عندما طُلبَ إليّ تقديمَ فصلٍ أو أكثر من كتاب «باحثات» هذا العام، تحت عنوان «الممارسات الثقافية للشباب العربي»، وجدتُني أكثر انجذاباً إلى ثلاثِ دراسات بعينها: الأولى «الشابات اللبنانيات: مستمعات، مشاهدات، قارئات» لمود اسطفان - هاشم، وعزة شرارة - بيضون. الثانية «التقوى والمتعة: التفاوض الشبابي على السلطة الأخلاقية وأمكنة الترفيه الجديدة في الضاحية» للارا ديب، ومنى حرب. والثالثة «أزياء الشابات في لبنان: بين الغواية والستر» لرجاء نعمة. لم يقتصر انجذابي هذا على أسبابٍ من نوع السياقِ اللبنانيِّ المألوف بالنسبة إليّ وحسب. نعم، تحمّست لقراءة دراسات جدية، تتناول - أخيراً!- مظاهرَ وممارساتٍ تَدخُلُ في صلبِ الحياةِ اليومية وتشكّلُ ثقافتَها، بموازاة القوالب التقليدية للثقافة العربية، والتي ما زال جزءٌ غير يسيرٍ من نخبتنا يحصرها في الكتاب والمسرح والسينما والموسيقى، بتجلياتها الكلاسيكية. لكن هناك ما هو أكثر من ذلك... عندما طُلبَ إليّ تقديمَ فصلٍ أو أكثر من كتاب «باحثات» هذا العام، تحت عنوان «الممارسات الثقافية للشباب العربي»، وجدتُني أكثر انجذاباً إلى ثلاثِ دراسات بعينها: الأولى «الشابات اللبنانيات: مستمعات، مشاهدات، قارئات» لمود اسطفان - هاشم، وعزة شرارة - بيضون. الثانية «التقوى والمتعة: التفاوض الشبابي على السلطة الأخلاقية وأمكنة الترفيه الجديدة في الضاحية» للارا ديب، ومنى حرب. والثالثة «أزياء الشابات في لبنان: بين الغواية والستر» لرجاء نعمة. لم يقتصر انجذابي هذا على أسبابٍ من نوع السياقِ اللبنانيِّ المألوف بالنسبة إليّ وحسب. نعم، تحمّست لقراءة دراسات جدية، تتناول - أخيراً!- مظاهرَ وممارساتٍ تَدخُلُ في صلبِ الحياةِ اليومية وتشكّلُ ثقافتَها، بموازاة القوالب التقليدية للثقافة العربية، والتي ما زال جزءٌ غير يسيرٍ من نخبتنا يحصرها في الكتاب والمسرح والسينما والموسيقى، بتجلياتها الكلاسيكية. لكن هناك ما هو أكثر من ذلك... لفتني خيطانِ دقيقانِ، أساسيان، يهُمّانِني ويربطان الدراساتِ الثلاث: أولاً الجندر، وبالأخص حضور الشابات أكثر من الشبان كمعيار للمتغير أو المنمَّط الثقافي، بأشكالهما ومضامينهما. وثانياً، مسألة الثقافة الفرعية وهي أيضاً مذكورة في مقدّمة الكتاب. بالنسبة إلى الجندر، أرى حرياً بالتأمل أنّ أحدَ أهمِّ مراصد الحراك السوسيولوجي - الثقافي في المجتمعات العربية ما زال درجةَ انخراط (أو عدم انخراط) النساء في تشكيله، وتضمينه إراداتِهِنّ، وخياراتِهِنّ، وتعبيراتِهنّ عن ذواتِهنّ. وتساءلت: هل السبب أن النساء في مجتمعاتنا ما زلن الحلقة الأضعف، التي تقع عليها أثقال الدِّينِ والسياسةِ والثقافة، فيُناهضنها أو يقعنَ ضحيتَها، ولذلك يسهلُ رصدَ الأثرِ من عندهن؟ أم أن المقاربة الجندرية، لا سيما النسوية، للدراسات الثقافية، هي مسألة متوقّعة، في المجتمعات المتقدّمة، والأقل تقدّماً على حد سواء؟ لعل الإجابة تخلط بعضاً من تيمة هذا السؤال وذاك. فبحسب بيضون وهاشم، ما زالت سمتا التلقي والهدوء تغلبان على هوايات الشابات، كالمطالعة والكتابة والفنون. فيما تحتلُّ ممارسةُ الرياضة، كنشاط صاخب ومبادِر، المقام الأول في هوايات الشبان. الشابات أكثر ميلاً إلى المكوث في المنزل، والمشاركة في الترفيه العائلي. فيما الشبان أكثر حضوراً في الفضاء العام. غالبية الشابات تفضل الأفلام العاطفية والاجتماعية، تتابع شؤون الصحة والجمال والأزياء، وتقرأ الشِّعرَ والروايات. في حين تتابع غالبية الشبان أخبارَ الرياضة والقضايا السياسية، وتفضل أفلامَ الأكشن والرعب والإباحية. حقائق مذهلة لكثرة ما هي متوقعة، وهذا في حد ذاته إضاءةٌ ومفصلٌ تُشكر عليهما الدراسة، التي توقفت أيضاً عند امتلاك المنازل المعاصرة الإمكانات التي توفرها الحواسيب، ومجالاتها الافتراضية المفتوحة. إذ تتوقع، وإن بحذر، أن يكون دَوَرانُ الشابات في فُلْك الاهتمامات المنمّطة، سمةَ مرحلةٍ وسيطة، يتم فيها التآلف مع التكنولوجيا الجديدة، قبل الانطلاق إلى سبر عوالِمها التي لا تعرف تمييزاً جندرياً. لكن، إذا فكّرنا، مثلاً، بمدونة «عايزة اتجوز»، للشابة المصرية غادة عبد العال، ومن بعدُ اقتباسها في مسلسل تلفزيوني، حيث انقلبت حتى الهمهمة الاحتجاجية الكوميدية - في وجه ضغط المجتمع على الفتيات ليتزوجن - إلى مطلبٍ من داخل رؤية مؤطَّرة نعرفها جميعاً... إذا فكّرنا بأن ظاهرة الإنترنت ما زالت تجدُ وظيفةً سانحة، للدعاة الدينيين، بل أحياناً لتجنيد الشباب في حركات متطرفة أصولية أو إرهابية، على سبيل المثال لا الحصر... هل يظل في إمكاننا المراهنة على التقدّم التكنولوجي لِلَيّ النّمَط والموروث؟ أتُوازنُ الإيجابيات المنتظرة هنا - وهي بالطبع موجودة - وطأة التربية التقليدية، والدِّين، ومفاهيم الإعلام السائد، والتشريعات التمييزية، والحياة السياسية العربية واللبنانية؟ أطرح هذا السؤال كشابة أيضاً، تصارع كل ذلك، يومياً. في دراسة ديب وحرب، يختلف جيل الشباب، في الضاحية الجنوبية اليوم، عن «الجيل الطليعي» الذي تمرّدَ على ما يوصف بالأهل «التقليديين» في السبعينيات والثمانينيات، تمهيداً لمأسسة ما أسمته الكاتبتان «الحركة الإسلامية الشيعية». وذلك، برأيهما، لأن المجتمع في الضاحية ككلّ، بلَغ مرحلة تقوىً منظّمٍ ومُهيمِن. ونرى، في الدراسة، أن أمهاتِ «الجيل الطليعي» يعبّرن عن قلقهن من أن بناتهن «أقل إيماناً» مما كنّ هنّ عليه في سنّهن. بناتُهنّ، لا أبناؤهنّ. وفي تناوله منطقَ عمل مختلف أمكنة الترفيه في الضاحية، يوحي البحث بأن زائرات المشهد هذا، هنّ الجديدات عليه، والمفاوِضات فيه، أكثر من زوّاره الذكور، لا سيما إذا ما عدنا لأخذ دراسة بيضون وهاشم في الاعتبار. بعض أصحاب تلك الأمكنة يلتزم، على مدار السنة، الأجواءَ «الشرعية» الملتصقة بالمنطقة، منذ عقدين أو أكثر، أي الموسيقى الهادئة والطاولات «العائلية» المتباعدة. غير أن أمكنةً عديدةً، في الضاحية، أضحت تؤمّن لزبائنها طاولاتٍ لشخصين، وزوايا غير مكشوفة، تتيح للشبان والشابات مساحاتٍ للحميمية والتلامس والغزل المتبادل. لعل للشابات، إذاً، الأثر الأكبر في دفع الحدود الجسدية قُدُماً. هنّ المحجبات، شكلاً ومضموناً. يسعين إلى توسيع معنى حجابهن، مستعيناتٍ بمرجعيات دينية مقبولة. وتقدّم تلك المرجعيات، في الوقت نفسه، تفسيراتٍ دينيةً أرحب (أعني هنا الفرق بين مرجعية السيد محمد حسين فضل الله وحزب الله). أما في دراسة نعمة، فإن الكاتبة تربط بين تبدلات الأزياء، والتحولات السياسية والثقافية والإيديولوجية. فحجاب جدّتِها وعمّتِها، الذي توارى بشكلٍ شبه تام في الستينيات، وفازت عليه ال«ميني جوب»، عاد وظهر في الثمانينيات، مصحوباً بلُغة جسدٍ أكثر عفوية - صحيح - لكنها أيضاً أكثر أدلجة كهوية جندرية. تتطرق نعمة إلى المظهر المتغيّر للشبان. تحكي، مثلاً، عن لحىً كانت، حين نهضة اليسار، تحاكي تشي غيفارا أو كارل ماركس، فصارت اليوم تقلَّدُ الأئمةَ والمشايخ. لكن جسد المرأة، بغوايته وأنوثته المفرطة، كما بسَترِه ونفيهِ، ظلّ مِسطَرةَ قياسِها ل»التطرف« الديني والحداثي، السياسي والاجتماعي، على حد سواء. وهذه فكرة ربما تحتمل الكثير من النقاش. غير أن المنحيين، كما تقول، يشطحان في تثمين جسد المرأة، بل في تقديمه كواجهة تعبير ثقافي معين. الثقافة الفرعية وبالعودة إلى مسألة الثقافة الفرعية، فإن قراءة كتاب «باحثات» الجديد، لا سيما تلك الدراسات الثلاث، أغرتني بسؤال أطرحه على نفسي وعليكم: إلى أي مدى، اليوم، تُعدُّ الممارسات الثقافية الشبابية فرعيةً بالكامل، أي ذات خصوصية تميزها عن ملاءة الثقافة المهيمنة؟ لعل مجرد التفكير في السؤال يستحضر الإيقاع الاستهلاكي المتزايد للحياة المعاصرة، في ظل العولمة، والأداء الإعلامي/الإعلاني عموماً، من جهة. ومن جهة ثانية، هناك ميل «مؤسسات السائد» إلى امتصاص الفرعي واحتوائه في مجراها. فكّرتُ في المؤسسات الدينية، الخلفية الثقافية لرأس المال العربي واللبناني واستثماره في الميديا، إضافة إلى الشركات المتعددة الجنسيات. خطرت لي، وأنا أقرأ، موسيقى ال«هيب هوب» التي ظهرت أولاً في البرونكس في نيويورك. إذ بدأت في عقد السبعينيات ك«صوت» لفئات أقل حظوة اجتماعية واقتصادية وسياسية. ثم، بعد سنوات، صادرت الفئات، المفترض أنها في مواجهتها، كمّاً كبيراً من نغمات وكلمات ال«هيب هوب»، لتغزلَها على تنويعاتٍ مختلفة جذرياً وأحياناً مُناقِضة. نرى ذلك في أغنيات «الرّاب« و«الراي» العربية أيضاً. في الدراسات الثلاث، ثمة ما ينبئنا بأن الشباب ما زالوا دون فعلِ الكسر، أو أقلُّه التحدّي الجدّي، لمنمَّطات وموروثات الهويات الجنسية والمناطقية والطائفية. أمر ما زلت، شخصياً، أشعر به في محيطي، وإن مع بعض الاستثناءات. تورد دراسة بيضون وهاشم، مثلاً، ان الفتيات اللبنانيات المسيحيات يتمتعن بقدرٍ أكبر من الاستقلالية عن الأهل، من الفتيات المسلمات، وبانفتاح أوسع على الثقافة الغربية من الثقافة الأم ولغتها، وباهتمام أقل بقراءة الكتب الدينية. يدلُّ هذا إلى نسقٍ شديد الألفة في السياق الثقافي اللبناني، رغم تطور وسائل الاتصال والترفيه. نسق، نادراً ما تُحدِثُ فيه الثقافة الشبابية الفرعية، راهناً، ما يزيد على كُوىً متفرقة، بدل أن تخترقَهُ أو تعيدَ صياغتَه بالكامل. دائماً هناك الفرعيُّ في قلبِ الثقافة الشبابية، بل في الممارسات الثقافية عموماً. لكن الشباب لا يبدون لي هم الفرعيين كتيار، كقوة. ولنا، كذلك، في الأحزاب، وازدهار حروبنا الشوارعية الصغيرة مؤخراً، أمثلةٌ كثيرة. هكذا، ورغم التغييرِ المثيرِ للاهتمام في الترفيه الشبابي في الضاحية، يبقى أن شبابَ هذا التغيير ما انفك يتحرك في مدار السلطة الدينية القائمة. يستند إلى فتاوى ومرجعيات، قد تكون أَلينَ في التعاطي مع الحياة اليومية. لكن هذا الشباب يفاوض تحت سقفها، يبتغي موافقتَها على كل شبرٍ ينتزعُه، أكثر من كونه يتمرّدُ عليها. تتحدث نعمة، مثلاً، عن نادية، ابنة مدينة صور، التي بادرت، في مستهل الخمسينيات، إلى نزع حجابها بدعمٍ من أبيها. وبزواجها من شاب قومي سوري صارت داعيةً إلى السفور. غير أن التطورَ السريع، وصعود الحركات اليسارية والقومية الأخرى، سرق من نادية دورَها النضالي، من دون أن يبخسَها حقَّها في الريادة. فإذا كانت نادية قد مثّلت، قبل نصف قرن، بذرةَ ثقافةٍ فرعية مناهضة للسائد، بَرعَمت لاحقاً بفعل جوٍّ سياسي صاعد، فماذا يمثّل السوادُ الأعظم من مغويات ومحجبات الألفية الثالثة، لبنانياً وعربياً؟ في المحصلة، إن كتاب «باحثات» الجديد يستحق كلَّ النقاش الذي سينالُه، ويجب أن ينالَه. فالشباب والثقافة موضوعان لا ينفصلان عن قضايا الديموقراطية والفرد، والتي غالباً ما تضيعُ مطالبُها -مطالبُنا فيها - بين سطورِ خطاب سياسي مُحنّط ومأزوم.