يتوق كل شاعر، في العمق، إلى أن يتحول إلى صانع توابيت ل»الاستعارات التي نحيا بها». وهذا معناه أنه يملك قلب «حانوتي» يدفن المتاح والمتبدي والمستهلك، ليتقاضى أجره من اللامتوقع والمدهش والغريب. إنه بمعنى من المعاني يبحث عن حياة أخرى للكلمات.. فالشاعر، إذن، لم يعد يخلق المعنى، بل يريد أن يصير هو المعنى، ولذلك نراه يجتهد في تنظيف شعره من الالتزام بقضايا الناس والتاريخ، ونراه يجتهد في تدبير صداقات غير ممكنة أحيانا بين الكلمات والأشياء والمعاني، حتى كأن لا شيء يشغله عدا الاستعارات غير المتوقعة.. السؤال المطروح هو: هل هناك حياة أخرى للشعر خارج ملاحقة اللامتوقع؟ طبعا، الشاعر العربي يكتب في لغة عريقة في تقاليد المجاز وتركيب معنى المعنى. لكن هذا النزوع المجازي يطرح إشكالا كبيرا، هو ما نسميه النزعة الاستعارية في التعبير الشعري، وهي نزعة ترسخ الفكر الثنائي (أن تقول شيئا وتريد آخر، أن تبدع صورة من طبقتين.. إلخ) وتلغي صيغا أخرى من الفكر الشعري الممكنة. إنه نزوع يقتل كل الصيغ البلاغية الممكنة لمرافقة الشعر، حتى صار رديفا للاستعارات والتشبيهات.. ومن خرج أو غرد خارج السرب، فلا بلاغة له، ولا خيال، ولا قدرة على التصوير. فهل هذا هو قدر الشعراء؟ أن يتزنروا بالاستعارات قبل الركض في أرض البلاغة الشعرية؟ أن لا يتقاسموا الحب والتبجيل مع أي احتمال آخر غير الاحتمالات التي تطرحها الاستعارة، وهي تتعرى أمامهم بدلال، وهي تقدم لهم ما لم يستطيعوا إليه سبيلا؟ أن يجعلوا منها الأنثى التي لا يمكن أن يخطئوا أي موعد معها؟ أن يحولوها- تزلفا-إلى وردة الشعر الحارقة؟ هل قدر الشعر أن يكون استعارة، والحال أن هناك شعرا رائعا وجميلا ومدهشا في ثقافات العالم المختلفة، لا استعارات فيه ولا تشبيهات؟ هناك إمكانات شعرية كثيرة لا تحتاج إلى ظلال استعارية، لا تحتاج إلى اقتفاء أثر الذين أسسوا بلاغتهم الخاصة، مثل هوميروس إلى ريتسوس والمتنبي والمعري وأبي تمام وكيتس وهولدرلين.. إلخ. فهؤلاء عاشوا الحياة وحولوها إلى استعارة، وليس العكس. لم ينطلقوا من الاستعارة، ولم يختفوا وراءها، ولم يحولوها إلى حائط يحجب المعنى عن إدراك نفسه، ولم يتعاملوا معها كخادمة جنس يضعونها في سرير الذوق العام. معظم شعرائنا يخافون من العراء. يخافون من أن يتشرب مسام أرواحهم وهج الشمس ولسعات البرد. يخافون من الريح والثلج والزمهرير. يخافون من العاصفة. يخافون من أبواق الحرب. يخافون من المزنجرات والمقنبلات والخنادق. يخافون من الأوبئة والمجاعات. فتراهم يلبسون من التشبيهات والاستعارات ما تنوء به «شاحنة رمورك»، ظنا منهم أنهم محصنون ضد تعاقب الفصول والحروب. معظم شعرائنا يتجاهلون أن «الأصولية الشعرية» تذبح إخلاف التوقع الذي يتوقون إليه من الوريد إلى الوريد، ومعظمهم يعتقد أن الإتقان البلاغي لا يقع خارج ربط علاقة ناجحة بين «غيمة وحجر» أو بين «نسر وأفعى» أو بين الفردوس والجحيم، بينما ماء الشعر يقع في مكان آخر.. ربما في المرآة التي يرى فيها وجهه، أو في الغرفة التي قضى فيها عمره، أو في المستنقع الذي سبح فيه صغيرا وأجهز على كل ضفادعه. الشعر لم يكن أبدا بعيدا وما ينبغي له. وما يصنع الشعر هو الاقتراب، وليس الابتعاد؛ ما يصنعه هو الدم وليس الدخان. الواقع وليس الافتراض. السكين وليس التفاحة. الفيروسات وليست الأمصال. ثاني أوكسيد الكاربون وليس الأوكسجين. السفح وليس القمة. الدوار وليس الاتزان. فأن تقترب من حياتك وخيالاتك وأفراحك وأحزانك وخيباتك، وأن تصوغها في قالب شعري مدهش خارج الإغواء الذي تطرحه الاستعارة، هو ما بإمكانه أن يمنح للشعر حياة أخرى.. وأخرى.. وأخرى. أما إذا مات إحساس الشاعر بفخاخ اللغة، وعجز عن اختراع حيله الخاصة لتفادي تسمية الأشياء بأسمائها، فلن يتمكن على الإطلاق من إهداء حياة جديدة لشعره.. ولن يتمكن الشعر من السير سوى بعكازة واحدة، مهددة دائما بالانكسار. فالمطلوب الآن هو شاعر يتزود من محبرة أخرى غير نهر الاستعارة. شاعر غير منشغل بملاحقة درر القاموس. المطلوب هو أن يتحرر الشاعر (الذي ينعت نفسه بالحداثي المتفرد) من البلاغة القديمة، وأن يبحث عن صداقة أخرى مع الكلمات والأشياء، غير تلك التي تتنكر لحياته وخيالاته، غير تلك التي تخرج رأسها من التاريخ، ومن المكتبة. نحن فعلا بحاجة إلى شاعر ينصهر مع الكلمات التي تعلمها في جسد واحد. شاعر لا يصطاد الكلمات، بل يقتطعها من جسده ليطعم العالم بالجمال اللامتوقع.