أسفرت التهاطلات المطرية الأخيرة عن موت أزيد من 30 ضحية، وعن إلحاق أضرار بليغة بمئات المساكن، وعن تكبد المهنيين خسائر مادية تقدر بملايير الدراهم. وإذا كانت مصلحة الأرصاد الجوية قد توقعت تحسن أحوال الطقس، فإن مختلف المؤشرات تدفع إلى توقع المزيد من الخسائر في الأرواح وفي الممتلكات. ويبقى السؤال المطروح بحدة هو: هل كان بالإمكان التخفيف من هول الخسائر أم أن ارتفاع معدل التساقطات المطرية يعتبر في حد ذاته مبررا كافيا للقبول بالأمر الواقع ، وانتظار من سيكون عليه الدور في المستقبل ليكون ضحية التقلبات المناخية التي يصعب تحديد حدتها وموعدها. إن الاستقراء الأولي للمعطيات المتوفرة يفرض التمييز بين الخسائر التي وقعت في المدار الحضاري، وبين تلك التي وقعت خارجه، كما يفرض التركيز على نوعية البنيات التحتية ومدى مساهمتها في الرفع من حجم الخسائر. فتساقط الأمطار بمعدلات وصلت إلى حوالي 200 ميلمتر في 24 ساعة ، ضاعف بالفعل المعدلات المعتاد تسجيلها خلال أشهر نونبر، ولكن الخسائر التي ترتبت عنها تفرض مساءلة كل مسؤول عن مدى قدرة البنيات التحتية التي أنجزها، أو سمح بإنجازها على تحمل مختلف المعيقات الطبيعية من أمطار ورياح وزلازل وما إلى ذلك. من الطبيعي أن نبدأ بالتساؤل عن الظروف التي تسببت في انقلاب الحافلة بين المحمدية وبوزنيقة وعن وفاة 24 من ركابها. هل كانت الحافلة متوفرة على الشروط القانونية التي تسمح لها بنقل العمال؟ هل كان السائق في وضعية قانونية؟ وهل كانت الطريق متوفرة على الإشارات المنبهة بوضوح لمخاطر استعمال الطريق؟ فما وقع إما أن يكون نتيجة عدم احترام مدونة السير وإما نتيجة خلل في البنيات التحتية وغياب علامات التشوير وإما نتيجة لاجتماع الخللين. نفس الشيء ينطبق على الضحايا الذين إما جرفتهم المياه أو هوت عليهم مساكنهم، فعندما يتعلق الأمر بحماية الأرواح البشرية لابد من تحديد المسؤوليات والامتثال لمنطق الأولويات. إن تهاطل حوالي 200 ميلمتر من مياه الأمطار في 24 ساعة أمر معتاد في الكثير من المدن الأوربية، ومع ذلك فإن حركة القطارات في هذه الدول لا تتوقف، كما أن حركة المرور بالطرق تخضع لتشوير خاص يؤمن بالوضوح التام التعرف على الطرق المقطوعة ، وعلى حدة الازدحام وكثافة الضباب وما إلى ذلك من المعلومات الضرورية لتأمين سلامة مستعملي الطريق. وحتى عندما يكون الوضع خطراً ، فإن الإنذار بذلك يكون مبكراً، فهل كانت طرق المغرب السيارة والطرق الوطنية مجهزة بالحد الأدنى من الإشارات المساعدة على تفادي مخاطر طرق غمرتها المياه وكثرت فيها ؟ وبالنسبة لما وقع في العاصمة الاقتصادية الدارالبيضاء يبدو من المفيد التذكير بأن شركة ليديك تمتاز بكونها متفرعة عن شركة فرنسية متعودة على تدبير المياه في العديد من المدن التي تتساقط فيها الأمطار بشكل مسترسل لمدد قد تزيد عن الأسبوع ، ويزيد فيها معدل التساقطات بكثير عن 200 ميلمتر في 24 ساعة. وبعد أن زادت مدة تدبيرها المفوض لصرف المياه عن عشر سنوات، صار من المفروض مساءلتها عن عجز البنيات التي أنجزتها في الدارالبيضاء عن تفادي الغرق، وعن تحديد مدى قدرة البنيات المتوفرة على استيعاب مياه الأمطار وأسباب حصرها في مستويات متدنية ، وفي نفس السياق صار من الضروري مساءلتها عن عدم استفادة العديد من الأحياء الشعبية من برامج تجديد الشبكة والعناية بها رغم أن السكان لا يعذرون عندما يتعلق الأمر بأداء الفاتورة. من نفس المنطلق تقتضي الضرورة مساءلة الشركة المكلفة بإنجاز مسار ميترو الدارالبيضاء عن دورها المحتمل في إغراق الدارالبيضاء وشل الحركة بها، فأوراش الحفر التي طالت أكثر من سنة، تجلت بعض عيوبها بفعل الأمطار حيث هوت العديد من الحفر التي تم ردمها وتزفيتها وكأنها صارت جاهزة للاستعمال. إن المغرب الذي يتحمل كلفة حماية وحدته الترابية وكلفة تحسين الوضع المعيشي بالمناطق التي كانت تصنف من قبل في خانة المغرب غير النافع، يراهن كثيراً على التطور الذي تحقق في مدنه الكبرى وعلى الدور المتنامي للقطاع الخاص، وهو وبعد أن تحمل بالأمس القريب كلفة الفيضان على مصفاة البترول سامير بالمحمدية وكلفة الفيصانات على المناطق الصناعية في كل من برشيد وطنجة، يجد نفسه اليوم مطالباً من جديد بتحمل كلفة التوقف عن العمل والدراسة طيلة يوم الثلاثاء بفعل البنيات التحتية الطرقية والسككية، وبفعل انقطاع التيار الكهربائي، ومطالباً كذلك بمواجهة تبعات غرق الدارالبيضاء التي لم تقتصر على المساكن والمناطق الصناعية بعين السبع وسيدي البرنوصي، وإنما شملت كذلك العديد من المؤسسات المتواجدة بمختلف الأحياء وخاصة منها المصحات والمقاولات التي تسربت المياه إلى طوابقها التحت أرضية، وأتلفت مولداتها الكهربائية وتجهيزاتها المتطورة باهظة الثمن، والتي يقتضي إصلاحها أو تعويضها انتظار فترات قد تزيد عن الشهر. فمن باب حماية الأرواح تقتضي الضرورة إعطاء الأولوية للمرضى الذين يحتاجون إلى عناية فائقة كما هو شأن مرضى الكلي ومرضى السرطان، ومن هم في حاجة ماسة إلى إجراء الفحوصات والعمليات الجراحية. إن المغرب الذي يعمل جادا من أجل التغلب على انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية لا يمكنه أن يراهن على شركات تجني الأرباح الطائلة دون أن تنجز المهام المنوطة بها على أحسن وجه، وقد آن الأوان لمحاسبة كل طرف على مدى وفائه بالتزاماته.