شامبانزي، أو إلى حُمَّى باردة، أو إلى مصارع سومو بوزن الريشة?? ما هم أن تبخ عليك نَفَسا يتعتعه الحشيش. المهم أن ترحل، وأن تعترض على أن تحولك مارغريت إلى وجبة". حين أوشكتُ أن أذعن لها، مما كان سيجر علي لؤم الناقمين من طلبة بنمسيك، تأبطت مجددا كتبي الثمانين، وانهرقت بسرعة خاطفة إلى غرفتي بالطابق الثاني، وبقيت اللقطة الثابتة التي سددها ابراهيم إلى ثقافتي السينمائية تعوم في ذاكرتي: أمواج تتلاطم، وأطياف تعبر بلامبالاة، وصوت مارغريت كأنه يأتي من الفضاء، كان خافتا ومتميزا ويفيض بالتأمل. تسمعه فتنفصل عن محيطك وعقلك (هكذا خاطبنا إدريس).. أحيانا يأتيني بنغمات أسيوية، وأحيانا يأتيني طائريا كأنه بجعة تستحم، أو فقمة تنام تحت شمسية.. واستمعت إليها تقول: "شخصيات كتبي هم من صميم حياتي.. لم تغيِّرْني أصابعي، كنت أمسك بها بعناد، وأجعلها تستسلم لرغباتي.. في كل اقترافاتي، ظللت صامدة، في حاجز على الباسفيك، العاشق، هيروشيما حبيبتي، خيول كارتينا الصغيرة، مرض الموت، الحديقة.. لم أنهزم أمامها، ولم أنم أمام جموحها المتنامي.. ثم استقبلتني فاس الفرنسية، كان ابراهيم يبتسم كعادته، لأنه دعاني مجددا إلى الإقامة في الحديقة السرية لمارغريت. حملني إليها من المحطة، وجعلني أكتشف تجاعيدها وخربشاتها وتشابك أصابعها وخواتمها وقلاداتها ومناديلها وأصدقاءها القريبين، والبعيدين أيضا. لم أكن سعيدا، كنت طائرا من الدرجة الثالثة، وقضيت الليل أتفرج عليها في بطن راقصة شرقية. نمنا جسدا واحدا في فندق الجامعي؛ كنت ميتا من الظمإ، وكانت تدعوني لاقتفاء حرائقها. الموسيقى والرقص والتلاطم والألغام. كان جلسائي من المثقفين المغاربة يستعرضون عضلاتهم باللغة الفرنسية، بينما كنت أتفرس في وجه تلك البجعة الغامضة المشغولة بالأدب، رأيتها تتسلل إلى غرفتها نصف دائخة ونصف عارية.. وحين غافلت ابراهيم، سمعتها تقول لي: "لم اكن أبدا في المكان الذي ارتاح فيه، ولهذا كنت دائمة البحث عن مكان يعجبني لتوظيف الوقت فيه..". وسمعتهم يتهامسون عليها: " لا تتركوها تنصرف عن نبيذنا الأبيض، فهي دائمة الترحال، تغير أصدقاءها كما تغير جواربها.. أول بيت لمارغريت كانت قد اشترته أمها في مدينة سايغون. إلا أنها لم تبق فيه طويلا، اذ انتقلتا، هي وأمها، إلى نزل الآنسة C .. إلى أن وجدت بيتا صغيرا في مدينة تشولون وحوَّلته إلى وطن، ثم أقامت حدودا بين ما هو خارجي عنه وعنها وما هو داخلي.. ولكن بيتها الحقيقي كان في مدينة نوفل، وبعد ذلك انتقلت إلى تروفيل.. أما الميناء الاساسي الذي امضت فيه باقي حياتها ،فقد كان شارع سان بونوا". اقتفيت أثرها، كانت تقيم بالغرفة رقم 903، باب الغرفة موارب، لم أستأذن، دخلت ووجدتها تنتظرني، كانت تسجل فضولي حدثا حدثا. حتى تصرفاتها اليومية، مشاغباتها، علاقتها الحميمة تسجلها جسدا جسدا، ارتطاما بعد ارتطام. قالت لي إن أجمل شيء في جسدها هو نحرها الأبيض الناعم المداهم الصادم، وأنها في مراهقتها كانت تقف ساعات أمام المرآة تتأمله برقة وكبرياء (هذا نجده في أول روايتين لها: الفُحش والحياة الهادئة). قلت لها: -ستدخلين الجنة؟ أجابت: -لا تجعلني أضحك.. -لماذا؟ -لا أدري، أنا لا أومن بشيء. - ماذا هناك بعد الموت؟ - لاشي، فقط الأحياء يتذكرون ويبتسمون. - مَنْ سيتذكرك؟ -الاطفال والقراء الشباب فحسب. - ماذا تفعلين الان؟ - أكتب عملا مأساويا له علاقة بحياتي.. إنني اغرق فيه دون مقاومة. -ما عنوان كتابك المقبل؟ -كتاب التلاشي.. ثم أضافت: "أشعر بضياعي. إنني مثل ميتة، شيء مرعب هذا، لا أرغب في بذل أي جهد.. لا أفكر بأحد .. كل شيء انتهى.. حتى أنت.. إنه التلاشي.. إنه التلاشي..". لم أرث لحالها. تذكرت أنها لن تتلاشى، حتى بعدما ذرفتْ الحرائقَ من عينيها، حتى وهي تخبرني أنها ستقطع في اليوم الموالي آلاف الأميال بعيدا عن شارع سان بونوا، وتذكرت أنه من المحتمل جدا أن تتحول إلى أسطوانة أو فيديو كليب.. كل شيء محتمل مع هذه المرأة التي قهرت أصابعها قبل أن تموت.. هل ماتت فعلا، أم مازالت ترسل على أحلامي ضفائرها!؟