من المأثور عن الأستاذ المرحوم عابد الجابري، القول بضرورة توطين المفاهيم والبحث عن نظائر للمفاهيم الحداثية والديمقراطية والعقلانية من داخل ما وصل إليه أرقى التفكير لدى العلماء والفلاسفة، والفقهاء في التقليد العربي الإسلامي . وكان يعتبر في تبرير ذلك أن الشعوب أسهل عليها أن تبني التقدم والحداثة، انطلاقا من تراثها الحضاري وأن ذلك أضمن وسيلة للانخراط الواعي والمنتج في التراث العالمي الإنساني ، وأكبر صمام أمان لكي لا يتحول التراث إلى إرث فكري محنط . ونحن نتابع أطوار الجدل الدائر في موضوع الإجهاض وما يرتبط به من إشكالات مجتمعية وثقافية ، لا يسعنا إلا أن نطرح سؤالا عريضا حول مدى الارتباط بين بعض المواقف المعلنة من طرف بعض فقهاء التشدد عندنا في الوقت الحاضر، وذلك التقليد العقلاني والمتنور الذي أشار إليه الأستاذ عابد الجابري ودعانا لننطلق منه لتطوير موقعنا الحداثي في عالمنا اليوم . وليس من الصعوبة بأن نجيب بأن لا وجود لأي ارتباط بين ذلك النزوع العقلاني وبين ما يظهر من اصطفاف المواقف لبعض الفقهاء اليوم . لنستمع للتالي : « اعتبروني متخلفا، أو محافظا لكنني ضد الإجهاض حتى في حالات زنا المحارم أو الاغتصاب !؟ « تصريح للسيد بن حمزة رئيس المجلس العلمي بوجدة خلال اللقاء الوطني التشاوري حول الإجهاض المنعقد يوم الأربعاء 11 مارس 2015 حين أعلن أنه ضد تعديل قانون الإجهاض بالمغرب . منذ البداية والانطلاق يعلن الرجل عن رفضه المطلق لأي حوار أو إعمال للرأي المبني على اعتبارات موضوعية أو تبادل للحجج المنطقية . إن الوفاء لعقل التنوير العقلاني ، وإعادة الارتباط بزمن التوجه الذي رافق تلك المرحلة لا يمكن أن يتم في غياب جماعة من العلماء والفقهاء والباحثين التراثيين المبادرين والمستجيبين لمطارحة القضايا المجتمعية الأساسية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والحقوقية بصفة منظمة ، غير موسمية ، ولا تحت الطلب أو تحت ضغط الأحداث العابرة بل بإرادة المساهمة في إنضاج الحلول لما يطرحه تطور مجتمعنا من قضايا وأسئلة ، وحاجيات بهدف المساهمة بجانب الفاعلين السياسيين والفرقاء القانونيين ، والمجتمع المدني في إنتاج الحلول الملائمة لإشكالات تقف على التخوم بين الديني والدنيوي . وفي غياب هذا النوع من النخبة العالمة المنشغلة بقضايا المجتمع والمنخرطة في النقاش العمومي حول هذه المواضيع، تطغى كما نلاحظ ردة فعل واحدة نصادفها كلما أثيرت للنقاش أو مطالبة فتح نقاش قضايا تتصل بالتراث من باحثين أو فاعلين من غير صنف التراثيين غير المصنفين أو المعتمدين المنتمين إلى ما يمكن أن نسميه « المؤسسة التراثية المكرسة « establishment حيث يتم نعت كل من رفع لواء النقاش المفتوح وفتح باب الاجتهاد ، وأعمل العقل الشخصي، بالخروج عن المألوف والمقدس ورميه بالمروق والكفر والإلحاد وقد عشنا بشكل متواتر على إيقاع هذا النوع من الممارسة الخطابية، إما من طرف أشخاص معزولين ( نموذج أبو النعيم ) أو من مؤسسات دعوية تعطي لنفسها الحق في احتكار التفسير والتأويل ، وتحوير مقاصد الشريعة . والخطورة في هذا الوضع أن هذه السلوكات تحدث في مجتمع يعرف حركة انتقال بالمعنى الشامل (انتقال يساري ، انتقال في حركية الأجيال ، انتقال في حركة المجتمع المدني ، تنامي الوعي بالقضية النسائية والرهانات المجتمعية التي تطرحها) . الأخطر إذن أن تحدث هذه السلوكات المحنطة للتراث في مرحلة انتقال من المفروض أن يكثف فيها الاجتهاد، بما يؤدي إلى البحث عن مداخل تقدمية مواكبة عقلانية لمعالجة المشكلات ذات التداعيات المباشرة المؤثرة على التوازنات المجتمعية ( على سبيل المثال مسألة الإجهاض ،التعدد ، سن الزواج ، الإرث ... ) . وحين نستعرض التطورات الحاصلة في عدد من الأقطار الإسلامية على المستوى الفكري والاجتهادي ( ماليزيا ، تركيا ، أندونيسيا ، وبعض المجددين في إيران ، تونس )، فإننا نلاحظ على هذا الصعيد تأخرا حقيقيا على مستوى الإنتاج الفقهي الاجتهادي في المغرب بما يكاد يذكرنا بمراحل الانغلاق التي عاشها المغرب في القرن 18 . فهكذا نلاحظ أن النقاش الذي أثير من طرف مكونات الحركات الأصولية منذ مناهضتها للخطة الوطنية لإدماج المرأة لم يتقدم قيد أنملة، في حين أن نقاشا سياسيا وفقهيا وفلسفيا غنيا قد احتد داخل الأقطار التي أشرنا إليها، بل نلاحظ أيضا تلاقحا للأفكار في الأوساط الفقهية وأوساط المثقفين ونشطاء الحقل السياسي والمدني داخل تلك الأقطار مما خلق حالة انفراج فكري ... والمثير للانتباه عندنا حقا أنه حتى بعض علب التفكير المرتبطة ببعض الأحزاب ذات التوجه الأصولي الإسلاموي المرتبطة بالحزب الأغلبي لا تلعب دور التخصيب الفكري المهني للانفتاح السياسي، والمعالجة الرصينة للقضايا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بل تلعب دور طمأنة العقائديين بحراسة المنظور العقائدي المنقول الجامد ، والمحنط . ونحن نستحضر هذا النموذج القابل للحوار الهادئ وتلاقح الأفكار، تحضرنا وثيقة الحريات الأربع التي صاغتها ثلة من علماء الأزهر في عز تفاعلات الربيع العربي منذ ثلاث سنوات، والتي شكلت حقا وبكل المقاييس جسر الترابط اليوم المطلوب مع فكر ابن رشد ونظائره . وثيقة الأزهر تثبت أن إشكال مجتمعاتنا علاقة بهيمنة الفكر الأصولي المتزمت، لا يتعلق بالنصوص في حد ذاتها بل بالقراءة النكوصية ، اللاعقلانية المنتجة للجمود والفتن المستمرة ، والفكر الدائري المنغلق على ذاته . فهل يستفيق عقلنا لاستيعاب ضرورات التطور بما يربط تفكيرنا في القضايا المجتمعية الأساسية بمستلزمات الاجتهاد والتطوير ؟ .