خلال يومي 21 و 22 فبراير المنصرم 2015، نظمت جمعية البركة بسلا الدورة 5 لمهرجان سلا لفنون الرقصات الشعبية بشراكة مع الجماعة الحضرية بنفس المدينة ومؤسسة سلا للثقافة والفنون تحت شعار» الرقص الشعبي فن وتعبير» شاركت فيها فرق شعبية. كما نظمت ندوة فكرية قدمت خلالها ورقة حول فن الرقص وأنواعه كأدوات تعبيرية بمنطقة دكالة / عبدة. بعد ذلك نظمت أمسية فنية بالمركب السينمائي الملكي بسلا كرم فيها الفنان عبد العزيز الستاتي وكاتب هذه السطور، لتنتهي بمعزوفات لهذا الفنان أثبتت عن جدارة أن الفن لا منطقة ولا وطن له سوى قلب الفنان والمتلقي حيث اهتزت القاعة رقصا، تصفيقا، غناء، وزغاريد. فيما يلي مجمل الكلمة التي ألقيت في حق الفنان الستاتي بمناسبة تكريمه. 1 - الستاتي ظاهرة عبد العزيز الستاتي فنان شعبي مقتد ر وظاهرة فنية شعبية متميزة تتجاوب مع سائر ألوانه الغنائية والموسيقية، معظم المناطق المغربية ومن سائر الفآت العمرية .. لأن كل مستمع ومشاهد يجد فيه شيئا يروقه: إن لم يكن في كلماته، ففي ألحانه. وإن لم يكن في ألحانه، ففي صوته المتميز ذي المقام الأقرب من الطبقة الحادة التي يصعب على كثير من الشيوخ والشيخات مجاراته فيه ولا تقليده. وإن لم يتحقق هذا الإعجاب بالصوت، فهناك من تروقه لكنته الدكالية التي ما تزال محافظة على أصالتها، بساطتها و»عروبيتها» المحبوبة المستمدة من سهل دكالة المنبسط والشاسع حيث تونع براعم الخير ووضوح مخارج الحروف. كما أن هناك فقط من تروقه طريقة عزفه على الكمان مع تحريك رأسه بشكل يكاد يكون هستيريا. أما على مستوى المضامين والأصناف الموسيقية فقد غنى عبد العزيز الستاتي في وبعدة متون موسيقية مغربية ينهل جلها من التراث المغربي: * العيطعة الحصباوية لمنطقة عبدة:(الحصبة ) - (حاجتي في كريني) أو (سيدي احمد) .. وهنا أفتح قوسا لإجلاء فحوى هذه العيطة الجميلة والتي يمكن تصنيفها في إطار شعر الغزل والحب كما الفخر بالحبيب وتعداد محاسنه. فهي ? وكما استنتجته خلال بحثي الميداني والموسيقي أثناء اشتغالي على سيناريو فيلم (خربوشة) الذي أخرجه حميد الزوغي? من نظم الشيخة حادة الزيدية الملقبة بخربوشة في حق «أحمد» نجل القائد عيسى بن عمر، والذي كانت تحبه. وحين راودها والده عيسى على نفسها، أجابته بهذه العيطة التي تؤكد فيها على أن: «حاجتها في قرينها» أي ابنه الذي يماثلها في السن وتتغزل به في نفس العيطة منشدة: ((يا وهاهو يا سيدي احمد .. ياو هاهو يا حرش العيون)) ما يؤكد هذا ما ورد في أغنية (خربوشة) لكاتبها الزميل محمد الباتولي التي لحنها سعيد الإمام وغنتها حياة الإدريسي والتي تقول فيها خربوشة مواجهة القائد عيسى:»ولدك ألقايد .. راني كنبغيه» فيستشيط القائد غضبا ويأمر بدفنها حية في حائط كما يؤكد العديد من الروايات وورد بالسيناريو والفيلم المذكورين .. الشيء الذي ستزكيه العيطة الحصباوية الثانية والتي أداها بإتقان الفنان الستاتي حاملة لعنوانين كذلك: ( سيدي احمد) مرة أخرى ثم (عزيبو في الميلحة) هذا العزيب / الضيعة الذي ما زال إلى الآن قائما بين جمعة سحايم وآسفي، غير بعيد عن دار القائد عيسى بن عمر، والتي ما تزال أطلالها شاهدة على مأساة شاعرة عاشقة وفنانة ثورية كانت تسمى بحادة ولقبت بعدة ألقاب: «خربوشة» و»الكريدة» و»زروالة» . تقول هذه الأخيرة في عيطة (عزيبو في الميلحة) متغزلة في حبيبها سيدي احمد واصفة جماله وبهاء فرسه، هندامه وحزامه «مضمته» ذات الأصل الكاموني .. وبأن هجره لها جعلها تسهر الليالي ولا تصفف شعرها حزنا عليه لمدة سنة ونصف: (ياو سيدي احمد .. على قبلك بايتة نتسنى سيدي حبيبي .. حرك يا مول السناح الزيتي ..سيدي احبيبي على قبلك بايتة عساسة ..سيدي احبيبي .. هذا عام ونص ما مشطت رويسي بايت جافيني يا سيدي احمد .. المضمة حاسكة رهيفة كامونية .. سبع سلامات في سلام ألغادي زربان .. لالة ولالة كيف تديري ليه؟ خلا عزيبو في الميلحة .. ياو سبع سلامات في سلام) ومعناه أنها بدل أن تبلغه كل يوم سلامها طيلة أيام الأسبوع، فإنها تختزل هذا السلام كله في سلام واحد يشمل سبع سلامات لمدة سبعة أيام وهكذا ... 2 - عزري دكالة كما غنى عبد العزيزالستاتي العيوط المرساوية المنتسبة لمرسى الدارلبيضاء وكان يرددها البحارة ? لا سيما القادمون من عبدة ومدينة وآسفي تحديدا ? فهي أصلا عيوط عبدية حصباوية عمل على تخفيف إيقاعاتها وتبسيط بعض مصطلحاتها، الفنان الراحل بوشعيب البيضاوي والذي سار على نهجه حاليا الفنان خالد البوعزاوي ومجموعته.. ومن أشهر هذه العيوط: (كبة الخيل على الخيل) و(الحداويات ) و(منين أنا ومنين انت؟)... إضافة إلى الحصباوي والمرساوي غنى عبد العزيزالستاتي أصناف موسيقة أخرى متطرقا إلى عدة مواضيع وفي عدة جهات بالمغرب: - السواكن: (العلوة) - (مولاي الطاهر القاسمي) - (سيدي عبد العزيز بن يفو) ? (مولاي بوشعيب) ? (مولاي ابراهيم ) ?(سيدي موسى بن علي) ? (سيدي مسعود بن حساين)... * الأم: (الميمة) ? (قولوا لامي صبري)... * الاجتماعيات: (حكمت عليها الظروف) - (جربت الناس) ? (ضرني حالي)... * الهجرة: (الفيزا والباسبور) ?( الغربة) ? (الرجال مشات حراكة)... * الحب: (دابا تندم عليا) - (باي باي يا مون آمور) ? (ما تهمنيش) ... * السطاتيات ناحية اولاد حريز: (داك الزين العزيز) التي ينتسب إليها أيضا ما يسمى بفن «الزعري» ومن أغانيه: (وحيدة) و (البنية) وخصوصاعيطة (جعيدان) نسبة إلى مدينة أبي الجعد * اللعابات أو العياطات بجهة دكالة : (ياهاه ياهاه .. وانتيا صاحبتي) * دينيات: (الله الله يا الله) ? (سيدي ربي يا العالي) ... * الغابة (الهيث): ويضم هذا النوع بعض القطع التي تشبه (التعداد) .. وهناك من الباحثين والمهتمين الذين يسميه كذلك، إذ هو عبارة عن سرد زجلي - دون أن تتوقف الموسيقى- يشبه إلى حد ما حكم وأمثلة سيدي عبد الرحمان المجذوب حيث يتم ترديد بعض أو بالأحرى «تعداد» مناقب أو مثالب فرد أو قوم أو حتى حيوان أو إسداء نصائح كتلك التي تبتدئ ب: * (ياودي .. ياودي .. واللي يحصل يودي.. عمر جو الغابة ما خسر حتى الفار غلاظ واكبر .. وولى عند بالو نسر .. ألكران ألكران ( أي الأقران) ياودي .. ياودي .. واللي يحصل يودي.. ألصيادة نوضوا تصيدوا .. واللي دار الغلطة «الكرد» يفيدو) (الكرد: حارس الغابة عن اللغة الفرنسيةgardien ) وبين أدغال هذه الغابة أدى الستاتي أيضا فن الهيث المعروف بمنطقة الغرب. في أغنية من أغاني الغابة يقول: (الحبيب اللي حبيتو اغدر.. وما قلتها لحد آش هاد المنكر؟.. دير الخير في الرجال ولا تديروا في الشمايت كيتودر)) .. هذان البيتان - لا سيما الثاني منهما الذي يوصي بفعل الخير فيمن يستحقه - يحيلاننا على بيتين شهيرين في الأدب والشعر العربيين يحملان نفس المعنى، لاثنين من أشد شعراء العرب بلاغة وحكمة، أولهما الشاعر المخضرم زهير بن أبي سلمى الذي أنشد في معلقته الشهيرة: ( ومن يجعل المعروف في غير أهله يكن حمده ذما عليه ويندم ) وثانيهما المتنبي الذي قال في قصيدته (لكل امرئ ...): ( إذا أنت أكرمت الكريم ملكته وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ) * الغيوان: بل إن عبد العزيز الستاتي خاض أيضا تجربة غيوانية ضمن مجموعة كونها شقيقه ميلود تحت اسم: (مجموعة ميلود العرباوي) ضمت أربعة عناصر وازنة بساحة الفن الشعبي في روافد الغناء، الكلمات، اللحن والإنتاج وهم:مؤسس الفرقة ميلود الذي عرف كمنتج وكاتب كلمات وهو الذي أنتج معظم أغاني شقيقه عبد العزيز.. ثم هذا الأخير، أي الستاتي كعازف على آلة البانجو .. ثم رضوان ريفق مؤسس مجموعة (إعشاقن) وعضو سابق في مجموعة ناس الغيوان -الذي حل محل العربي باطما بعد وفاته رحمه الله- عازف على آلة السنتير أو الهجهوج ..أما العنصر الرابع والأخير في هذه المجموعة (الغيوانية) التي كان الستاتي عضوا فيها، فلم يكن سوى الفنان الشعبي مصطفى الميلس. وقد أصدرت المجموعة عدة ألبومات بعناوين أغانيها: (فلاح) ? (باغي نعيش وحدي) ? (البحر) - (مول الخيمة) ... ومعظم كلمات هذه الأغاني ذات تأليف جماعي لأعضاء المجموعة باستثناء القليل ضمنها واحدة تشرفت بكتابة كلماتها تحت عنوان: (شوفوا شبابنا آشنو باغي؟). وقد خاض الستاتي هذه التجربة خلال سنة 2007 حين تأسيس تلك المجموعة التي لم تعمر طويلا لأسباب شتى على رأسها آفة القرصنة، دون أن يوقف نشاطه ضمن مجموعته الخاصة. * أدى الستاتي أيضا البراول .. والعيطة الجبلية .. والأمازيغية .. والراي .. ولكنه أبدع بالدرجة الأولى في فن العيطة والسواكن الدكالية كما أسلفت بحكم الولادة،الانتماء والنشأة .. ولهذا يلقبه كثيرون ب»عزري دكالة» * ثم إن عبد العزيز الستاتي عازف ماهر على سائر الآلات الوترية ضمنها الوتار(الكنبري) والسنتير والبانجو فالكمنجة التي يعزف عليها بمهارة فائقة عبر جميع المقامات والإيقاعات وأحيانا بسرعة يتزايد إيقاعها تدريجيا، يدخل معها هو في حالة وجدانية مذهلة هي إلى الجذبة أو «التحيار» أقرب، يستحيل حيالها أن يوقف رأسه عن التحرك وفي جميع الجهات ولو لعشر ثوان إلى أن يختمها بالقفلة !! كما يمكنه أن يخرج من الكمنجة عدة أصوات كصفارة إنذار سيارة إسعاف مثلا أو صياح ديك أو زغردة طويلة ... 3 - ستاتي خجول ! الفنان عبد العزيز الستاتي بعد كل هذا العطاء والتوهج الفني، إنسان جد متواضع .. يسمع النصح ويتقبل النقد .. كما أنه رجل خجول. وللشهادة أقر أنني وأنا أعتلي معه خشبة سينما الملكي بسلا خلال هذا التكريم الدكالي المزدوج، كان يقدمني ماسكا يدي بيده وهي ترتعد !! ومن أهم ما قاله: « كثير من الناس كانوا يسمعون عن «خربوشة» وعيطتها المعروفة، حتى نحن الشيوخ والفنانون الذين أدوا هذه العيطة الشهيرة دون أن نعرف من تكون هذه المرأة؟ ولا أين عاشت؟ وفي عهد من؟ إلخ ... إلى أن جاء هذا الرجل ليبحث وينقب وراءها، فأعطانا الفيلم الرائع الذي شاهدناه وأعجبنا جميعا: (خربوشة)» كلام فعلا أسال دموعي تأثرا وامتنانا.. لأن اعترفا من فنان شعبي كبير بحجم عبد العزيز الستاتي في حقي، ليس بالأمر الهين وكفيل بجعلي أنسى عددا هائلا من معاناتي في كتابة سيناريو الفيلم وما تلاه .. كما يحفزني من جديد على مزيد من البحث والتنقيب في التراث الشعبي المغربي الأصيل، لإبداع عمل جديد قد يكون الفنان الستاتي على الأقل مصدر إيحاء له إن لم يكن هو بطله وموقع موسيقاه .. ولم لا ؟