تواجه الحكومة من قبل معارضين ومعترضين. المعارضة، سياسية وواضحة، وتتقيد بأخلاقيات تضع لممارستها حدودا من حيث نوعيتها ومداها، فضلا على تمترسها مع الحكومة خلف نفس ثوابت الأمة. أما الاعتراض، فأكثره مستتر، مغرض، محتال، يغلف الباطل بالحق وهدام. الأمثلة كثيرة على المطبات التي تساق إليها الحكومة أو الألغام التي تفجر في الحقول التي تحرثها، ولعل أقواها تفاعلات أحداث العيون، ولم يكن أولها الضجيج الذي حاول عرقلة إقرار مدونة السير، كما أن من بينها التحرشات العدوانية، و الدائمة، لبعض الصحافة ضد وزراء بعينهم وأحزاب وازنة في الحكومة... ومع تدني مفعول الضمير في السلوك الأخلاقي العام (تنامي «مسوغات» الانتهازية وسيادة الفردانية في مقابل انكماش حس الانتماء الجمعي المولد لأخلاقيات التضامن والاحترام ومراعاة الصالح العام) يجد «الاعتراض» السام مجال انتعاشه الحيوي لا من حيث أدواته وممارسيه، ولا من حيث المياه الوسخة التي يعيش فيها. مثال على ذلك، ما يحاك ضد السيدة ياسمينة بادو وزيرة الصحة، للتشويش على اجتهادها الملموس في تدبير قطاع اجتماعي، بطبيعته بالغ الهشاشة بفعل تراكم متأخرات استحقاقات تطويره غير « المستخلصة» اجتماعيا. أعرف أن السيدة الوزيرة، بأخلاقها الرفيعة التي تشربتها من «منشأها»، السلالي والمعنوي، العائلة والحزب، و بحسها السياسي المتقد بالوطنية والديمقراطية معا، وبحرصها البالغ على تطوير قطاع الصحة التي تشرف على تدبيره السياسي... أنها بكل ذلك قادرة على التصدي للنازلة ( التي سأعرض موجزها )...نازلة هي لغم تم زرعه ضدها، و تستطيع الوزيرة المبادرة إلى نزع فتيله، بماهي حريصة عليه من الحكامة الجيدة لتدبير إدارة القطاع، الحرص المسنود بقدر وافر من الإنصاف، جلب المنفعة وتقدير الكفاءات. ومختصر النازلة، هو تصفية «مصلحة جراحة القلب والشرايين» في المركز الاستشفائي الجامعي ابن سينا بالرباط، تصفية كاملة. بمعنى إغلاق المصلحة ومسحها من الهيكلة الاستشفائية للمستشفى...عبر إعادة انتشار الممرضين فيها على مصالح أخرى ، وتعيين الأطباء العاملين فيها في مصالح أخرى أو مستشفيات عمومية أخرى، واقتلاع أدوات التدخلات الجراحية من غرف العمليات، وإخلاء غرف العيادة من أدوات الفحص والتحليل الطبيين، وصولا إلى العمل على استصدار قرار جامعي بإقالة الأستاذ الجراح أحمد وجيه المعزوزي من رئاسة المصلحة. مقترح إقالة الأستاذ الجراح صدر الجمعة الماضية، عما يسمى باللجنة العلمية لكلية الطب التابعة لجامعة محمد الخامس السويسي. وهو المقترح الذي اعتبره الأستاذ الطيب الشكيلي رئيس الجامعة قرارا «لاغيا وباطلا» لأنه صدر عن لجنة غير مخولة قانونيا بالبت في حالة الأستاذ المعزوزي. إنه أول الغيث في «إمساك» العقل بزمام قضية يقودها مجرد الحقد، على ما يبدو من وقائعها، وخروقاتها القانونية والسرعة التي تدفع بها نحو تحقيق أهدافها. قبل حوالي شهر، قيل أن الممرض الرئيس في المصلحة مشبوه باختلاس معدات جراحية، ومتهم بسوء التصرف إداريا. شبهة الاختلاس تولت الشرطة القضائية بالرباط التحقيق فيها، و التحقيق مستمر، والمعنى بالأمر حر طليق. بمعنى أنه لم يثبت ضده أي شيء حتى الآن. إداريا فتحت المفتشية العامة للوزارة التحقيق في الموضوع، وبحثها لايزال جاريا، بمعنى واضح، أن لا شيء ثابت ضده حتى الآن. غير أنه بتعلة تلك الشبهة أو الاتهام لموظف واحد في المصلحة، جرت تصفية المصلحة بأجمعها، و ما كان مبررا تصفيتها حتى لو ثبتت إدانة الممرض إداريا و قضائيا...تصفية بسرعة، لم تنتظر اكتمال التحقيق الأمني والتفتيش الإداري، لأن قرار التصفية، على ما يبدو، «اتخذ» قبل وجود مبرر التحقيق و التفتيش. لا أوجه الاتهام لأحد بعينه، و ربما في الموضوع مجرد لبس لم يوضح «لحظة» تشكله واستمر ينمو حتى استشرى...غير أن ما يجري أمامنا واضح. تصفية مصلحة استشفائية حساسة وفاعلة وتقدم خدمة صحية عمومية بأقل تكلفة ممكنة. مصلحة أمنت لمريضين من ثلاثة دعم محسنين لإجراء عمليات جراحية، في القلب، بالغة الدقة. مصلحة كانت تجري فيها حوالي 30 عملية جراحة في الشهر (أكثرها للمعوزين) و يعودها للتطبيب حوالي 200 مريض في الشهر...مصلحة ، ربما ذنبها أن رئيسها واحد من علماء الطب في المغرب، وواحد من نوابغ جراحيه. من المؤسف أن نحتاج إلى التعريف بالأستاذ أحمد وجيه المعزوزي، الجراح الذي لمع اسمه في كوكبة الجهد المغربي لتكريس التفوق العلمي في رأس مؤشرات النجاح، وذلك منذ إدارته للفريق الطبي الذي باشر عملية زرع القلب الأولى في المغرب سنة 1995. الرجل نشيط كأستاذ جامعي و باحث وجراح، وطنيا ودوليا، منذ سنة 1978 . راكم رصيدا هاما من الاجتهاد في تطوير جراحة القلب و الشرايين، على مستوى البحث العلمي بما يزيد عن سبعين منشورا علميا في الدوريات الوطنية و الدولية المختصة وأكثر من عشرة كتب، و على مستوى الجراحة رصيده غني بالعمليات الجراحية المجتهدة في توسيع امكانية معالجة استعصاءات أمراض القلب...وهو اليوم رئيس الجمعية المغربية لجراحة القلب والشرايين، بما يؤشر على الاحترام الذي يحظى به بين زملائه و أكثرهم كانوا طلبته. ألا يستحق الرجل أن نحيطه بالتقدير اللائق بالعلماء و بالمجتهدين انسجاما مع موروثنا الأخلاقي والحضاري وتنمية لجاذبية الاجتهاد والتفوق في مجتمعنا وبخاصة لدى شبابنا. أنا واثق من أن السيدة الوزيرة لم تتدخل حتى الآن في الموضوع، لأنها رأت أن تنأى بنفسها عن التدخل في شأن داخلي للمستشفى، وهو منطلق معقول ومحترم...غير أن النازلة بما تكشف عنه من إضرار بالمصلحة العامة و بالقوانين العامة و حتى بالأخلاق العامة، تستدعي التدخل بما ينصف الضمير المهني و الضمير الأخلاقي والضمير الوطني. ولأن السيدة ياسمين بادو معنية، حزبيا و حكوميا، بصحوة كل تلك «الضمائر» وسلامتها، فهي ستبطل مفعول هذا «اللغم» بما ينبغي من حزم.