بحلول 25 يناير 2015 تكون قد مرت ست وخمسون سنة على انتفاضة 25 يناير البذرة الأولى لتأسيس «الاتحاد الوطني للقوات الشعبية» والذي قال عنه الزعيم الصيني «ماوتسي تونغ» إنه «تنظيم ينبغي أن يقتدى به في بلدان العالم الثالث»، لم تصدر هذه القولة عن زعيم مثل ماوتسي تونغ دون رؤية، فقد رأى في الاتحاد عدة ميزات متكافئة بما فيها قوات شعبية من مختلف الفئات الحية، قيادة محنكة من خيرة رموز الحركة الوطنية وأكثرها انحيازا إلى قضايا الجماهير الشعبية. وبانتفاضة 25 يناير 1959 عادت الروح للحركة الوطنية، وذلك بالتفاف الجماهير الشعبية حولها بمحترفيها وصغار تجارها ومتعلميها وعاطليها، وبورجوازيتها الصغرى والوسطى، ونقابييها وحشود عمالها وفقراء فلاحيها وهيئات طلابها، ولم تمض إلا شهور حتى توجت هذه الانتفاضة بالتفاف فعاليات وطنية من مختلف التوجهات فيعلن يوم 6 شتنبر 1959 عن ميلاد تنظيم جديد قوي، جديد بخطابه السياسي، وشعاراته الوطنية، قوي بمبادئه الواضحة وبقواته الحية المنصهرة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهو اتحاد ضم في عضويته منذ البداية فعاليات من أحزاب عدة، الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، وحزب الشورى والاستقلال، والحركة الشعبية والأحرار المستقلين، وهي فعاليات كانت مختلفة بل ومتنافرة قبل التقائها في رحاب الاتحاد الوطني الذي تعزز بانضمام هيئات نقابية مثل الاتحاد المغربي للشغل والاتحاد الوطني لطلبة المغرب، ورغم انضمام هذه القوات إلى الاتحاد فإنها بقيت كما كانت محتفظة إما بيمينيتها أو وسطيتها أو بيساريتها، ولكن هذه النعوت لم تمنع من «الاتحاد» أو «التحالف» عندما «لا يوجد أي تناقض بين مصالح العناصر التي تؤلف الشعب المغربي»، وعندما يقتضي ذلك العمل على «إحباط المطامع الاستعمارية وتحقيق الأهداف الوطنية»، وعندما تدعو الضرورة أيضا إلى «نبذ الحزبية التي لم تعد صالحة للقيام بتربية الجماهير وتجنيدها لمهام البناء، والتي صارت أداة للتفرقة، ووسيلة لاكتساب مراكز شخصية أو الحفاظ عليها». وحينما يكون الأمر متعلقا بالدفاع عن الاستقلال ووحدة التراب الوطني، وجلاء القوات الأجنبية، وتصفية مخلفات الاستعمار ومواصلة سياسة التحرر الاقتصادي وتحقيق الإصلاح الزراعي، وانتهاج سياسة التصنيع وتأميم المرافق الحيوية والإسراع بتحقيق إصلاحات جوهرية وتكوين إطارات وفقا لمقتضيات بناء الاستقلال، واتباع سياسة منطقية في التعليم، وإقامة ديموقراطية واقعية تضمن لجميع المواطنين تسيير شؤونهم بأنفسهم سواء على الصعيد الوطني أو المحلي في دائرة ملكية دستورية تحت رعاية صاحب الجلالة الملك محمد الخامس، ومساعدة الشعب الجزائري المكافح من أجل التحرير وتحقيق الاستقلال ووحدة المغرب العربي وتطبيق سياسة خارجية مبنية على مبدأ عدم التبعية... هذه هي الأهداف التي تضمنها ميثاق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وهي أهداف عبرت عن مطامح كل الشرائح الوطنية بصرف النظر عن تحفظ بعضها من شعارات مثل «لا حزبية بعد اليوم، والإصلاح الزراعي، وتأميم المرافق الحيوية» ولكن الجميع وافق عليها باعتبارها «برنامجا ضخما قمينا بتحقيق الرفاهية والازدهار إذا تحقق». إلا أن الذي ظل مثار النقاش ولربما مكمن الاختلالات التي رافقت مسيرة الحركة الاتحادية ولازالت إلى اليوم يرجع إلى عدم وضوح هويته، وقد ترتب عن هذا عدم تبنيه المذهب الاجتماعي الاقتصادي الذي ينسجم مع «تقدمية مناضليه ومكوناته الأساسية الطبقة العاملة وصغار التجار والفلاحين وفئات الطلبة والمثقفين المتنورين وشرائح المعوزين والعاطلين. وهذا ما طرحه بعض المناضلين وناقشوه أثناء المؤتمر واستمروا في طرحه وبحدة أحيانا، إذ كانوا يرون أنه من الضروري إنشاء حزب مذهبي طليعي ذي أهداف تقدمية لصالح الطبقة الشعبية الكادحة. وكان المفهوم من الحزب المذهبي في رأيهم هو ما أوضحه المرحوم محمد عابد الجابري في إحدى مقالاته المنشورة في جريدة التحرير يوم 13 سبتمبر 1959، والتي أعاد نشرها في العدد الأول من سلسلة «مواقف» ص 107، ومما جاء فيها: «وهنا لابد من الإشارة إلى سؤال كثيرا ما يتردد على لسان الشباب والمثقفين والطلبة خاصة، وهذا السؤال الذي يطرح دائما هو: ما هو «المذهب» من بين المذاهب الاجتماعية الاقتصادية الذي ينوي تطبيقه دعاة التقدمية في المغرب، وبالخصوص قادة 25 يناير بالأمس والاتحاد الوطني اليوم؟ وعن هذا أجاب «أن الذين يطرحون هذا السؤال دائما يريدون أن يكون الجواب عنه كلمة واحدة ولعلها كلمة «الاشتراكية» وفي نظري إننا اليوم قد تجاوزنا مرحلة طرح مثل هذه الشعارات، وليس من صالحنا إطلاقا الخوض في غمارها لأن مثل هذا العمل سيصرفنا عن الأهداف الحقيقية المحددة أعلاه (أي الواردة في ميثاق الاتحاد) والتي ذكرت في فقرة سابقة. ويضيف الجابري «ويفتح بابا واسعا للجدل والنقاش مما قد ينشأ عنه اختلاف في وجهات النظر، اختلاف في فهم كلمة اشتراكية...»، «إن الوقت ليس وقت نظريات ولا صراعات في نظريات إن الوقت اليوم بالنسبة للمغرب وقت العمل الجدي السريع المنظم، وأمام الاتحاد الوطني ميدان واسع للعمل وميدان فسيح للبناء، وعليه أن يبدأ منذ اليوم في العمل والبناء...» أما عن شعار «لا حزبية بعد اليوم» والذي كان الشعار البارز بين الشعارات الأخرى فقد أثير بشأنه نقاش هو الآخر، حيث خصصت لتبريره فقرات من الميثاق، إذ يعلن أنه لا يوجد أي تناقض بين مصالح العناصر التي تؤلف الشعب المغربي وأن الاتحاد وحده هو الكفيل بإحباط الحركة الاتحادية للقوات الشعبية في سنوات الصمود وسط الإعصار المطامع الاستعمارية وتحقيق الأهداف الوطنية، وأن الأحزاب السياسية في شكلها الراهن أصيبت بالتعفن ولم تعد صالحة للقيام بتربية الجماهير وتجنيدها لمهام البناء، بل صارت أداة للتفرقة ووسيلة لاكتساب مراكز شخصية أو الاحتفاظ عليها ومما زاد في الطين بلة، كما قيل، أن ثلاث حكومات تعاقبت على إدارة الشأن العام في مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات بمعدل سنة لكل حكومة، ولم يتحقق على يدها ما كان مأمولا أن يتحقق لمصلحة الجماهير الكادحة وكل ما شاع في ظلها سيادة المحسوبية والتطاحن على المناصب، وعودة النزعة القبلية، مما أدى إلى قلاقل وحركات تمرد كادت تفضي بالبلاد إلى متاهات لا يدري إلا الله عواقبها، وكل هذا بسبب غلبة النعرة الحزبية على الروح الوطنية. وكان من نتائج هذا المآل بروز ظاهرة العزوف عن الحزبية حين تيقن الشعب أنه لا أمل إطلاقا لا في حزب الاستقلال ولا في غيره من الأحزاب. وعلى هذا الأساس فكر رواد الحركة الاتحادية في تصحيح مسار العمل الحزبي والسياسي عامة، وأنبروا يدعون لإجراء إصلاحات داخل الحزب، ولكن دعوتهم لم تجد، فاضطروا للانشقاق من الحزب وتأسيس تنظيم لم تغب عن اسمه كلمة «حزب» ولا «استقلال» تجنبا لإثارة حساسيات ترسخت عبر سنوات من التعلق ب»حزب الاستقلال» الذي أدي اليمين للإخلاص «لله والوطن والملك وله»، وبقي اسم حزب الاستقلال مضافا إليه الجامعة المستقلة في كل فرع أعلن انفصاله عن حزب الاستقلال (في الفترة ما بين 25 و31 يناير 1959) وفي فاتح فبراير انعقد اجتماع في البيضاء حضره ممثلو الفروع الجاهزة الذين أعلنوا عن ميلاد «الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال» وبعد شهور من نفس السنة تغير الاسم فصار «الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال» وبعد فترة تغير الاسم فأصبح الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، وبالتدريج نجح الحزب الجديد في إقناع أتباعه لتقبل بعض المصطلحات وتداولها مثل «تقدمية» ونبذ الأفكار الرجعية والتخلي عن تقديس الزعامة والتحزب الأعمى. فمنذ تأسيس الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال، ومسؤولوه منكبون علاوة على الاستقطاب والتنظيم، على توضيح جوانب تتعلق بمبادئ الحزب الجديد وأهدافه، ويردون على الاتهامات والإشاعات التي كان خصومهم يروجونها بهدف النيل من الحزب وأهدافه، وتخويف المواطنين من أفكاره «الهدامة» و»ضديته للملكية» وللدين الإسلامي. وباستقراء أدبيات تلك الفترة وما قيل وما كتب بشأن مصطلحي التقدمية والرجعية، يكتشف مدى الجهد الفكري الذي بذله رواد انتفاضة 25 يناير من أجل إزاحة ما كان يشوب المصطلحين من غموض وتضليل. فمنذ انتفاضة 25 يناير 1959، أخذ مصطلحا التقدمية والرجعية يتصدران الشعارات المرفوعة كسلاح لفظي اجتماعي سياسي فكري ثقافي يستعمل ضد أو لفائدة الحزبين الندين الذين استحوذا على الساحة الحزبية (حزب الاستقلال والجامعات المتحدة لحزب الاستقلال (المشتق من أضلاعه)) وظف الأول مصطلح تقدمية ضد غريمه الثاني باعتبارها كلمة دخيلة تعني التخلي عن التراث الوطني وعقائده واستبدال الأفكار الإلحادية والشيوعية بها، ويدعي أن كلمة الرجعية التي ينعت بها من طرف خصمه تعني المحافظة على القيم الدينية الوطنية، بينما روج الثاني كلمة رجعية كوصمة عار لأنها تعني الجمود ومعاداة التقدم. وأمام هذا التضليل والتشويه تصدت صحف الحزب الجديد للتوضيح والتفنيد عبر جريدتين هما «الطليعة» لسان حال نقابة الاتحاد المغربي للشغل و»التحرير» لسان الجامعات المتحدة قبل أن تصبح لسان الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ابتداء من 6 سبتمبر 1959. ومن بين ما صدر في هذا السياق مقال لمحمد الجابري نشرته جريدة التحرير يوم 6 أبريل 1959، يدور حول تعريف المفهومين الرئيسيين الموظفين للتعبير عن مضمون حركة 25 يناير وهما التقدمية والرجعية، وقد أعاد نشره في سلسلة مواقف رقم 1 صفحة 65 بعنوان «التقدمية والرجعية»، ولأهميته أولا وليطلع عليه من فاتته قراءته في المرجعين المذكورين ثانيا، يعاد التذكير به، وهو من النماذج التي تعكس جانبا من المعركة التي كان مناضلو الانتفاضة يخوضونها على المستوى الفكري والتنظيري حسب تعبير الجابري رحمه الله. جاء في تعليق الجابري على مفهومي التقدمية والرجعية ما يلي: «الناس اليوم في بلادي نوعان: نوع يؤمن بالفكرة ويعمل من أجلها ويتخذها معيارا يقيس به الصالح من الطالح، ونوع يؤمن بالشخص ويعمل من أجله، ويسلم مقاليد أموره إليه، إن أرضاه رضي عن نفسه وإن أسخطه عاد إلى نفسه باللوم والعتاب. وعندي أن الخط الذي يفصل بين هذين النوعين من الناس هو نفس الخط الذي يفصل بين ما يسمى بالرجعية وبالتقدمية، فالنوع الأول في نظري تقدمي أو على الأقل أقرب إلى التقدمية من الثاني، ذلك لأن تشبثه بالفكرة يقتضي أن يلتزم بها وأن يكون على درجة من النضج والوعي، ولأن إيمانه بها يستلزم أن يعمل من أجل تحقيقها وأن تكون له إرادة قوية وعزيمة صادقة، ولأن جعله إياها مقياسا يقيس به الأشياء يعني أن يتجرد من الأغراض والأهواء مما يدل على أنه مالك زمام نفسه مسيطر على ميولاته، أما النوع الثاني فهو في نظري رجعي، ذلك لأن إيمانه ب»الشخص» إيمانا أعمى يعني أنه هو فاقد لشخصيته، ولأن خدمته لذلك الشخص وتفانيه في إرضائه والدفاع عنه يعني أنه عبد ذلول لا يحس لكيانه وجودا ولا لوجوده مغزى، ثم لأن تسليم مقاليد أموره إليه وجعل تصرفه مقياسا يقيس به الأمور يعني أنه مازال يعيش في العصور الأولى من تاريخ البشرية يوم كان زعيم القبيلة ورئيس الأسرة هو المالك لأمر القبيلة أو الأسرة المتصرف فيها، يوم كانت البشرية جماعات تسير على غير هدى تخضع لقائدها ضالا مضلا». وينهي الجابري تعليقه بالتنبيه إلى أنه «لا يدعو إلى فقد الثقة ببعضنا بعضا، وإنما يريد أن يكون للمرء فكر حر ومعايير سليمة بهما يقيس صلاحية أو فساد هذا المبدإ أو ذاك، هذا الشخص أو ذاك، ويريد ألا يتصرف أحد تصرف الصم العمي البكم الذين لا يبصرون تماما كما يفعل بعض الناس ولايزالون...» ثمانية أشهر هي المدة الزمنية التي أمضاها نشطاء الجامعات المتحدة في إقناع الناس بأن ما يدعون إليه اليوم هو من صميم مطالب الحركة الوطنية وأن الاستقلال ليس غاية في حد ذاته، وإنما وسيلة لتحقيق هذه المطالب والتي تعتبر أهداف الجامعة المتحدة من أولوياتها... قضوا هذه المدة وهي قصيرة في عمر الأحزاب في إنجاز مهمتين صعبتين، الأولى «إعادة الروح» لمجالات فقدت مصداقيتها وفي مقدمتها العمل السياسي، ولقيم معنوية كان لها الأثر الكبير في الإقبال على انخراط أفراد الشعب في صفوف الحركة الوطنية ومنها حب الوطن والإخلاص والتضحية والاستقامة ونكران الذات، وهي قيم صارت مثار استهزاء وسخرية ومن علامات التخلف. أما المهمة الثانية فهي إحياء التعبئة الشعبية التي عرفها المغرب في السنوات الأولى من عهد الاستقلال، طريق الوحدة، التطوع في العمل بأوراش الشباب، وتفعيل جمعيات المجتمع المدني للمساهمة في عملية التنمية خاصة وقد تهيأت الظروف لذلك حيث سبق أن قام جلالة الملك محمد الخامس رحمة الله عليه بمبادرة جريئة في المجال الحكومي. عرف المغرب تجارب لثلاث حكومات شاركت فيها شخصيات من مختلف الأحزاب ولكنها كانت عاجزة عن تحقيق ما كان يطمح إليه المغرب بما فيها الحكومة التي عين على رأسها الأمين العام لحزب الاستقلال وهي محسوبة من حزبه على أية حال، فكان من المفروض على هذه الحكومة أن تطبق برنامج الحزب الذي ينتمي إليه رئيسها وأغلب الوزراء ... وعوض ذلك شهدت البلاد في عهدها شتى مظاهر «الفساد» بجميع أنواعه وفي الإدارة خاصة، حيث عمد «الوزراء إلى توظيف من يثقون فيه ويخدم مصالحهم، مما سبب في إنشاء «هيكل» إداري متسلسل مبني على المحسوبية والزبونية والقرابة» ففقدت ثقة الشعب، وكثرت الانتقادات وحتى من طرف المنخرطين في الحزب والذين كانوا أشد انتقادا من غيرهم، بل وأن وزير الاقتصاد فيها وهو عبد الرحيم بوعبيد لم يجد أمام هذه الوضعية إلا تقديم استقالته التي أحدثت أزمة حكومية اضطر الرئيس لتقديم استقالة حكومته. و بعدها مباشرة عين جلالة الملك محمد الخامس مولاي عبد الله إبراهيم خلفا له، ولعل إسناد رئاسة الحكومة لهذه الشخصية لم يكن بدون خلفيات، فالمغرب كان يجتاز وضعا مفعما بالاختلالات يهمنا منها ما يرجع للعلاقة بين حزب الاستقلال والقصر، فمن جهة عمد الحزب منذ اللحظات الأولى للاستقلال إلى محاولة تطويق القصر عن طريق الهيمنة على دواليب الدولة، وبالمقابل نهج القصر سياسة إضعاف نفوذ الحزب وحصر مده الشعبي مستغلا ما ارتكبه مسؤولوه من أخطاء تحول بسببها إلى حزب تحكمت في سياسته الزبونية والمحسوبية، والميل إلى خدمة الطبقة البورجوازية التي كانت في طور التبلور عبر عناصر من قدماء الوطنيين ممن كانوا مؤهلين للتموقع في المفاصل الحساسة من أجهزة الدولة بسبب انتمائهم لعائلات ميسورة، والتي كانت منذ انخراطها في الحركة الوطنية تتهيأ لملء «الفراغ» الذي سيقع بعد الاستقلال في المرافق الحساسة للدولة، ولاسيما التجارية والصناعية والمصرفية، وجهاز الأمن بشقيه العسكري والمدني، لكن «السحر قد ينقلب أحيانا على الساحر» وهذا ما وقع لحزب الاستقلال عندما اهتم بترجيح مصالح فئته البورجوازية، على حساب مصالح «قواته الشعبية» فاستغل هذا لاتهامه بالانحياز لفئة بورجوازية معينة، وتأليب المواطنين عليه، والمس بسمعة رموزه، ونسبة بعض الأحداث إليهم عن حق أو باطل، كما أثيرت فتن ضده، فكانت النتيجة فقدان الحزب لإشعاعه ومصداقيته فانطلقت الألسنة وغالبيتها مغرضة تلوك شعارات أخفها «من حزب الاستقلال» إلى حزب المحسوبية والاستغلال، وستزداد سمعة الحزب سوءا عندما أسندت رئاسة الحكومة إلى أمينه العام الحاج أحمد بلافرج كما سبق ذكره، وأمام هذه الوضعية سارع من كانوا ينادون بإجراء إصلاحات داخل الحزب إلى الصدع بموقفهم عبر محاضرات ومقالات، والدعوة إلى عقد المؤتمر الوطني. تشكلت لتحضيره لجنة لم تتوفق في عقده. ولقد تخلل فترة عمل اللجنة مناقشات واقتراحات أفرزت فريقين أحدهما محافظ والآخر مجدد، وعن هذا انبثق تياران الأول يقترح القيام بإصلاحات داخل الحزب ويتزعمه كل من المهدي بنبركة وبوعبيد، والآخر يفضل الانفصال، وعلى رأسه المحجوب بن الصديق ومحمد البصري بدعم من مولاي عبد الله ابراهيم. لم ينعقد المؤتمر في موعده المتفق عليه وهو 11 يناير 1959 فرجحت كفة الانفصال وانتفضت فروع الحزب انطلاقا من 25 يناير 1959 معلنة عن تأسيس جامعة مستقلة في كل عمالة لتعلن عن اتحاد هذه الفروع تحت اسم «الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال» وبعد شهرين تقريبا كانت غالبية فروع الحزب قد انتفضت، فانعقد جمع عام بمدينة طنجة حضرته كل فروع الجامعات المستقلة لتعلن عن تشكيل «هيئة» وطنية باسم «الجامعات المتحدة لحزب الاستقلال». حدثان مهمان عرفتهما البلاد في ظرف شهرين: الأول استقالة حكومة الحاج بلافريج الأمين العام لحزب الاستقلال المعروف بنزعته المحافظة وتوجهه الليبيرالي، وتعيين مولاي عبد الله ابراهيم خلفا له، وهو المحسوب إذاك على الجناح «اليساري التقدمي لحزب الاستقلال» والذي كان من أشد المنتقدين لحكومة سلفه بلافريج، والثاني تأسيس حزب لم يخف منذ البداية تأييده للحكومة الجديدة. إنهما حدثان لم يدرك خلفياتهما ولا أبعادهما إذاك إلا نخبة، وهي قليلة جدا ممن لها صلة وثيقة بموقع القرار. (القصر وقيادة الحزب) مع اختلاف في الهدف الحقيقي لكلا الطرفين... وما كنا ندركه - نحن مجموعة من شباب الحزب - أن الملك محمد الخامس الذي ظللنا متشبثين به إلى أن توفاه الله، اختار رجلا كنا أيضا نقدره ونلمس فيه ميلا إلى الكادحين. وهل كان هناك في تلك الفترة من أفراد الشعب من لا يثق بهذا الملك ولا يؤيد قراراته؟ وعلى كل حال فالردود الأولى على تعيين حكومة عبد الله ابراهيم جاءت مختلفة: فهناك معارضة شديدة، انصبت على شخصية الرئيس المعين، إذ ما إن تم تنصيبه حتى انهالت عليه صحف الحزب وأبواقه بعكس التقدير الذي كان يحظى به وهو يناضل بوقته وفكره «أيام زمان» متحاشية المس بالذي عينه لأنه جانب ذي حساسية، هذا من جهة ومن جهة أخرى تأييد مطلق لهذا التعيين باعتباره منقذا للبلاد مما آلت إليه من تخبط وتدهور في جميع المرافق، فقد رأى فيه المؤيدون منذ اليوم الأول لتنصيب الحكومة مبادرة مباركة جديرة بالثقة وعودة الأمل إلى الشعب المغربي، ثقة وأمل اعتبرهما البعض الأساس الذي ارتكز عليه تأليف هذه الحكومة لأن المبادرة جاءت بعد تحرك حزبي قاده المهدي بنبركة عبر سلسلة من المحاضرات انتقد فيها حكومة بلافريج ودعا إلى إدخال إصلاحات داخلية في الحزب أشهرها محاضرتان إحداهما تحت عنوان «مسؤوليتنا» والثانية «نحو بناء مجتمع جديد» و بموازاة محاضرات المهدي بنبركة شن العمال إضرابات في عدد من القطاعات، كما ساهمت المركزية النقابية للاتحاد المغربي للشغل UMT وهي النقابة الوحيدة، في انتقاد الحزب الذي كانت إلى عهد قريب محسوبة عليه، وهذا ما نجد المرحوم قاسم الزهيري يذكر به في مؤلفه «أزمة بعد أخرى» ص 93، حين أشار إلى أن «اللجنة التحضيرية فوجئت بحملة موجهة على أعمدة جريدة «الطليعة» ضد اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال إما في صورة برقيات هيئت وطبعت بالبيضاء، ثم وزعت على مختلف الأشخاص وفروع حزب الاستقلال، وإما في صورة مقالات تكتسي صبغة التحطيم والهدم» ونسي قاسم الزهيري أن يذكرنا بعمود «مزود هداوة» الذي كان يعده عبد الله رشد بتوقيع «ولد جامع الفنا» وإلى جانب هذا شهدت المنظمة الطلابية أنشطة وتحركات فسرت بأنها من وحي الجناح المعارض لحكومة بلافرج، وما زاد في تأجيج السخط على حكومة بلافريج ومن ثم على حزبه ما شهدته بعض الأقاليم من «تمرد» وتحرش ضد مفتشيات الحزب ونشطائه. وقد استغلت بعض الجهات هذه التصرفات لتشن حملة مشينة على حزب الاستقلال وعلى «الحزبية» بصفة عامة وحملت «الحزبية» مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع بالبلاد... وفي ظل هذا المناخ السياسي لم يكن أحد يدري ما كان يجري وراء الكواليس للخروج من هذه الأزمة إلا القصر وشخصيات ممن اتفق معهم على تأليف الحكومة الجديدة وعلى رأسهم رئيسها. وبغض النظر عن علم الرأي العام أو جهله بما جرى في الكواليس، فالذي كان يعنيه بالدرجة الأولى هو ما يقرره الملك محمد الخامس باعتباره الحكم الذي يلجأ إليه عند الأزمات. فبعد تقديم بلافريج لاستقالة حكومته أخذت الشائعات والتكهنات والتوقعات تنتشر عن تشكيل الحكومة المقبلة، هل ستكون حزبية منسجمة، أو حزبية ائتلافية، أم ستكون «مستقلة» بقطع النظر عن انتماءات أعضائها... في الوقت الذي كانت هذه الاحتمالات تروج كان هناك توجهان في القصر الملكي، توجه الملك محمد الخامس وديوانه، وتوجه ولي العهد وحاشيته. والذي اتضح فيما بعد أن المرحوم علال الفاسي كان مرشحا لرئاسة الحكومة لكن ميزان القوى لم يكن لصالحه، لأنه كان معدودا في صف الجناح المحافظ للحزب، والذي رأى مستشارو الملك محمد الخامس في تعيين علال الفاسي تكرارا لتجربة أمين عام حزبه الحاج أحمد بلافريج، وهذا ليس من شأنه إرضاء الرأي العام، وفي مقدمته الجناح اليساري لحزب الاستقلال الذي تتعاطف معه المنظمات الموازية للحزب كالنقابة واتحاد الطلاب وجمعية قدماء المقاومين وجيش التحرير علاوة على الفئات الشعبية غير المتحزبة وما أكثرها. كثير من الأحداث لا تنجلي غوامضها ولا تنكشف ملابساتها إلا بعد حين من الدهر يطول أو يقصر. ففي إحدى الزيارات التي اعتاد القيام بها أحد الأشخاص لمسؤول قيادي في الاتحاد، فوجد عنده جريدة التحرير، وكان من بين أعمدتها عمود مزدان بصورة عبد الرحمان أنجاي مدير ديوان الملك محمد الخامس وكان قد توفي إثر حادثة سيارة. فلما قرأ ما ورد في العمود من تنويه بالفقيد وتقدير لإخلاصه ووطنيته، ولما سأله عن سبب هذا أجابه: لو كنت تدري فضل هذا الرجل على البلاد لما سألت. لا أعني ما قدمه للمغرب من خدمات أيام الحماية وحسب، بل وما قام به لإخراجه من الأزمة التي شهدها بعد استقالة الحاج أحمد بلافريج. فهو الذي اقترح على الملك محمد الخامس إسناد رئاسة الحكومة لعبد الله ابراهيم. كان المرحوم عبد الرحمان أنجاي من الرعيل الأول للحركة الوطنية، ممثلا لها في المحافل الدولية، وقد استمر في نفس المهمة بعد استرجاع المغرب لاستقلاله إلى أن عينه جلالة الملك محمد الخامس مديرا لديوانه، وهو معروف بمستواه العلمي والفكري والدبلوماسي ما أهله ليحظى بثقته والارتياح لآرائه واقتراحاته، وهو حسب الذين عاشروه عن قرب كان وطنيا مخلصا متفتحا يحترم بالأخص رجال المقاومة وجيش التحرير، وكانت علاقته طيبة مع عبد الرحمان اليوسفي خاصة، ولا شك أن هذه العلاقة هي التي جعلته يرى في رفاقه المنتمين للجناح التقدمي للحزب وفي مقدمتهم عبد الله إبراهيم، الجدارة لإخراج البلاد من أزمتها، من هنا يمكن الاستئناس إلى ما سبق ذكره في شأن دور عبد الرحمان أنجاي في إسناد الرئاسة لعبد الله إبراهيم. وسيتضح ذلك أكثر عندما أخذ المحللون السياسيون يتحدثون عن تلك الحقبة وعن ملابستها بشيء من الوضوح. وبغض النظر عما شاب تحليلات المحللين وتعليقات المعلقين من غلبة الجانب الذاتي في تقييمهم لما جرى في تلك الحقبة، ولاسيما اختيار الملك لعبد الله إبراهيم خلفا للحاج أحمد بلافريج، فإن المحلل والمعلق الموضوعي لا يمكنه إلا الاعتراف بأن الدافع الأول لهذا الاختيار هو ترجيح الملك محمد الخامس لمصلحة البلاد، وهو في ذات الوقت اختيار لمصلحة العرش... وقد دلت على صواب هذا الاختيار المنجزات الهامة التي عرفتها المدة التي استغرقتها الحكومة الجديدة رغم قصرها (18 شهرا فقط) على حصافة الملك محمد الخامس ومستشاريه. ليس هذا ما يعنينا في هذا المقام، وإنما سبقا للتذكير بالمناخ السياسي العام، وبما اعترى العمل الحزبي من اختلالات انعكست سلبا على سير حزب الاستقلال ونالت من سمعته، وأضعفت من قوته ودفعت الكثير للعزوف عن الحزبية، وهي متغيرات جديرة بالتذكير باعتبارها من ممهدات انتفاضة 25 يناير 1959. ونعود للشعارات التي كانت مثار نقاشات وتعليقات وتساؤلات وليكن التركيز على شعار «لا حزبية بعد اليوم» الذي تصدر شعارات المؤتمر التأسيسي للاتحاد الوطني للقوات الشعبية والذي تمت الإشارة إليه في فقرة سابقة، وأرجأت معالجته: ومن الجدير بالتذكير بخصوص «لا حزبية» أنها لفظة سبق استعمالها بعد تنصيب حكومة عبد الله إبراهيم مباشرة، فما الداعي للتنكر للحزبية، ورفع شعار «لا حزبية بعد اليوم» هل يرجع هذا إلى الحزبية بذاتها كمفهوم لمؤسسة سياسية (حزب) اتفق علماء السياسة على أنها من ضرورات النظام الديموقراطي؟ أم هناك أسباب موضوعية ساهمت في إفراغ هذا المصطلح «الحزبية» من مدلوله الحقيقي؟ فالحزب والأحزاب بصفة عامة وإن عدت من أركان الأنظمة الديموقراطية بمفهومها الغربي التقليدي، إلا أنها - كغيرها من الكيانات- تمر بأطوار تعز فيها وتجل، وبأخرى تهان فيها وتذل، فكيف ذلك؟ باستقراء تاريخ الأحزاب بالمغرب مثلا، نخلص إلا أنها عرفت عهدين، عهد الكفاح من أجل استرجاع الاستقلال (1934-1955) وعهد بناء الاستقلال (ابتداء من 1956) ففي العهد الأول كان الانتماء إلى الأحزاب صعبا وعزيزا في ذات الوقت، صعبا لما يترتب عليه من تضحيات ومغارم لا يتحملها إلا الصناديد، وعزيزا لا يحظى به إلا من توفرت فيه شروط كانت تقتضيها المرحلة، وإذا حظي به المرء اعتز أيما اعتزاز واعتبر نفسه مواطنا ذا شأن بين أقرانه. فعزة الأحزاب والاعتزاز بالانتماء إليها حين كانت القضية التي تتبناها وتكافح من أجلها، واضحة لا يستفيد منها شخص بعينه ولا جماعة بذاتها، وحين كان المنتمون يتنافسون على البذل والجهد، لا على المناصب والرتب، وكان القادة مضرب المثل في الجرأة على المبادرة، وحكامة في التدبير، ومعاملة الإخوان والرفاق معاملة لا تختلف عن معاملة ذوي القربى وعدم الزج بهم في معارك غير محسوبة وعدم التخلي عنهم ولا عن ذويهم لدى الملمات. كانت هذه القيم هي التي تحكم العلاقة بين القادة والمناضلين في قواعد الأحزاب، وهذا ما كان سائدا على مستوى القيادات، كانوا كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضا كما جاء في الحديث الشريف، ولا مبالغة إذا قيل أن علاقة المناضل بالمناضل كانت بمثابة العلاقة بين المرء وأخيه إن لم تكن أقوى وأحن، إن هذه القيم كانت تشكل اللحمة الروحية التي تشد مكونات الأحزاب والهيآت الاجتماعية الأخرى بعضها إلى بعض لهذا كانت الأحزاب «عزيزة» «محبوبة» يبذل «المتحزب» من أجل ازدهارها وتقوية صفوفها كل ما يستطيع، رغم أن الانتماء إليها يكلفه العناء وشتى الإكراهات. كانت الأحزاب عزيزة يوم كان الانخراط فيها «عزيزا» أي خاضعا لعملية عسيرة يتم بها انتقاء الأعضاء «المترشحين» للعضوية بعد عرض صورهم على سائر أفراد خلايا الحزب في المدينة أو القرية. ومن إيجابيات هذه الطريقة في قبول الانخراط، أن الحزب يحصن نفسه من الاختراق، وهو أشد المكائد خطرا على أي تنظيم ولاسيما إذا فرض عليه العمل في السرية - وهذا وضع الأحزاب المغربية قبل الاستقلال - ومن إيجابياته أيضا اكتساب المناعة ضد تسرب ما كان يعد لمواجهة تدابير السلطات الاستعمارية الرامية للقضاء على الحركة الوطنية وكمثال على ذلك يرجع بالذاكرة إلى أحداث غشت 1953 بوجدة للوقوف على إيجابية هذه الطريقة. فحسب المعلومات المستفادة من مسؤولين أساسيين في فرع حزب الاستقلال إذاك، كان فرع وجدة مثلا يتكون من مكتب وعدة مراقبين ومسيرين ولا يتعدى عدد الجماعات المنتظمة في إطاره العشرين، وكل جماعة لا يتجاوز عدد أعضائها خمسة عشر وإذا ضربنا 20 في 15 فإن مجموع الأعضاء الذين كانوا منخرطين 300 عضو، ولا يدخل في هذا العدد النشيطون في المنظمات الموازية ممن لم يبلغوا السن المشروطة للانتماء وهي ثمانية عشر. فهؤلاء كانوا منتظمين في جمعيات كشفية أو ثقافية أو رياضية وقد تجلت إيجابية طريقة الانتقاء في أحداث غشت 1953 وبعدها، وذلك حسب ما يتبين من إيقاع مجرياتها بما فيها الإعداد والأداء... يتعلق الأمر بمواجهة المؤامرة المعروفة التي كان يدبرها أساطين الاستعمار الفرنسي ضد الملك الشرعي محمد الخامس رحمة الله عليه. وقاموا بتنفيذها يوم 20 غشت 1953 حيث استبدلوا محمد ابن عرفة به ونفوه هو وعائلته إلى مدغشقر، وكما هو معلوم، لم تمر هذه المؤامرة الشنيعة بدون ردود فعل الشعب المغربي، ويكفي استحضار ما وقع بمدينة وجدة يوم 16 غشت لأنه أقرب إلى ما نحن في سياقة وهو طريقة انتقاء المناضلين. وهذه المسألة تعود إلى تغير في توجه الحركة الوطنية، هدفا وتنظيمها، أي انتقالها من طور المطالبة بالإصلاح إلى طور المطالبة بالاستقلال، وهذا ما اقتضى تحولها من حزب وطني ذي أهداف محددة في إصلاحات مجالية إلى حزب ذي إيديولوجية استقلالية تناقض الإيديولوجية الاستعمارية شكلاً ومضموناً، وهذا ما اقتضى أيضا تغيرا في أساليب المواجهة بين الطرفين: الأحزاب الوطنية، وإدارة الحماية. فكان لابد من اعتماد تنظيم حزبي دقيق، تراعى في الانخراط فيه مواصفات تتطلبها طبيعة هذه المواجهة، فتقرر تشكيل مكاتب محلية وخلايا حزبية كانت تدعى في تلك المرحلة «الجماعة» يشرف عليها كتاب وأمناء ومسيرون (قراء نشرات الحزب) ومراقبون، وذلك بالطريقة المومإ إليها في فقرة سابقة، والذي يهمنا في هذا المقام هو أن مكتب فرع الحزب بوجدة كان قد نظم المنتمين إليه وفق الطريقة المذكورة آنفا ومما ساعده على الإعداد للقيام بمظاهرات ضد مؤامرة الإقامة العامة الرامية إلى خلع الملك محمد بن يوسف باعتباره المحرك الخفي لجميع المبادرات الوطنية حسب ما تصورته الإقامة العامة انطلاقا من تقديم وثيقة 11 يناير 1944 مرورا بخطاب طنجة يوم 10 أبريل 1947 وصولا إلى خطاب 18 نوفمبر 1952 والذي قارن فيه الملك الحماية بقميص ضاق على مقاس صاحبه مع المطالبة بالانعتاق الشامل والآني للمغرب ... كان لهذا الخطاب أثره الشامل والفوري ضد الوجود الاستعماري، وتأثيره القوي في نفوس الوطنيين على جميع المستويات. فمن جهة دفع أنصار الإقامة العامة للتحرك ضد جلالة الملك، والمطالبة بخلعه، ومن جهة ثانية حفز الوطنيين إلى الاستعداد لمواجهة ما تبيته الإقامة العامة وعملاؤها ضد السيادة المغربية، ستمتحن الأحزاب ولاسيما حزب الاستقلال باعتباره الأكثر جماهيرية والأقوى تنظيما، ومعنى ذلك أنه سيتجلى ما إذا توفق الوطنيون بعد ما يقرب من عشرين عاما في بناء حزب طليعي منظم محصن من الاختراق قادر على مواجهة المؤامرات المحاكة ضده كحزب وطني، وضد كل ما تخططه الإقامة العامة من سياسات هادفة إلى طمس الهوية الوطنية للمغرب وذلك عبر معارك احتجاجية وإن بشكلها السلمي كالتظاهر والإضراب وتقديم العرائض ورفع البرقيات، وصولا إلى المعركة النهائية والتي بدا منذ عقود من الزمن أنها آتية ولا ريب، لأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وقد شهد المغرب ما بين 1944 و1953 عدة مظاهرات واضطرابات وتقديم عرائض كان أكثرها من تدبير الحزب وتخطيطه، وكانت مظاهرات 16 غشت 1953 بوجدة من أهم المظاهرات إعدادا وتخطيطا وأداء وترويعا لسلطات الحماية، وقد دلت مجرياتها على مدى دقة التنظيم المعتمد في تسيير الحزب بمدينة وجدة وهو تنظيم كان يقوم على شروط صارمة في قبول العضوية كما سبق ذكره، وهذا ما فوت على إدارة الحماية اكتشاف ما كان فرع الحزب بوجدة يعده لمواجهة قرار خلع الملك، وهذا لا يعني أن هذه الإدارة كانت تعرف كل شيء عنهم ولكن ما لم تستطع الإطلاع عليه، هو الاجتماعات التي كانت تعقد، أو ماذا كان يخطط فيها ولا عن اللجان المهيأة للتنفيذ، وما كان ينقصها أيضا وهو الأهم، علمها بما اتخذ من قرارات وهو القيام بمظاهرات، إذ لم يكن يعلم بها ولا عن زمن ومكان انطلاقها سوى المنتظمين في خلايا الحزب، أما إدارة الحماية فلم تكن تعلم شيئا عن تفاصيل ما يعد في الخفاء من طرف أعضاء الحزب... ورغم أن الشرطة الفرنسية اعتقلت بعض المسيرين وحاولت انتزاع معلومات منهم عما يدبره مكتب الفرع، فإنها لم تفلح في ذلك لأن الاعتقال وقع قبل اتخاذ قرار من طرف أعضاء مكتب الفرع، ومما يرويه أحدهم أنه تعرض لتعذيب شديد بعد انتهاء المظاهرات بسبب ما اعتبرته الشرطة تضليلا لها عندما صرح لها بأن الحزب لا ينوي القيام بأي شيء وأنه سيكتفي بإرسال برقيات احتجاج إذا ما تم خلع الملك محمد الخامس. وهناك ما يؤكد عدم علم أجهزة الشرطة وعناصر المخابرات بما قرر وهو أن المظاهرات بدأت على السادسة مساء من ساحة سيدي عبد الوهاب ثم انطلقت منها لتمتد عبر الطرق المتفرعة عنها لتغطي أهم مناطق المدينة بما فيها بعض الأحياء العصرية التي يشكل المستوطنون الأوروبيون غالبية سكانها، ومع ذلك لم يصادف المتظاهرون عبر مسيرتهم من قوات الأمن سوى ضباط جيش وجندي من اللفيف الأجنبي قدر لهما أن يلقيا حتفهما على أيدي المتظاهرين. وتمضي على المظاهرات مدة أنجز فيها ما أنجز من طرف المتظاهرين قبل أن تستدعى القوات العمومية للتدخل والتي كانت عناصرها في عطلة على ما يبدو فقد كان اليوم يوم أحد ... وسيروى فيما بعد أن عددا من مسؤولي السلطة بمن فيهم ضباط الشرطة والجيش كانوا يوم 16 غشت يقضون عطلتهم الأسبوعية في منتجعات بنواحي المدينة مثل السعيدية، وتافوغالت ودبدو، وهذا ما فهم من سؤال طلب من رئيس المحكمة توجيهه لرئيس الناحية «برونيل» في جلسة من جلسات المحكمة التي عقدت للنظر في أحداث 16 غشت ما بين 29 نوفمبر و10 دجنبر 1954 بمدينة وجدة وهو سؤال رفض من لدن رئيس المحكمة، وهناك شهود عيان ممن كانوا يقطنون في أحياء قريبة من مداخل المدينة رأوا فرقا من الجنود تدخل المدينة مساء ذلك اليوم بعد أن كان المتظاهرون قد احتلوا مناطق عديدة من وسط المدينة بما فيها شارع فرنسا (شارع محمد الخامس حاليا) وساحة 16 غشت حاليا، بل ومنهم من كاد يصل إلى محطة القطار لينفذ ما كان مقررا بشأنها لولا تدخل الجنود الوافدين من ثكنة بني وكيل... وفي ذات الوقت كانت سيارات مدنية تغادر المدينة وعلى متنها عائلات من المستوطنين الأجانب لائذة بالفرار للنجاة من هول ما حدث... وكان هذا دليلا آخرا على أن الإدارة الاستعمارية فوجئت بما حدث وإلا لو كانت قد علمت به، لما استمرت المظاهرات إلى الثانية عشرة ليلا، ولما نجم عنها خسائر مادية وبشرية في الجانب الفرنسي قدرت بتسعة وعشرين قتيلا و29 جريحا، وإحراق وتخريب عدد من منشآت في ملكية أجانب أو عملاء الإدارة... أما القتلى في صفوف المتظاهرين فلم يعرف عددهم باستثناء من ماتوا في زنزانة وهم أربعة عشر لم «تعرف أسماؤهم» هذا ما لم ينجم عن مظاهرات سابقة أو لاحقة. إن القصد من التذكير بمظاهرات 16 غشت هو التأكيد على أن كل تنظيم يصان من الاختراق تكون قراراته سالمة من التسريب سهلة الأداء ومن ثم مضمونة النتائج غالبا... فأجهزة الشرطة لم تعلم بالمظاهرات إلا عند اندلاعها ولم تتمكن من التدخل إلا بعدما قام كل واحد أو مجموعة بما خطط له أولها، دون صعوبة لأن المواقع المستهدفة لم تكن محروسة، كما هو الحال عندما تعلم السلطة بأن أمرا مدبرا سيقع.